أقلام ثقافية

خالد في الغابة

لطالما اثارت في نفوسنا قصة (خالد في الغابة) الكثير من مشاعر الخوف الممزوجة بالفضول، والقصة التي وردت ضمن دروس القراءة في المرحلة الابتدائية نجحت مبكرا في اطلاق العنان لمخيلتنا وتساؤلاتنا، فمفردات امثال غابة وحيوانات واسد كانت جديدة علينا، ومما زاد دهشتنا هي تلك الاجواء الغامضة التي كشفتها الرسمة المصاحبة للقصة والتي تسببت بإثارة الرعب في قلوبنا  خاصة ونحن لم نزل اطفالا ونصدق كل ما نقرأه أو نسمعه،  وكنا غير قادرين لاستيعاب فكرة اقتحام ولد صغير  لعالم الغابة المتوحش والوقوف بكل هدوء وجرأة وسط مجموعة من اشرس الحيوانات واكثرها فتكا بالإنسان والغريب ان تلك الوحوش تقف هادئة متفرجة دون ان تفترس (خالدا) بل تستقبله وتبادله نظرات الاعجاب!!.

والقصة التي تعاطفنا مع بطلها في وقت مبكر من دراستنا، صارت من اكثر الحكايات التي علقت في ذاكرتنا لكونها كانت اول قصة خدعتنا وزورت الحقائق مبكرا من دون قصد طبعا، اذ اننا لما كبرنا ونضجنا، اكتشفنا ان الطفل (خالد) الوديع وعديم الحيلة، والذي يرتدي بجامة النوم المشطبة المعروفة بـ(البازة) هو غير خالد الذي رأيناه في ارض الواقع!!.

لقد اكتشفنا ان خالدا في حقيقته لم يكن ذاك الطفل البريء، والمسالم بل كان شخصا انتهازيا ودنيئا وغليظا خاصة وأنه في الاصل لديه استعداد وراثي للشر اذ تتوزع المئات من أتعس الجينات المنحرفة في كروموسوماته والبالغ عددها (40) مما يجعله يتصرف كشيطون صغير، وهو دخل الغابة مبكرا ليكتسب كل الطباع الحيوانية السيئة، فأخذ من الثعالب مكرها وخداعها، وتعلم من الافاعي والحيات الغدر والتلون، ورضع مع السباع والهوام الغرور والجشع والشراهة، ومن الجمل شرب الحقد والبغض، ومن الضباع وبنات آوى تغذى الحقارة والدناءة، ومع كل هذه الطباع صارت نفسه حقيرة، بغيضة، دونية، خبيثة، مفسدة، ليس همها إلا نيل شهوتها، وامسى خالد لا يستحى من قبيح، ينظر نظر الحسود ويعرض اعراض الحقود، حتى ان الشاعر ابن الرومي أفرد له  قصيدة يهجو فيها: 

ما كرَّم اللّه بني آدمٍ

إذ كان أمْسى منهمُ خالدُ

*

واللّه لو أنَّهم خُلِّدوا

حتى يبيد الأبد الآبدُ

*

وسُخِّرَ البرُّ لهمْ مركَباً

والبحرُ أنَّى قصد القاصِدُ

*

ودوَّخُوا الجنَّ فدانتْ لهمْ

وأذعن العِفْريتُ والماردُ

*

وأصبح الدهرُ حفيّاً بهم

كأنه من برِّه والدُ

*

واستوت الأقدار في خُطَّةٍ

فليس محسودٌ ولا حاسدُ

*

ولم يكن داءٌ ولا عاهةٌ

فالعيش صافٍ شرْبُهُ بارِدُ

*

ودامت الدنيا لهم غضّةً

كأنها جارية ناهدُ

*

ما كُلِّفوا الشكر وقد ضمهم

وخالدُ اللْؤمِ أبٌ واحدُ

لقد تم خداعنا بتلك القصة حينما صورت لنا ان العالم وردي بينما نحن نعيش في غابة تعج بالكواسر والوحوش، وبالطبع فان خالدا واحدا من اسوأ تلك الوحوش والعنها !!.

***

د. محمد علي شاحوذ \ بغداد

في المثقف اليوم