أقلام ثقافية

القراءة ضرورة فكريّة

في كتابه (ساعات بين الكُتب) يتساءل (العقاد) عن دوافعنا للقراءة، فيقول:

" وقد يسأل بعض السائلين في هذا العصر الذي أصبح فيه السؤال هو كل الفلسفة وكل الجواب: ولماذا نقرأ ولماذا نتثقف ولماذا نطّلع على الأشعار أو على غير الأشعار؟

لماذا؟ إي والله لماذا ؟ " ويضيف العقاد قائلا:

" إن أحدًا في الدنيا لا يترك أكل الطعام وشرب الماء وينتظر ريثما يقول له القائلون لماذا يأكل ولماذا يشرب.. فهو يأكل ويشرب لأنه يحسّ في جسمه الجوع والعطش لا لأن أحدًا فسّر له علّة الأكل وعلّة الشراب، ولو أن الذي يسأل لماذا يقرأ ولماذا يتثقّف كانت له نفس تجوع كما يجوع جسمه لاستغنى عن سؤاله وأقبل على موائد الثقافة غير منتظر جواب ذلك السؤال. فمن كان يسأل الناس على هذا النحو فخير له وللناس ألا يجاب، لأنه لا يستفيد مما يسمع ولا يستحق مؤونة الجواب ".

مسالة القراءة في البلاد العربيّة في عصرنا الحاضر، تحوّلت إلى إشكالية عويصة، تحتاج إلى معالجة فوريّة ومنطقية وحاسمة وهادفة. ولكن، قبل الشروع في العلاج الناجع لهذه الظاهرة الثقافيّة المرضيّة، لا بد من تشريحها لمعرفة أسبابها ومعالمها ودوائها المناسب.

نحن أمّة اقرأ التي لا تقرأ. أليس هذا من قبيل العجب العجاب ؟ بلى، إنّه لكذلك. لقد أمرنا الله تعالى في مستهل تنزيله الحكيم بالقراءة قبل تطبيق أركان الدين الحنيف وأداء فروض العبادات. لأنّ العلم هو مفتاح الكون، وهو الوسيلة والغاية في آن واحد. فكان العلم أسبق من الدين، ثم صار طلب العلم عبادة مقدّسة.

ولو عدنا إلى الإحصائيات العالمية حول نسبة المقروئيّة في البلاد العربيّة، لأصابنا الذهول من وضعنا الثقافي المتردّي، ومرتبتنا التعليميّة المتأخرة عن الكثير من الأمم في الشمال والجنوب.

“وجاء في تقرير التنمية البشرية، الذي نشرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو” عام 2003، أن المواطن العربي يقرأ في السنة أقل من كتاب بكثير، فكل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة.

وفي تغريدة للدكتور محمود الضبع وهو دكتور متخصص في الدراسات الثقافية، بكلية الآداب، بجامعة السويس، يقول، أنّ نسب القراءة في الوطن العربي لا تزيد عن واحد بالمائة مما يحدث في العالم. وبشكل أكثر دقة، 20 عربيّا يقرأ كتابا في السنة، في مقابل فرد واحد يقرأ 07 كتب في السنة في فرنسا مثلا.." لكن دراسة رصينة في 2016، شارك فيها أكثر من 145 ألف مواطن عربيّ من كافة أنحاء الوطن العربي تشير أن متوسط قراءة المواطن العربي هو 16 كتابا في السنة.

جاء في مقال لفضيلة الفاروق بعنوان " ملوك القراءة في الهند " ما يلي: ”

" لتسقط تلك النظرية التي نحملها في رؤوسنا منذ دهر على أن أكثر الشعوب قراءة تتواجد في الغرب، إذ إن أكثر نسبة قراء متواجدة في القارة الآسيوية، تتربع فيها الهند على عرش القراءة بامتياز، بنسبة 10 ساعات و42 دقيقة أسبوعياً للفرد، تليها تايلاند بنسبة 9 ساعات و30 دقيقة أسبوعياً، فالصين، فالفلبين، ثم مصر في المرتبة الخامسة عالمياً، تليها الجمهورية التشيكية، فروسيا، ثم تأتي السويد في المرتبة الثامنة لتتصدّر قائمة الدول الأوروبية القارئة تليها مباشرة فرنساً، في المرتبة العاشرة تأتي السعودية والمجر بنسبة متساوية 6 ساعات و48 دقيقة أسبوعياً، وفي المرتبة 21 الولايات المتحدة وألمانيا بنفس النسبة 5 ساعات و42 دقيقة.. والمثير للغرابة أن لا دول عربية في أفق الإحصائيات على سلم يضم ثلاثين دولة سوى مصر والسعودية..") من مقال (ما هي نسب القراءة في الوطن العربي؟ ليونس بن عمارة. 14 / 03 / 2022)

ومهما تكن الإحصائيات دقيقة أو مشكوكا في دقتها، فإن الثابت، أنّ المقروئية في الوطن العربي ضعيفة، بالمقارنة من دول ومجتمعات أخرى في الغرب الليبيرالي وفي آسيا الشرقيّة. بينما كان العرب الأسلاف روادا في القراءة والتأليف والترجمة بداية من القرن الثاني الهجري حتى سقوط غرناطة. أي (القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي). وقد عرفت فترات خلافتهم العباسية وحكمهم في الأندلس ووقوعهم تحت الحماية العثمانيّة، عرفت ازدهارا فكريّا وثقافيّا وأدبيّا. وشُيّدت خلال تلك الحقب مكتبات ضخمة ؛ في بغداد والقاهرة ودمشق ومدن المغرب العربي الكبير وقرطبة وغرناطة وإشبيلية ومعظم الحواضر الأندلسيّة.

إنّ نسبة عزوف القاريء العربي عن الكتاب، تعبّر عن أزمة عميقة أصابت العقل العربي المعاصر في الصميم. هذا الكتاب، الذي يعتبر خير جليس في الأنام، كما جاء على ألسنة الحكماء العرب القدامى. لم يعد كذلك في هذا العصر المادي المتوحش. ولعلّ راجع إلى أسباب موضوعيّة وذاتيّة، منها: طغيان الزمن الرقمي على حياة الفرد اليوميّة، حيث سيطرت مواقع النت والتواصل الاجتماعي المختلفة على يوميات الإنسان العربي، الذكر والأنثى على حدّ سواء؛ الموظف الإداري والأستاذ والطالب والبطّال والمتقاعد. فقد أصبح يقضي جلّ وقته في تصفّح صفحاتها الإخباريّة والرياضيّة العامرة بالإشاعات الكاذبة، والصفحات الهزلية الهزيلة. ليت القاريء العربي استغلّ التكنولوجيّة الرقميّة في تنميّة مهاراته الذهنيّة وإثراء ثقافته وتحصين هويّته.عندما عزف عن الكتاب الورقي.

لقد رأيت في معارض الكتاب في بلدي (الجزائر)، تهافت فئة من القرّاء، أو التجار على الكتب الدينيّة، لغرض في نفس يعقوب ؛ ربّما لمطالعتها أو لإعادة بيعها بأثمان مربحة. ورأيت كيف كان الزائر يمر على الكتب الأدبيّة المعروضة مرور الكرام واللامبالاة. يحملق فيها بعينين ذابلتين، ويلمسها بحذر، وقد يتناول كتابا، فيقرأ منه جملة أو جملتين، أو يكتفي بقراءة العنوان، ويسأل العارض عن ثمنه، ثم ينصرف..

كما ساهم الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع في ركود الكتاب وضعف نسب المقروئية. فقد اختفت الصفحات الثقافية من معظم الجرائد اليوميّة، وحلّت محلّها صفحات الإشهار والرياضة والوفيات والأبراج. ونادرا ما نشاهد حصة ثقافيّة متلفزة، يناقش فيه النقاد الإصدارات الأدبيّة الجديدة في الموسم الثقافي الجديد. أصبحت المكتبات شبه مهجورة من القراء الفعليين. بل إنّ بعضها قد أخذت مسارا آخر غير المسار المنوط بها، والغاية المرجوة منها، ألا وهي الثقافة والفكر.

إنّ القراءة سلوك حضاريّ راسخ وفلسفة تربويّ مكتسبة – أوّلا - من المجتمع الأسري منذ الصغر. فإذا كان أفراد الأسرة؛ (الأم والأب)، لا تمارسون فعل القراءة، ولا تمتلك الأسرة مكتبة أو شبهها على رفوف البيت، ولا تشجّع أبناءها على القراءة، ولا تخصّص من مصروفها الشهري نصيبا من المال لأجل اقتناء الكتاب، غير المدرسي، أي الكتاب الثقافي؛ الأدبي والعلمي، فلن تقوم للقارئء قائمة أبدا.. ومعنى هذا، إنّ المنطق العقلي يقتضي بذل جهد أسريّ فعّال لترسيخ ملكة الممارسة الثقافيّة اليوميّة في حياة الناشئة، لتحقيق الغاية، ألا وهي خلق مجتمع حريص على المقروئية النافعة.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم