أقلام ثقافية

نص لبغداد.. الورد ينمو جوار الحجر الصلد

أقفُ أمامَ واجهاتك كما لو كانت ذكرى منسيةً، أمامَك تسقط كلُ ذكريات الفتية وحقائبهم المدرسية التي تحمل أسرارهم وأحلامهم، الفتية الذين تعلموا في مدارسك وجودَك الإنساني المتسامي، ومقامَك العلمي الرفيع، وإرث أبنائك الباذخ في التفوق، ها أنا أَرثي مجدَك المضاع لأن الزمنَ لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة، فأيُ إرث هذا الذي تزمّين شفتيك كرهاً دون أن تموتي؟

يا أهلَ بغدادَ.. لم أعرف أنكم ستتضاءلون في زمن الحروب والجوع وسنوات القمع والتصفيات، يخاطب جواد سليم أبناءَ مدينته: لقد أودعت فيكم جداريتي وأعمالي الفنية ورسوماتي، يوم كانت مدينتكم عافية وخيراً في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان لدي إحساس أن حبَ بغداد لا يزول، ليس لدي شكٌ في المصير، أو خوفٌ من القدر، يوم اخترتُ مفترقَ طرق وسط بغداد، في قلبها النابض بحركة الناس والريح، كان مضجعُ أشجارٍ مزهوةٍ بإنوثتها وعبيرها، تسمى حديقة الأمة، شكّلت مع الجدارية نجمة مضيئة تشتاقها العيون في هدأة ليل، والورد ينمو جوار الحجر الصلد، يتفتح كالثغر.

كنا ندرك معنى الجدارية التي تصدرت الساحة الواسعة الفسيحة، نتقاسم معها الضوء والشوق المقيم فينا، حين كان هوى بغداد يأخذنا وبجمعنا.

عند (بنّاي) بائع الكتب في رصيف الساحة تتوقف أولى الخطوات، ومنه الى أول زقاق ندلف فيه نحو مقهى المعقّدين، مثقفو الستينات جعلوا المكان عالمهم الصغير أو جزءاً من حياتهم، وجدوا أنفسهم أمام امتحان عسير في مواجهة الدكتاتورية والآيديولوجية الشمولية، كيف السبيل الى الخلاص؟ ليس سوى (ليالي الأنس)، و(گاردينيا) ، و(برادايس) ، قبل أن يستلقي السهدُ ثقيلاً فوق العيون، فلا يبقي سوى اللوعةِ والغربةِ والتيهان والشوق الى أن يكبرَ الهم وتستشري عذابات الملاحقة والحصار المر، كنا في زورق تائه في دوامة البحر، جليل حيدر، وليد جمعة، حسين عجّة، فاضل عباس هادي، زهير الجزائري، شريف الربيعي، عارف علوان، ومئات من أمثالهم أغوتهم زرقة البحر، فأرسوا في مرافئ الغربة، وإن طالت لياليهم المعتمة، أو غالبهم الموج  والأعاصير يعيشون حسرة (الوطن)، الوطنِ الذي يجعل من أبنائه أسرى للقيود، يسحبهم الى حيثُ يشاءُ القاتل، فلا مفرّ لهم سوى الموت ميتة معجّلة.

في صباح شتوي غارق بضوء الشمس، كان القروي القادم من الجنوب برفقة أبيه لأول مرة يتجول في مدينة يعرف تاريخها، من خلال الكتب المدرسية ولا يعرف حاضرها، هي بغداد موطنُ الجمال الباذخ.

أصوات وأضواءٌ متناثرة تختلط مع بعضها، أضواءٌ ترقص مثلَ قهقهات الرجال المتواصلة، وأخرى  متقطعةٌ لمياه وَسطَ زجاج الأرگيلات، وضحكاتٌ عجلات (الربلات) وهي تتهادى أمامَ مقهى حسن عجمي، وقهقهة السوط يحركه الحوذي في الهواء، والهمسُ الخافتُ والخاطفُ لمصابيح العربات، وأمسياتٌ كانت تضحك في دعة.

على مقربة من المقهى كعك السيد، ويومَ ذاق طعم الكاهي أحسّ بعروقه ترقص، و عيونُ الشارع تنظرُ اليه، ما أطيبَ قوزي الشام في مطعم تاجران، وكبابَ الاخلاص في شارع المتنبي، رائحة الشواء تأخذ بتلابيبه، كان مع النهار على انتظار أن يشرب اللبن الزبادي بكأس مثلِ قارورةٍ أسرار مع الكيك الأرمني، في حانوت بُعيد خطوات من سينما علاء الدين بقليل، لقد أدمن المرورَ على هذه الأمكنة، يتطلع الى الشارعِ بمقاهيه وترفه من علو (الأمانة أم قاطين) وهي تمضي نحو النهايات بسكون ووقار.

تعال يا ولدي لاتضعْ دقيقةً واحدةً سأعرفك بالعاصمة، تعال  نمتطي صهوة طرقات باب الاغا، وسوقَ الصفافير، والمربعة، وننزل الى أزقة السنك، نغوص فيها نبحث عن شيء اسمه الرطوبةُ المختزن في الحجر، تعال انظر الى مقهى شط العرب، من أسفل ضفاف دجلة تراها كسيدة جميلة مدّت ذراعيها وجَمع غفير يرفع أذيال ثوبها لئلا يلوثه الطين.

لم يعلّم أحد الفتى القروي كيف ينادي على القهوة في مقهى البرازيلية، أو كيف يستخدم الشوكة مع السكين حين تسحره رائحة (الكبة حامض) في مطعم عمو الياس، مازال صغيراً على نداءات باعة (الاسكنجبيل)، يرى شوارع كثيرة، ويسمع حوارات، ينسى انه في محلات الاورزدي باك الفرنسية الأنيقة، موسيقى مثل سوسن في الماء، وروائح العطور طلاسم و رموز، مواسم الفرح المطل في ضحكات عابرة. حاذر: هناك عاشقان، ركن زهور، خصلات شعر ذهبية لبائعات تفتح صحو عينيك، ليت كل النساء عشن هنا!

بغداد التي تحلم، بغداد التي في صمتها تغضب، المدينة التي يستطيع المرء وصفها بسهولة، البعيدة المنال وهي بين يديك، تدعك تُلقي بنفسك على صدرها الحنون، تحتضنها بقوّة حتى تكاد أن تكتم أنفاسك...

أيها الناسُ دعوا أهلَ بغدادَ لا توقظوا من هاموا نائمين، فلربما جعلتهم الصدمةُ يسقطون من السدة الشرقية المقطعة الأوصال، ناموا يا أهل بغداد، فمدينتكم التي صنعتها أيدي الرجال تفيضُ، وتكبرُ وتشيخُ كقوى الطبيعة المخربة، ان الأياديَ التي في مقدورها الفعلُ لا تملك القوةَ على الحد من هذا الفيضان، اني أراها مرسومةً على كل وجه وداخلِ كلِ عربةٍ مكتظةٍ بالركاب، أراها في كل حائط ألمسهُ، وفي كل حجر مهدم.

هل يمكن للموتى أن يوقفوا انهياراً؟ انا لم أعد أرى للأشياء ظلالها المناسبة، ولم أعد أرى سلاماً في ظلال سعفِ النخيل، لم تعد المكتبات تُلحق بالمدارس، لكن ما بعد ذلك وما بعد الحدث والمكان أرى البذرةَ الخالدة ما زالت صالحةً كي تُزرعَ وتروى كي تزهرَ من جديد.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم