أقلام ثقافية

الطالب تشيخوف وقصصه

اصبح تشيخوف طالبا في الكلية الطبية بجامعة موسكو عام 1880، وفي هذا العام نفسه بدأ بنشر قصصه القصيرة ايضا، وتخرّج في الكلية الطبية عام 1884، واصبح طبيبا ماهرا، و في الوقت نفسه اصبح ايضا كاتبا معروفا في عموم روسيا، فقد نشر خلال سنوات دراسته في الكليّة الطبية بجامعة موسكو الكثير من القصص القصيرة في مختلف الصحف والمجلات الروسية، ومع ذلك فانه كان يداوم بشكل منتظم ويؤدي واجبه الدراسي كما يجب، ونجح باستيعاب العلوم الطبية، وهي ظاهرة نادرة جدا، ويمكن القول انها لم  تحدث في تاريخ الادب الروسي لا سابقا ولا لاحقا، ونحاول في مقالتنا هذه ان نتكلم عن هذه الظاهرة  في مسيرة ابداع تشيخوف، اذ انها ظاهرة فريدة فعلا و تستحق الوقوف عندها وتأمّلها بعمق.

كانت حصيلة السنة الاولى في مجال نشر القصص متواضعة جدا، وهي في حدود عدة قصص ليس الا، اذ ان تشيخوف على ما يبدو لم يكن واثقا من نفسه في هذا المجال الادبي الجديد بالنسبة له، الا ان عدد القصص أخذ يتزايد بالتدريج، بعد ان فهم تشيخوف، انه يسير في الطريق الصحيح، الذي يتناغم وينسجم مع موهبته الادبية، ولا يتعارض في نفس الوقت مع واجباته الدراسية في الكليّة الطبية، وهكذا نشر تشيخوف اثناء سنوات دراسته الجامعية بين اعوام 1880 و 1884 اكثر من (200) قصة قصيرة ( منشورة حسب سنوات صدورها في المؤلفات الكاملة لتشيخوف بثلاثين مجلّدا، وهي المؤلفات التي صدرت في الربع الاخير من القرن العشرين وباشراف لجنة علمية مختصة)، وكانت اكثر السنوات انتاجا هي سنة 1883، اذ نشر تشيخوف فيها اكثر من مئة قصة، اي بمعدل قصة في كل ثلاثة الى اربعة ايام لا أكثر، (نكرر - يكتب قصة وهو يتابع واجباته الدراسية في الكلية الطبية)، واصبحت عدة قصص من تلك المرحلة المبكرة في ابداع تشيخوف معروفة ومشهورة لحد الان في روسيا وخارجها ايضا، اذ تم ترجمتها الى عشرات اللغات الاجنبية بما فيها طبعا لغتنا العربية، ومن بين هذه القصص، مثلا وليس تحديدا – (البدين و النحيف) و(نسى) و (المنتقم) و (موت موظف) و (رسالة الى جار عالم) و (فرحة) و..و..و..الخ...

نشر تشيخوف (11) قصة قصيرة عام 1880، واول تلك القصص كانت بعنوان (رسالة الى جار عالم)، والتي لازالت حيوية وتتعايش مع القراء حتى في روسيا المعاصرة اليوم، اذ يستخدمها مدرسو اللغة الروسية بالمدارس في تدريسهم، فيطلبون من التلاميذ ان يحددوا الاخطاء الواردة في تلك الرسالة، والتي تعمّد تشيخوف ان يذكرها في تلك القصة القصيرة تعبيرا عن المستوى الثقافي الواطئ لذلك الجار، وهو يكتب رسالته، وينفّذ التلاميذ هذا الواجب المدرسي بكل سرور وهم يقهقهون عند قراءة نص تلك القصة الطريفة .  لقد استطاع تشيخوف (وهو طالب بالصف الاول في كلية الطب بجامعة موسكو ليس الا !!!)، استطاع ان يعطي لنا قصة تحتوي على درس تطبيقي و (دائمي!) لتلاميذ المدارس الروسية في موضوع الاملاء، درس حيوي وباسم ومهم جدا، لانه يجعل التلاميذ تسخر وتقهقه من الاخطاء اللغوية الموجودة في تلك الرسالة، اي ان تشيخوف حوّل (الضحك !) الى اسلوب تربوي غير مباشر، اسلوب يصل تلقائيا الى قلوب التلاميذ رأسا، وبالتالي، الى عقولهم طبعا، ويعرف التربويون الاهمية الكبرى للاسلوب غير المباشر في ايصال المعلومة الى اذهان التلاميذ، وكيف ان تلك المعلومة في تلك الصيغة غير المباشرة تبقى راسخة في ذاكرة هؤلاء التلاميذ، لانها (... كالنقش على الحجر!) كما يقول مثلنا الشهير عن (العلم في الصغر. . .)

لا يمكن طبعا التوقف (حتى ولو قليلا) عند هذا العدد الكبير من القصص التي نشرها تشيخوف في مرحلة دراسته تلك، ولكننا نشير هنا فقط الى نموذج من تلك القصص ليس الا، ويكفي ان نتوقف عند قصة (موت موظف)، التي اصبحت مشهورة عالميا . تصوروا، قصة (موت موظف) كتبها تشيخوف وهو طالب في الكلية، هذه القصة التي تحوّلت في الوقت الحاضر الى رمز للانسان المسحوق في المجتمعات، حيث يشعر الانسان فيها بذنب لم يفعله، ويمكن لهذا الاحساس بالخوف ان يقضي حتى على حياته، كما حدث بالنسبة لذلك الشخص، الذي (عطس !!!) ليس الا، والذي مات في نهاية القصة خوفا من ذلك (الذنب !!!) . لقد رسم لنا هذا (الطالب!) لوحة مرحة  (لكنها تقطّر دمعا) لحالة انسانية لازالت تتكرر في الكثير من المجتمعات الانسانية، ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية مع الاسف ....

الا يستحق هذا (الطالب) ان نصفّق له تحية ؟ الا يستحق هذا (الطالب) ان يكون قدوة لنا جميعا ؟ الا يستحق هذا (الطالب) ان نقول له – شكرا يا انطون بافلوفيتش ؟ والاجابة عن كل هذه الاسئلة ستكون بكلمة واحدة لا اكثر، بكلمة نعم.. نعم.. نعم ... 

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم