أقلام ثقافية

ديوان "بعد التحية والسلام".. رسائل معجونة بأوجاع الناس

عبد الرحمن الأبنودي (1938 -2015) واحد من أشهر شعراء القصيدة العامية في مصر والعالم العربي ولم تأت شهرته من عدد الجوائز التي حصل عليها وآخرها كانت جائزة الدولة التقديرية 2001 ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بتلك الجائزة الرفيعة، كذلك لم يكتسب شهرته من عدد القصائد المغناة من قبل كبار المطربين العرب منذ دخوله هذا الميدان عام 1967 في قصيدة (عدى النهار) التي غناها عبد الحليم ولحنها بليغ حمدي مرورا بأغنية (آه يا اسمراني اللون) للمطربة شادية وصولا الى اغنية (عيون القلب) لنجاة الصغيرة، كما لم يأت انتشاره من عدد اصداراته التي تخطت حاجز  العشرين كتابا توزع بين الشعر والسيرة انما تكمن شهرته وانتشاره في اجتهاده ونزوعه نحو الابتكار فهو شاعر مختلف في صياغة الجملة الشعرية وفي تجربته المليئة بالمفارقات، ويوجز سيرة الابنودي وطبيعة تجربته الابداعية الكاتب والصحفي محمد توفيق وذلك في كتابه (الخال) فيقول فيهما (مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.. هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض - وبعض الظن إثم - أن تقليده سهل وتكراره ممكن) . 

  ديوانه (بعد التحية والسلام) تجربة مختلفة، فيه افكار مبتكرة فهو عبارة عن مجموعة قصائد شعرية غير تقليدية جاءت في شكل رسائل متبادلة مع جواباتها مكتوبة باللهجة الصعيدية المصرية التي عُرف بها الابنودي وتناولت هذه الرسائل ــ القصائد ــ  مشاكل اجتماعية وسياسية كثيرة دأب الشاعر على كتابتها وبثها في منتصف ستينيات القرن الماضي من خلال الاذاعة المصرية ومن اجل ايصالها الى قلوب البسطاء من الشعب المصري فقد اختار الاذاعة وسيلة لذلك حيث لم يكن التلفزيون منتشرا في ذلك الوقت وفعلا حققت له هذه الرسائل جماهيرية واسعة وساهمت في عقد صلة حميمة له مع الجماهير المصرية .

ويعترف الابنودي ان شغله في هذا الديوان ضعيف وسطحي والقصائد ساذجة وانها مجرد عبث ويكشف عن ذلك في الاهداء الى ابنتيه (اية ونور) حيث يقول فيه (هكذا كان يعبث ابوكما الذي لم تكن له متعة سوى اللعب بالكلمات) واراه بوصفه هذا لم يكن منصفا لتجربته، فأشعار المجموعة رغم انها تمثل أوائل سنينه في كتابة الشعر لكنها كانت ناضجة ومستوفية فنيا وانطوت على افكار انسانية وثورية مبكرة ظهر فيها الانحياز الى الفئات الفقيرة والمهمشة واضحا وبالإمكان ان تكتشف ذلك من خلال مطالعتك لعناوين القصائد (من عامل جمع الحروف الى المطبعة) (من زنجي فقير الى تمثال الحرية) (من مريضة بالمستشفى الى الشخص الذي اعطاها دمه) وكم كبير اخر من العناوين التي تفصح عن هم انساني كبير شغل اهتمام وتجربة الابنودي، وأجمل شيء في " بعد التحية والسلام" هي فكرة الرسائل والجوابات سواء المبعوثة من الانسان او الحيوان او الجماد فقد كان يتبنى فيها مجموعة قيم انسانية وقد نجح في توصيلها والدفاع عنها فمثلا قصيدة (من قطة في شقة إلى قطة على سلالم الخدم) تدور احداثها حول قطتين احدهما تعيش نظيفة وتنام على فراش وثير في قصر كبير تبعث برسالة الى قطة اخرى تراها كل يوم واقفة على السلالم خارج القصر فتقول (أختي العزيزة اللي ما باعرفش اسمها / لكن باشوفها اليوم بحالة قصادي على السلم / بعد التحية والسلام / حقيقي والله باحسدك / يمكن في دي ما تصدقيش / حالتي المادية كويسة / وعيشتي عال / ان قلت اى / تلقى الجميع حواليا يجري / والف دكتور جاي حداي / وبأنام على فراش وثير / بيغسلوا شعري بكلونيا / وألبس فينوكات من حرير / عايشة ف نعيم .. لكنه سجن / وانتي حرة وملك نفسك صدقيني / نعيمي سجن / لكن انتي منطلقة في حياتك يا صديقتي الطيبة / صحيح يا اختي مظهرك مظهر فقير / وصحيح بتشقي لأجل عظمة / اطفال تطاردك .. والخدم .. والبوابين / لكن باشوفك في النهاية قطة حرة) .

القصيدة طويلة وتضم مشاعر واسئلة متعددة ومن الواضح انها تتناول قيمة الحرية والنظرة اليها من زوايا طبقية مختلفة فالمكتوي بجمرة الفقر والجوع والتشرد يراها غير ما يراها الغارق بنعيمها حيث تكتمل هذه الصورة بعد قراءة الرد من القطة التي على السلالم حيث تدعو صديقتها قطة القصر الى التمرد على واقعها والالتحاق بحياة القطط الفقيرة ان كانت صادقة حقا فيما تقول (طيب خلاص / تعالي إبقي معانا حرة في رحلة الألم / بدال ما قاعدة تنزفي حسرة وندم / بخطوتين على القدم / تبقي معانا حرة فوق سلالم الخدم / ايه؟ قلتي ايه؟ / بدال ما قاعدة من ورا الستاير الحرير متمددة / وبابتسامتك المتنكدة / لكن انا متأكدة / انه اذا حاولنا ناخذك عندنا / لو احنا جينا عندكم / حتدافعي عن هذا المكان للموت .. كلام / حرية قال .. / ماباكلش انا من الكلام ده صدقي / فخبرة المرتاح هناك .. غير خبرة الشقي / وبافهم الحرية غير كده / بافهمها لقمة كريمة .. بيت طيب .. دفا / تنفعنا ايه كلمة تمجد الوقوف تحت المطر / طالعة لنا من تحت الغطة والألحفة .. ؟)

في هذا الحوار اللطيف بين القطتين يطرح الابنودي هموم الفقراء والمهمشين واحلامهم المشروعة في العيش الكريم والحرية وهذا الطروحات ليست مجرد اقوال على الورق انما هي مواقف ثابتة تبناها الابنودي ودافع عنها ففي حواره مع الرئيس مبارك الذي امتد لساعات، طلب منه الابنودي إتاحة المزيد من الحريات في مصر، فرد مبارك " أنا لو ادّيت الديمقراطية بالشكل اللى أنت بتقوله، مش هعرف أحكم، أديك شايف حال البلد." .

في قصيدة (من مريضة بالمستشفى الى الشخص الذي اعطاها دمه) يكشف عن جمال الانسانية بين البشر فالمريضة " حسنية عزمي " تصحو من غيبوبتها فتجد هناك متبرعا لها بقنينة دم مثبت اسمه وعنوانه في طبلة المريضة فتبعث له برسالة تشكره على موقفه الانساني الذي ساهم بإنقاذها من مرضها الخطير فتكتشف في الجواب الذي يرد اليها من المتبرع ان ما قام به هو مأساة انسانية فقد كانت مبادرته من اجل الحصول على المال مقابل الدم الذي يبيعه الى ادارة المستشفى  ويوضح لها اسباب ذلك (انا أصله معيشتي كده / زي ما تقولي تعباتي شوية /  لكن ــ كده ــ زي ما تقولي الصحة مهاوداني / فانا دايما ابيع دمي للمستشفى / أكل من حقه .. وأهو على قولك / برضه الناس تشفى / باروح .. واكشف نفس الكشفة / وامد ذراعي ياخذوا الدم / واقبض .. قوم اشتري لحمة)  .

يؤكد عبد الرحمن الابنودي في ديوانه " بعد التحية والسلام " انه شاعر انساني ووطني وقف مع شباب مصر الحر في ثورتهم كما سبق له ان أهدى قصيدته " ضحكة المساجين " لمعتقلي الرأي وجميع المناضلين من أجل حريتهم التي هتف فيها قائلا:

طوبى لكل المسجونين باطل

في زمن .. بيخدعنا وبيماطل

ياشموس بتبرق في غرف عتمين

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم