أقلام ثقافية

نصائح ماسيّة: نعمة الكتمان

وأنا أنبش وأتحرّى في أحد كتب تراثنا العربيّ العريق العتيد باحثا عن ضالّة ما تعينني على موضوعي الذي أكتبه؛ وجدت دُرّة نفيسة من درر الكلام لم أطلع عليها قبلا وهي مما قاله ابن الجوزي في كتابهِ "الأذكياء" إذ يقول ما نصّه:

(اكتم عن الناس ذهبَـك وذهابَـك ومذهبَـك)

وكم وددت ان لو كنت اطلعت عليها في شبيبتي قبل مشيبي لكنت علّقتها شارة في صدري ووسما لا يُمحى في ذاكرتي لتكون منهجا راسخا في حياتي.

أما المقصود في (ذهبَك) فتعني مما لديك من مال ونعيم يؤازرك في حياتك سواء قلّ ام كثر ؛ فان كان كثيرا فأنت معرّض للحسد او الطمع لأن كل ذي نعمةٍ محسود وقد تكون مستهدفا للسرقة والاحتيال عليك لأجل جعلك خالي الوفاض منه في غمضة عين، مثلما قال المتنبي عن قومٍ سرقت خيراتهم فجأةً بعد أن غزاهم الطامعون فافتقروا في غمضة عين حتى قبل الليلة وضحاها كما يقول المثَل العربي السائر:

وصبّحهمْ وبسْطهمُ حريرٌ *** ومسّاهمْ وبسطهمُ ترابُ

ولو كنتَ فقير الحال لا تملك إلاّ ما يسدّ رمقك او يقيم أودَك وربما معوزا، فأنت بهذه الحال كسير النفس، مستهان الشخصية يراك الناس بعين الشفقة والانكسار ورثاثة الحال ووضاعة الفقر.

أما المفردة الثانية (ذهابَك) فإنها تعني قيامك بعملٍ ما ومشروع في ذهنك تريد تحقيقه كأنْ تنوي الخوض في مشروع تجاري استثماري او تشييد بيت او تزويج أولادك، وهنا عليك ان تعمل بصمت وتخطط بما يرسمه عقلك وتتوكل على الله وعلى إرادتك وعزمك وأنت ساكت دون جهر وإعلان واستعراض لا داعي له.

يحدثنا التاريخ ان سيدنا يعقوب نصح ابنه يوسف قائلا له: لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا؛ مما يؤكد ان الأب المحزون هجسَ ان هؤلاء الأخوة الضالين وجّهوا عيونهم الحاسدة الحاقدة على أخيهم الوديع ولم يعبئوا حتى بدرجة القرابة الحميمية التي جمعتهم معا، رغم ان الحالة كانت مجرد رؤيا في عداد الأحلام .

فما نقوله لا يتعارض مع قول الله تعالى: وإما بنعمة ربّك فحدّث؛ فالحديث هنا ليس بمعنى التهريج بما عندك من مال وحلال والمباهاة امام الملأ بغناك وضياعك؛ انما أراد الله الواهب المعطي ان تشكره على نعمائه بينك وبينه وتوسع ما عندك على أهلك وتوهب عطاءك سرّاً لمن يستحق بالقدر المعقول الذي أباحك الواهب الكريم دون ايّ تبذير او المفاخرة والمباهاة مع الاعتدال في الملبس والمظهر والمأكل.

وفيما يتعلق بخصوص المفردة الثالثة "مذهبَك"، هنا عليك ان تكفّ لسانك عن اللغوّ بما ترى من وجهات النظر ولا تجهر علانيةً عما تحب وتكره وتروّج وعدم التشهير بقناعاتك الفكرية وآرائك، وإياك من الترويج لمفاهيمك ونشر نصائحك عيانا إلاّ اذا طلب أحدهم النصح والإرشاد منك عن صدقٍ وطيب خاطر؛ وكم ندم الكثير من العارفين على الكلام لمرّات عديدة لكنهم محال ان يندموا على الصمت ولا لمرة واحدة، وحاول ان تكبح جماح النفس التوّاقة الى إظهار وإعلان شهوة ما بداخلها من وجهات نظر؛ والإفصاح عنها زهواً ومفاخرة والكفّ عن إبداء نرجسيتها ولو كنت راجح الفكر مصيبا فيما تقول وتجهر حتى لو كنت على صواب في إبدائها.

حين ذاك ستتلافى الجدالات العقيمة غير النافعة وتزيل حالات الجفوة والخصام واختلاف وجهات النظر مما قد يؤدي الى إشاعة العداوة والبغضاء بين من تأتلف معهم وتُرخي حبال المودة والالتئام والمحبة مع الأطراف الأخرى.

حقا هناك الكثير من نفيس الكلام وجوامع الحِكَم والعبَر مبثوثة هنا وهناك في إرثنا الغنيّ بالكنوز، يعوزنا غائص حاذق يبحر في غوره ويصطاد دُررهِ لتغتني عقولنا ونفوسنا بثرائها، فما أكثر رحابة إرثنا الفكري السليم المُرشد وما أقلّ ما نجول به لاقتناص مباهجه ولمعانه وإشراقه ليضيء لنا دروب مستقبلنا.

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم