أقلام ثقافية

مآثر حنا

التخامر.. التخالط.. التداول.. سمات على ضفاف الوادي الذي يربض جريانه بين الصخور المستسلمة لهذيانه المختال نفسه انه حفار العطايا التي تتنفس منها تلك الحجيرات التي اسمتها الانفس بالصخور القاسية.. المتبلدة.. فتغلب الصفة على التسمية.. وبين ذاك وتلك وصمت بتلك المسماة الرقطاء.. التي يحسبونها حقيقة الأحجار الصغيرة المنادية بنجاتها من حفارها.. على مسارح تلك الضفاف العتيقة تقطن امرأة في النهار تجمع انواع النبات بقليلها وكثيرها.. وأي نبات يا ترى.. نبات تمحور على انواع الصخور مستنجدا من يأخذني تغذية لأبنائه.. من يتداوى ببركاتي.. ومن يفتك حفار المكبلين من عروقي.. وبين الفينة والأخرى تقتلع هذا النوع وغيره من النبات الذي اصبح ينتابه الحسرة والتذلل لحفار الأودية.. هي امرأة فتية الوجدان.. متجلية بالحياة في خضم أعشابها التي تحتويها من كل الأماكن.. ذكاؤها في تعاطيها لقطرات الوحدة.. وعنفوانها يرتشف من سنديانة الكلف لإنسانيتها.. تباهت بيتها الصغير متحملة شقاء المسافات وكم تبدو ملامح القناعة والسعادة الحامدة لما انعمها الله من الأعشاب والنبات المتهنية به.. فتطرق الباب طرقات الأمان المعزم.. فيفتح من تتوق لترتمي بين نجواه.. فيلتقطها بكل لمساته المحبوكة بخيوط الروع المدققة بنبضاته.. بعد دقائق استرسلت تريه أنبل النباتات ذاكرة انها ستبدأ بخلطها كالعسل المتدفق من الشهاب.. فأتمت معنى الترياق بكل خلطاتها.. حل الليل وأي ليل تعيشه هذه المرأة.. ليل يتوق اليها التضحيات.. ليل يربض نفسه نحوها بكل مظاهر الأسرار.. وكما كل ليلة واخرى تسمع طقطقة الأيدي المسرعة والمهرولة على الباب.. ففتح الباب من قبل زوجها المحتار أمام هذه الطقطقات المدوية.. فبرجل يلازم التنفس وينطق بكلمات غير مكتملة.. فانفرجت ملامحه لرؤيته الباب ينفتح.. فطلب منه مناداة زوجته.. كلكم ستعتقدون انها ربما ممرضة.. طبيبة.. فلكم مني من تكون سيدة الأعشاب التي اختاراها الدجى خدشا تكتب فيه ما ينفس عن كربها.. التي اسمتها عناصر البشر.. بالداية.. نعم هي الداية التي تمتص اعشابها بالنهار لتلتئم أنفاس ارسلت بحلي الخالق لخلقه.. الداية التي تتكئ على خطى اول الصرخات لملائكة احتمت بغصات الوجود في أرض النهاية وبموت البداية..

كانت بأشد لوعها بما تقدمة لأهل القرى.. وكان زوجها وما تسميه هي بأناي روحي.. يحترم قناعاتها و ما تفعله كلما نودي اليها.. الا ان الأمر اصبح يزعج أنفاسه الشجية.. ويبعد الراحة عن صدره.. فأصبح كثير السرحان بين السواقي على أطراف الغصون متأملا كم هي الجبال باسقة.. وكم هي السماء مرتفعة ارتفاعة السنديانة الشجية لقراها.. كان كالفكر أسيرا متوحدا في كينونات الارض باتجاهاتها الأربعة.. مستقصيا أمنياته وسط هذا الوجود الرامي لتجليات العصور والأساطير والملوك التي ومضت التاج ورحلت مستودعة نظم القصائد التي قيلت ومازالت كذكرى تحوم عليها حبات الطلع.. وتصاعد العناكب.. وهو يردد لكنها مازالت.. اعتلاه الحلم المقيد نحو خدوري زوجته.. وفي صباح يوم الثلاثاء.. كان الزوج منهمكا في عمله الذي يضفي جنونه الليلي جديدا واضحا.. هو سيد يصنع الشهاب من ملكات النحل.. الذي كلما ارتدى رداءه الأبيض شيع ليله أكثر فأكثر.. وبذلك الصباح نودي على زوجته.. الداية.. أن هناك سيدة حان اوانها لتلد ملاكا يذرف قصة جديدة على أرض سحيقة.. اذن من دق الباب كان زوجها.. فكان غير عادة الأزواج التي ترتعش رشفاتهم.. وتتعقد السنتهم.. أثناء ندائه.. كان رجلا بادية عليه صورة الحكيم الصامت.. فامتطت حذافر مشيه.. وبصبابة من بعيد أراها منزله الذي تدوي فيه صوت لا يريد ان يسمعه.. فكان الرجل كالطائر المقيد في قفصه.. ولكن أي قفص كان.. فهو ليس قفص انسان وضع فيه وانما قفص الأقدار الذي يتداخل فينا وفجأة يتنحى ليرى ما كنا فاعلين في حضرته.. ومن سنتبع في خطواتنا التي تئن وسط انزواءتها هي الاخرى.. وبمن ستغلى التضحية التي اسميتها.. نديمي.. أجل فمهما استطاب القدر بتضحياتنا ستبقى هي امنية رجل لم يضمحل من اثار القدح الذي ينام فوق مسانده الوردية الناعمة.. ومن لهاث السكينة الخرساء.. عجبا كل من الزوجين.. والرجل الغريب يقاضي من ليس له قاضي.. مكث الرجل فوق جذع شجرة محدقا بضباب الأوجاع التي برت أمسياته واحاطت بخرير مياه أجفانه.. وهو على تلك الحالة لمح زوج الداية ببذلته البيضاء وقناعه الواقي.. فمشى نحوه قائلا: فما حفيف أجنحتك لهو مسكر الاحزان يا سيدي.. فاستدار الزوج فكيف تحكم على حفيفي وأنت لا تدري ربوع ضجري المتألم ؟ فرد : الوصل لا يأتي لمن يخلو المنتصف في ما تبقى من مكاتيب الجنون.. فلاحظ الزوج أجفان الرجل ، وقال : هل تريد أن ترتدي لباسا أبيضا أريك كيف استبسل ستائر حفيف الأجنحة ؟ قال : نعم هب لي رداءا أبيض ربما ينصع ما بداخلي.. واذا به تتيه اجفانه بين صناديق النحل معظما يا الاهي ماهذا.. كل عاملة بشكلها وكل ملكة بما تأوي اليها عائلتها.. وكل ما ينتصب شكلها رائدا الحياة والبقاء.. فقال الزوج : وانا بقائي أشعر به وانا أساعد النحل على التكاثر والتجمع لتطيب الحياة لهم ويستطيب الروع الذي لا يهجع ابدا.. وبعد كل هاته الأشباح المسترسلة بينهما سأل الزوج : من تكون أنت يا سيدي ؟ قال : انا التضحية بما لا توفر موتها المحتوم في بداية حياة جديدة في الدقائق المسكونة الآن.. أنا أب أسمته الآلهة " الجدائل الأربعة " فأتيت الى الداية لتكتمل الجديلة المضحية.. ابتسم الزوج ابتسامة الهارب من الأصنام التي تريد أن يخضع لعبادته.. فخاطبه منددا : هل تظن أن تضحيتك تسري الأيام و المواطن المتألمة شيئا ؟ قال أجل.. وتجل الهدوء صمته بين سنابك المقاصد والرغائب.. اذن تضحيتك لأربع جدائل توهج الحياة معاني قصدية الشأن في فحواها وفحوى حياتك.. فهي جديرة بذلك بكل آهاتي السنون المتبقية نحو الفضاء العلوي و نفث الحرائق.. فما رأيت جدائلك يا سيدي ؟ فكان رده أوسم رد : انا أب لجدائل الصناديق الشهابية.. انا أبو النحل.. لا أبا.. انا ابو العقم الموصد بأنغام أعذب من همس الأنفس.. زوج لداية تحمل أشكال الملائكة وتنفث بقبلاتها على جبينها كل يوم وكل ساعات الاستسقاء من مواكب أمهات.. وعرائس أمهات.. وكومات أزهار أمهات.. وأنا لم أمنحها الأمومة الهاربة.. فقررت دموع الصبي الصغير الذي يتكوم بداخلي اختيار النحل.. ليتكاثر أمام أعيني.. وأعتني بملكتهم لتشعر بصغارها لأمد يقر النفس بالقناعة.. هنالك وقف الرجل أمام هالة الإنسان الذي ترتطم مجرته بتضحيات القدر به وفيه.. فارتعش بجماد سار بداخله بألف قدم فوق السهول والجبال..

يا نديم التضحيات.. فقال: عذرا اذهب للداية التي تترنم بملمح جديلتك التي أودعتها لك الأقدار.. واسألها: كيف تختلج أحلامكي المسقوفة في دجى العواصف ذارفة أسمى البدائل علينا ؟ وأنتي بين المناداة قاصفة خلطاتك الملتوية بوشاحي الجلود المستعصية..

كيف تزرعين حبات طلعي زوجك في جمجمته التي تسحق عبوره المسند على منكبيك.. وترتدين حرتقة زرقاء.. بنفسجية لتنهيداته المهووس بما لا يستطيع ان يحرر قيود المناوراة.. التي لا تتبعها عويل العساكر.. والشرطة.. بل خلود خطواتك الممزوجة بين كل انواع الملائكة.. الباكية.. الضاحكة.. فما قرحته لهي بلاء يصبر نسجه برحم الشهاب.. وما فتكات جبرانك لهي كبد الندى المضحي باضمحلال دجاه المترنم باحتواء حبات الطلع المتبدد.. فهمت الداية منصتة لجديلة القدر الناهي عن زوجها الحارس لما تتشبث اظافرها به.. فدمع الزوج وبللت طوقات نجاته خلية جدائلة.. فاحتضن الشاعر "الرجل " الزوج الذي طبقه القدر بمطرقة الحفر.. واهتف الشاعر: رباه الطف.. رباه اننا نناديك.. فلا مستجاب غيرك.. فردد الزوج هاتفا :وانت ايها الشاعر المتصوف بأشعار الجدائل المنتظرة.. ورحاب تضحياتك المتشوكة.. أي لباس أدخلته في صبا الجديلة الصامت عنها ؟ فأجابه: هي همس لا أدري كم نفثت بروحي.. آه يا سيد النحل لو تعلم توحدت بغياهبها.. تتستر بين حبات الرمل المسوف لعبير الغزوات.. بأقدام مخلفة تماثيل واطلال الحرمان.. لاجئا الى مأوى الخلجان.. أشعر بالمن وحمض الريق السجي.. فحدق الزوج بكل ما استغربت به عواطفه الملصقة على كينونات الشهاب.. أترى أيها الشاعر ما يفعل بنا عروش القدر فهي تبني قبور الأنفس بدون لحاف.. فهو جبار يتعربد بنا شمالا وجنوبا.. مشرقا ومغربا.. مثلما تأبى سريانيته العظيمة..

فمرت نظراته الخاطفة بين المدافن.. وكأنه يرمي بصبابته الى الفضاء المرتفع الذي يصحو لما يتدفق بين ما يقتضيه حفار الإلف ومشيئة الإله.. فصرنا نمشي في صحوة النار المتقدة جنبا لجنب لضفاف الوادي الماقص.. وبنا نصل الى المرقد الناعي لجدائلي.. وبه يسمع اصداء الثلوج الهينة بصياح مولول.. والزوج يمسك بمعصميه مرتسما ابتسامة لا تمر الى بلثمه.. قال :اسمعت يا شاعر الوادي.. هو صبي.. وما يطارده من عتم المروج المضرب على اجواق الملائكة التي تهواها مآثرنا.. بعد لحظات ظهرت الداية ذارفة اعتق قطرات الياسمين على وجنتيها.. اقتربت أنا مقبلة ما يملأه دما ودموعا.. وقلت: يا شاعر الأقدار مالك ستسميها؟ فبالمطر المنهمر على قرية الأصفهان.. فنطق ابو الجدائل: حنا..

نطقت الجدائل وهي تنتظر قدرها عند أباها:

كم عمرك يا أبتاه؟ هل لازلت تنتظر مجيئي بتلك الأماني؟ هل ستروي لي قصصا حتى أنام؟ هل ستمشط اسوداد شعري؟

فرد أحدهم: ما يستطيع الإجابة عن هذا الا من يلازمه شعور استوطن على أيامه..

الى كل أب انتظر أن تأتيه "حنا" لا قبلها ولا بعدها.. أنظر أيها الأب.. "حنا" موجودة حيث لا أحد.

***

سعاد أدري

 

في المثقف اليوم