أقلام ثقافية

الشتاءُ كما لم نعرفهُ من قبل

النوافذُ تُنذرُ بقُدومِ الخطر!

تتساقَطُ الأوراقُ من أغصانِ الأشجار كالهُموم، تصولُ الرياحُ العاتيةُ وتجولُ في حَيّنا دون رَقيب، ما إن نخرجُ حتى تبدأُ بصَفعِ وجوهنا بقوة. تحوَّلَت نافذةُ غرفتي إلى لوحةٍ مُكتظّةٍ بالأصفرِ والبرتقالي، وامتلأت خزانَتي فجأةً بالكَنزاتِ الصوفية، الشتاءُ قادم.

في آخر أيامِ الخريفِ كنا أنا وإحدى صديقاتي المُغتربات جالسَتينِ في المقهى، نحتَسي القهوةَ اللاذعة ونتجاذَبُ أطراف الحديث، فبدأت صديقَتي كالعادة تشتَكي من دُنو موسمِ الشتاء. كانت لا تحبُّ الشتاءَ ولا تتقبَّلُ البردَ القارصَ الكنَدي، وكانت ترى أن الشتاء ضيفٌ ثقيلٌ غير مرحَّبٍ به، مَكروهٌ من الجميع. أما أنا فقد اعتَراني الصمتُ لبضعِ دقائق، كنتُ أنسجُ في راسي إجابةً فلسَفيةً بامتياز لأفحِمَ بها صديقَتي كالعادة. "إن الشتاءَ فصلٌ حياديٌ جدًا. " قلتُ وأنا أبتسم. عندها سألَتني بنبرةٍ تشي بالفُضول: "و ماذا يعني ذلكَ أيتها الكاتبةُ والمفكِّرةُ والفيلسوفةُ العظيمة؟" ابتسَمتُ وقد تَضَرَّجَ وجهي بحُمرةِ الخجل، ثم قلت: "إن الشتاءَ يا عزيزَتي ليس كباقي الفصول، هو فصلٌ يُضاعفُ الحالةَ والشُعور، يُعطينا المزيدَ مما نعيشهُ أو ما نحسُّ به. " " كيف ذلك؟" سألَت. "ببساطة... الشتاءُ يَزيدُنا، يزيدُنا من الخمرِ التي سَقانا بها القدَر. يَزيدُ الفقيرَ فقرًا ويُضاعفُ حاجتهُ إلى سَقفٍ ونارٍ ودفئ، يزيدُ الغَني غِنًا فوق غِناه، ويزيدُ المُمتنَّ امتنانًا تجاه ما يملك، فيتَضاعفُ مخزونُ امتنانِ المرءِ للِحافهِ الدافئِ وجدران بيتهِ العازلةِ للبَردِ وكوبِ الشاي الذي يَسري في جسدهِ ليبعثَ فيه نشوةَ الحرارةِ مُخالفًا أوامرَ المُحيط الخارِجي، هو نقمةُ الفقيرِ ونعمةُ الغَني، كائنٌ مُتعَدِّدُ الوجوهِ يحملُ مع رياحهِ شيئًا من النِفاق. إن الشتاءَ دائمًا ما يُحيي في أعماقنا مشاعرَ الحمدِ والشُكرِ والامتنان، وهو أيضًا يوقِظُ الاشتياقَ الهاجعَ في أعماقِ العُشّاق، ينفخُ رياحهُ الباردةَ على قلوبهم فيزيدهم احتياجًا إلى من يحبّون. في الشتاءِ تشعرُ اليدُ بألَمِ وحدَتها وترتجفُ الأصابعُ إثرَ زمهَريرِ الفراغِ الذي يتخلَّلُها، وهو أيضًا جُرعةٌ إضافيةٌ من الرومانسية بالنسبةِ لاؤلئكَ المَحظوظينَ في الحب. " سادَ الصمتُ برهةً، صمتٌ لا يقطعهُ سوى صوتُ مكائنِ القهوةِ وأحاديثِ الزبائن. كانت صديقَتي مُستغرقةً في نوبةِ تأمُّل، أو بالأحرى كانت تحاولُ هضمَ ما قلته. فأكمَلتُ حديثي قائلة: "الشتاءُ ليس كباقي الفُصول، فهو دكتاتوريٌ يفرضُ على المرءِ قوانينه غريبة." "مثل ارتداءِ مزيدٍ من الملابس." قالت بشيءٍ من السُخرية. "ليس هذا فقط، يستطيعُ الشتاءُ أن يعيدَنا أطفالاً في ثانيةٍ واحدة، يُحيي في داخلِنا ذلك الشغفَ الطفولي المُمتزجَ بالفُضول، فنعودُ فجأةً لمدِّ ألسنتِنا وتذوُّقِ حبّاتِ المطرِ والثَلج، غير مُبالينَ بمناهج البرستيج والاتيكيت أو بصورتنا أمام الآخرين. نلعبُ بكُرات الثلجِ ونصنعُ رجالَ الثلج كما لو أن الزمنَ قد توقَّفَ تمامًا، كأننا لم نكبر أبدًا." "يا لهُ من فصلٍ غريب." قالَت، فهزَزتُ رأسي مُبتسمة. عندَها سألَتني صديقَتي إن كنتُ أحبُّ الشتاء، فقلت: "لا أعرف... فمَشاعري تجاههُ مُتَضاربةٌ جدًا، مشاعري تعتمدُ على ما أعيشهُ في الوقتِ الراهن. فأنا أحبُّ الشتاءَ عندما أكونُ في المنزل، مع عائلَتي، برفقةِ من أحِب، أقرأُ كتابًا وأنا أتدثَّرُ ببطّانيةٍ صوفيةٍ وأحتَسي كوبًا من الشوكولاته الساخنة. أحبّهُ عندما أنظرُ إليهِ من نافذَتي وأسمعُ رُعودهُ بينما أكتبُ القصائد. أحبُّ الشتاءَ فقط عندما يكونُ الدفئُ خَيارًا مُتاحًا، لكنني أكرههُ عندما أرغَمُ على تَجَرُّعِ صَقيعه، يجبُ التعاملُ مع الكائناتِ الحياديةِ بحيادٍ تام."

***

بقلم مينا راضي

 

في المثقف اليوم