أقلام ثقافية

صديقي المطر ...

متى ستأتي؟

لماذا لا تبقى دائماً؟

ولماذا تغادر سريعاً؟

صديقي المطر لا يأتي إلا لأربعة شهور في السنة وبقية السنة أنتظره قرب شباكي الصغير، في الحر أفتقده كثيراً، وتحت أشعر الشمس الحارقة أتمنى حضوره، وحين تصبح الحياة حزينة أتمنى لو أنه يكون معي. صديقي لا يشاركني الكلمات ولكنني أشاركه كل أفكاري، صديقي صامت إلا من صوت قطراته المتساقطة بنعومة أو بغزارة على الأرض الرطبة، أبث له كل مشاعري وقصصي وحكاياتي لأنه صديق قديم منذ أن اكتشفت وجودي في الحياة، هو صديق طفولتي الوحيد والمُفضل لذلك أنتظره دائماً وأشتاق له دائماً وانتمي إليه أكثر من انتمائي للبشر.

نحن نعتقد أن العلاقات الوحيدة في حياة أي منا هي العلاقات مع البشر أو مع بعض الحيوانات ولكن الحقيقة هي أنه يمكن أن توجد علاقة مع كل شيء في الوجود حتى الجمادات، فحين يُعجبنا شيء ما في السوق نشعر فوراً اننا يجب أن نشتري هذا الشيء وكأن رابط خفي يجمعنا بهذا الجماد أو ذاك. حين نسير على شاطئ البحر بأقدامنا الحافية نشعر أننا كنا هنا منذ الأزل وسوف نبقى إلى الأبد، شيءٌ ما في البحر يُخبرنا بأنه بيتنا الثاني بعد الأرض وأننا ننتمي إليه بكل كياننا ووجداننا، حتى أننا حين تضيق بنا الأرض الصلبة نسارع بالذهاب إلى البحر كي ينقذنا من ثقل الأرض التي نسير عليها والتي تجثم أحياناً على صدورنا. حتى المدن والشوارع لنا علاقة معها، نشتاق لها، بل ربما نبكي بسبب ذلك الشوق وحين تختفي تلك المدن بسبب الحروب أو التغيير في البناء نشعر أن جزء من كياننا قد اختفى معها فلا تبقى سوى الذكريات تواسي شوقنا الذي لا ينطفئ.

الأماكن والبحار، المطر والثلج، الحدائق والأشجار، السماء والقمر، الشمس والنجوم جميعها تقدم صداقتها المجانية لنا، ولكنها صداقة متينة مخلصة صادقة وبريئة، وهي أول الشواهد التي حثنا القرآن الكريم على التأمل بها والتفكر كي ندرك عظمة  الخالق عبر هذا الجمال الإلهي الذي لا يذبل ولا تنتهي حدوده؛ ولأنها على اتصال عميق وباطني بأرواحنا، فالأشخاص الذين لا يمتلكون هذا الشعور تجاه الأماكن والأشياء يشعرون بذلك الفراغ الذي لا تفسير له في ذواتهم، لا يستطيعون أبداً تذوق السعادة الحقيقية في الحياة، فهناك بجانب كل سعادة خارجية لأي منا آتية من أسباب تدور حولنا، هناك سعادة داخلية لابد أن ترتبط بما يدور حولنا، فإن فُقد هذا الترابط لا تكتمل سعادة الإنسان أبداً وهو أحد العناصر التي تميز الإنسان عن الحيوان، ولذلك كان التأمل والتفكر أحد أركان العبادة لأنه لا يمكن الوصول إلى الإيمان الكامل دون أن يرتبط العالم الخارجي بأعماق النفس البشرية.

وهذا التعلق بالمطر أو الشمس أو القمر أو أي ظاهرة طبيعية أو مكان ما، هو ليس تعلق وهمي بل حقيقي وقد يغير مجرى حياة أي منا، فهناك من لا يستطيع أن يعيش دون المطر، وهناك من لا يستطيع أن يعيش دون أشعة الشمس وهناك من يموت إذا ابتعد عن البحر وهناك من يمرض حين يهاجر من بيته ووطنه، وهذه العلاقات أشد قوةً وصدقاً وديمومة من علاقتنا مع البشر، لأنها نقية طاهرة دافئة وترافقنا منذ ولادتنا حتى مماتنا. فصديقي المطر كان دائماً معي وأعلم أنه سيرافقني حتى آخر لحظة حياتي.

***

د. سناء ابو شرار

 

 

في المثقف اليوم