أقلام ثقافية

الناس كما هم، لا كما ترغب..

يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة* في قصيد له بعنوان رتق الهواء:

"ظلمتُ الناس والأشياء والحياة

هؤلاء كانوا شيئاً آخر

غير ما ظننتُ وما أمِلتُ..

وكان عليَّ أن أعرف ذلك..

كان عليَّ أن أعرفهم كما هم،

لا كما أرغب.."

فعلا قد نأمل في الحياة و في الناس فنحيطهم بهالة هي مجرد أوهام من صنعنا، ننساق وراء أوهامنا ونحن لا نعي بأننا نفعل.

أحيانا يسلط علينا من التشويش ما قد يربك وعينا فيجعلنا نتخيل ونحن نعتقد أننا ندرك.

المتخيل يعني كل ما هو ليس واقعا متعينا، هو ما لا وجود له إلا في الذهن أي أنه عمل محض للمخيلة.

هذا التعميم لا يلغي علاقة المتخيل بالواقع ولا ينفيها. لكنه يمزج الواقع المحول ذهنياً بالصور، بكثير من الظنون والشبهات وأنواع المحاكاة.

علاقة الأنا بالآخر هي مسرح عمل المتخيل، ولحظة تقاطعه مع الواقع.

كم من المواقف نعيشها في علاقتنا بالآخر، لندرك في لحظة ما، أن كل ما اعتقدناه كان محض تخيل.

كثيرا ما تزيف لنا عقولنا وعواطفنا حقيقة أحداث أو مشاهد أو أشخاص فنقوم بصياغتها وفق أهوائنا ورغباتنا طمعا مشروعا في العواقب الحميدة الناجمة عن تلك الحقيقة.

يحدث أن يقع الواحد منا في خديعة تقييمه وانطباعاته الشخصية فيتخيل أن ما يراه في لحظة ما، هو الحقيقة (على نسبيتها) في حين أنه  مجرد تصورات لا تمت للواقع بأي صلة.

ونحن نقرأ ما يقوله نيتشة في أنه"أحياناً لا يرغبُ الناسُ في سماع الحقيقةِ، لأنّهم لا يريدون رؤيةَ أوهامهم تتحطّم" نستطيع أن نفهم أن أوهامنا تشكل منطقة الراحة التي يستطاب فيها العيش وأن تعرية هذه الأوهام هو بمثابة مغادرة الشعور بالأمان، بالإطمئنان.

هذا الشعور  يشكل دائرة مزيفة تعبّر عن الحالة التي يعيشها الواحد منا بلا توتر أو خطر، بسبب اعتياده عليها. ينتج عن هذا التعود تكيّف ذهني يعطي الشخص شعورا غير واقعي بالراحة.

هذا التكيف يصاحبه استسلام للوهم حتى وإن كانت كل المؤشرات تدل على نقيضه.

الخلاص من الوهم يكون في اللحظة الفارقة التي تتفطن فيها إلى أن ما كنت تعتقده حقيقة هو مجرد إنطباعات عقلية نتاج وقائع وظروف هُيِّئَتْ لك تسببت كلها أو بعضها في تأخير تفطنك..لحظة تعي من خلالها أن كل ما كنت تظنه صدقا، لم يكن جزءا أصيلا من المشهد.

للوهم زمن وللخلاص منه ثمن. قد يطول زمن الوهم أو يقصر حسب اختلاف شخصية الفرد وطباعه ومن حيث مدى سرعة تلقفه للإشارات من حوله.

هناك من يحيا ويقضى وهو واهم.. وهناك من لا تطول به الريبة فيستفيق من سباته العميق على حقيقة، قد تكون مرة.

أما ثمن الخلاص من الوهم فقد يكون غاليا..قد ندفعه من صحتنا وتوازننا، خاصة إذا كان البون شاسعا بين ما خلناه حقيقة وبين الحقيقة.

صحيح أن الإنسان ضحية وهمه ولكنه من جهة أخرى هو متواطئ مع هذا الوهم عندما يرفض التحرر منه. فـ"الوهم يسجن الإنسان في المظاهر" كما يقول أفلاطون. هو سجن لا يغير المكوث بين جدرانه شيئا من  الواقع.

بالنهاية الناس هم الناس والعالم هو العالم، وليس بالضرورة، ما نرغب في أن يكون.

عقب الاستفاقة من أوهامه، يعتبر الطريق الوحيد الذي يتوجب على الفرد أن يسلكه  للخلاص من الآثار المؤلمة، هو طريق النسيان.

في اللحظة التي يكتشف فيها أن ما كان يعتقده، فيما يتعلق بالحياة ..بالعلاقات، لم يكن سوى مجرد تخيلات، عليه أن يحسم أمره ..أن يغادر الدائرة التي تعود أن يسجن نفسه فيها رغم زيفها، عليه أن يلملم نفسه وينسى ما كان.

إن العبور إلى ضفة النسيان طريقه شاق، محفوف بكثير من الوجع والأرق والدموع إلا أنه من المهم جدا أن يتم الاختيار بين معانقة الألم وبين طي صفحته..طي الصفحة هو ما يمكن الواحد منا من الوصول إلى سماع صدى صوته..ملاقاة نفسه والاحتفاء بعودتها.

يقول المعلم الروحي الهندي 'المهاتما غاندي'  "النسيان لا يأتي إليك، أنت من يجب أن تذهب إليه."

***

درصاف بندحر - تونس

.................

* وديع سعادة: شاعر لبناني من مواليد 1948 في قرية شبطين شمال لبنان. ترجمت بعض أعماله إلى الألمانية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، ويعد ّمن أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي.

ويعيش في مدينة سيدني – استراليا منذ السبعينات

 

في المثقف اليوم