أقلام ثقافية

اللغةَ اللغةَ في كتاباتِنا معشرَ الكتاب

عَلّي أبْتدِئُ فأقولُ: إنَّه لَمِنَ الغرابةِ أنْ نجدَ اللحْنَ في اللغةِ، أو الخروجَ على ضوابِطِها، ظاهرةً لا يَعْبَأُ بها بعضُ الكُتّابِ في عالمِ اليومِ، كما قد يُلاحَظُ  في كتاباتٍ تزخرُ بها بعضُ صفحاتِ المجلاتِ والمدوناتِ الالكترونية.

وإنّي لأُلقي التبعاتِ على الكُتّابِ انفُسِهم أوَّلًا، فالْأجدرُ بهم أنْ يُقدِّموا نِتاجًا يخلو من الخطأِ والخطلِ ما اسْتطاعوا، وأنْ يُحافظوا على سُمعتِهم وسُمعةِ المنابرِ التي اتاحت لهم النشرَ، وألّا يفرحوا بأنْ يجدوا مادَّتَهم قد نُشرت وهي ملغومةٌ بالْأخطاء.

إنَّ النتاجَ كثوبٍ أبيضَ، سرعان ما تَبرُزُ عليه البقعُ السوداءُ، مهما صغُرت، فتشوهُ مَظهَرَه.  علينا أنْ نفهمَ أنَّ ظهورَ المادةِ منشورةً ليس دليلًا على سلامتها لُغويًّا، ولربَّما تحوَّلت إلى طلقةٍ تصيبُنا من حيثُ لا ندري، فتهوي بنا في موقعٍ لا نرتضيه لدى القراءِ، بل لدى اقرانِنا من الكُتّابِ الذين تبوَّؤوا مقاعدَ مرموقةً في نفوسِ القراء.

مُجمَلُ القولِ: علينا ألّا نُخدعَ  في أنْ نرى نتاجنا منشورًا، إلّا اذا كان سليمًا معافًى يتمتَّعُ بالقبولِ لدى القارئ الحصيف.  ولا تحسبنَّ - ابنَ عَمّي - أني أدعو الى غريبِ المفرداتِ او غامضِها، بل أدعو الى اسْتعمالِ المفردةِ السليمةِ المفهومةِ، التي تؤدي غرضَها في جملةٍ متكاملةٍ خاليةٍ من الأخطاء لغةً ونحوًا، بليغة بعيدة عن العُجمة والركاكة اسلوبًا واسْتعمالًا، وبعد ذلك فليكْتبِ الكاتبُ ما يكتُبُ، وللجمهورِ الخَيارُ ان يقرأَ له او لا يقرأ.

واذا كنتُ أعطي العذرَ لمحرري بعضِ المجلاتِ الالكترونية اليومية، لا سيما تلك التي يحرّرُها كادرٌ قليلٌ عددًا، متطوِّعٌ عملًا، يعملُ ليلَ نهارَ عن رغبةٍ صادقةٍ لخدمة الكلمةِ دون مردودٍ مادِّيٍّ، كما هو الحال في المجلات الالكترونية التي تخلو من الاعلانات التجارية، اذ ليس من العدلِ ان نُحَمِّلَ هؤلاء مسؤوليةَ أنْ يتأكَّدوا من صحةِ كلِّ كلمةٍ، فهذا جهدٌ جبارُ يفوقُ طاقاتِهم، بل يحتاج الى فريقِ عملٍ مهنِيٍّ متخصِّصٍ مُوَظَّفٍ لهذا الغرض.

أقولُ فإنَّ المسؤوليةَ هي مسؤوليةُ الكُتّابِ أولًا وآخرًا، وانها الأمانةُ تقع على عاتقهم، احترامًا للكلمة التي ينشرون، واللغةِ التي بها يكتبون، والمنبرِ الذي من خلاله يظهرون، وتفاديًا لما ستكون عليه نظرةُ  القراءِ، اذا ما تكررت الأخطاء.

انا لا اقصد مجلةً معينةً، أو كُتّابًا محدَّدين، ولكني اقولُها صراحةً، اني اجد احيانًا في بعض ما يُنشرُ، ما لا يُريح، لا بل ان بعضَ المجلاتِ لا تتورَّعُ عن جهلٍ او دونَهُ ان تتحيَّزَ لأسماءَ معينةٍ، او لجنسٍ معينٍ دون مراعاة الجودة، وربما اسْتبعدت الجيدَ ونشرت المعلول.

إنَّنا، معشرَ الكُتّابِ، ينبغي ألّا نغْتَرَّ بأنْ نرى اسماءَنا تتكرَّرُ على صفحات المجلات.  علينا أنْ نعرفَ أنَّ هناك من يقرأ بوعيٍ رصينٍ، ويميز بين الغثِّ والسَمين، فاذا ما تكرَّرتِ الأخطاءُ، أيًّا كان نوعُها، لغويًّا او نحويًّا او إملائيًّا او عَروضيًّا، أو غير ذلك من العِلَلِ، فان ذلك سيُسْقِطُ الكاتبَ مهما كثُر نشره، جالبًا السمعةَ السيئةَ له، وللمنبرِ الذي ينشر فيه.

انا اعرف أنَّ كثيرًا من الكُتّابِ متميزون في كتاباتهم المتنوعة، لهم مكانتُهم وجمهورُهم، واني لأرفع قبَّعتي لهم احْترامًا، لأنهم مستمرّون في العطاء، يكتبون الكثير الراقي تطوُّعًا، لا يبغون إلّا زكاةَ ما يحملون ويملكون، إلّا اني ارى احيانًا نماذجَ لا تميِّز بين أبسط  قواعد النحو، او ترصف كلماتٍ لا تعرف ما المقصود وراءها، او تكتب شيئًا على أنه شعرٌ، وما هو بشعر.

اني لا ادعو الى التضييق واقْتصار الكتابة على النُّخبةِ، بل ادعو الى فتح المنابر للكُتّاب الجدد في شتى الميادين، والأخذ بأيديهم، على ان يَسْعَوْا الى عرض نتاجهم على من يثقون بهم قبل النشر.  وانا اذ اكتب هذا فلا ادَّعي الكمالَ، ولست مختصًّا في اللغة، لكني اعشَقُها، وإنْ كنت مهتمًّا بشؤون العلوم والهندسة، ولا أظنني إلّا متعلِّمًا.

انا اؤمن بأنَّ مسالةَ العلمِ ينبغي ألّا تتوقَّفَ، ومتى يظن الفرد أنَّها قد انتهت عنده، فإنَّه يحكم على نفسه بالموت.  علينا ان نتذكر أنَّ الحياةَ مدرسةُ، يمكن للانسان أنْ  يتعلمَ منها ما لا يتعلَّمُه من الكِتاب.

انا اذ أوجِّه الآن دعوتي عامةً، منطلِقًا من هدف الحفاظِ على سلامةِ لغتِنا الجميلة، فإنني لستُ بأول الداعين، ولن اكون آخرَهم، فلقد سبقني كثيرٌ من الغيارى دعوةً وتطبيقًا، ولست بالأحرص منهم.

اذكر ان إحدى الصحف الرئيسيةِ في العراق، كانت  قد نشرت لي مقالة قبل اكثر من اربعين سنة،  تحت عنوان "اللغة اللغة في كتاباتنا العلمية".  كانت المقالة تدعو من يكتب في العلوم باللغة العربية، الى الحفاظ على سلامتها، وقلت ما نصه " انك لا تنتقصُ من اهمية موضوعِك العلميِّ الذي تقدمه، اذا ما التزمتَ بقواعدِ اللغة (التي لا تحفل بها)، بل انك لتزيد الموضوعَ جمالًا وحيويةً، حينما يخلو من كلمةٍ غريبةٍ، او خطأٍ مَعيب، فمتى كان للُّغةِ موقفُ الضدِّ من العلم، ومتى كان للعلم موقفُ الضدِّ من اللغة؟  انهما - لا ريب - يشكلان نسقًا متناغمًا تستجيب له العقول، وتهفو اليه النفوس".

والطريف أني كنت في تلك المقالةِ، قد تناولت التعليق على مُؤَلَّفٍ طبعته جهةٌ إعلاميَّةٌ رسمية، وكان الكاتبُ هو أحدُ الاساتذة ممن درَّسني في احدى سِنِيِّ دراستي الجامعية الأولية،  لا بل صادف ان اختير رئيسًا في مناقشة رسالتي لنيل اولِ درجةٍ من درجتي الماجستير التي أحمل!

لقد كنت جريئًا بل متحمِّسًا في تبيانِ 44 كلمةً مخطوءةً في مُؤَلَّفٍ صغيرٍ يتناولُ مفهومَ إحدى النظرياتِ العلمية الشهيرة.  لم اكتفِ بذلك  بل ألقيتُ اللومَ على المؤسسة الناشرة، وقلتُ  كان عليها ألاّ تنتهي الى طباعةِ الكتابِ، ما لم تتأكدْ من صحةِ ما ورد فيه لغويًّا، وان كان الكتابُ يتحدث عن موضوع علميٍّ صرف.  وحين تناهى الى سماعِ المؤلِّفِ الفاضلِ، ما كتبتُ عن مُؤَلَّفِه، تقبَّلَ ما ذهبتُ اليهِ بصدرٍ رحب دون اعْتِراض.

ومن المواقف الاخرى في ذلك الوقت الذي كان للكلمةِ حُرمتُها - مسموعةً او مكتوبة - واتمنى لو اسْتمرَّت هكذا، أنْ أُنيطتْ بي مسؤولية تحرير احدى المجلات العلمية المهمة.  وأذكر اني تسلَّمْتُ بحثًا علميًّا من احدى الدول العربية.  وحين اطَّلعتُ عليه، رفضت أنْ أنشرَه في المجلة، وأعَدْتُه الى مؤلفه معتذرًا، عن عدم  موافقتي على نشر البحث في شكلِه المُرسَل، ما لم يتمَّ تصحيحُ ما انْطوى عليه من اخطاءٍ لغويةٍ شوَّهتْهُ، بل ربَّما قادت القارئَ الى فهمٍ مخطوء.

انا اليوم، ادعو كُتّابَ الثقافةِ العامة، وليس العلوم حسب، الى الحرص قدر المستطاع، على المراجعة الجادة لما يكتبون من مواد، قبل ان تُصارَ الى النشر، فكم أرى سقطاتٍ لغويةً ونحويةً واملائية، وكم أرى خروجًا على العروض في ما ينشرعلى أنَّه  شعر، وما هو كذلك، فأقول والوصية لنا جميعًا، ولا أستثني منّا أحدا:

اللغةَ اللغةَ في كتاباتنا معشرَ الكُتّابِ، فالْمسؤوليةُ مسؤوليتُنا، وأعرف أنها ليست يسيرة.  نحن نسعى الى الكمال ما اسْتطعنا، وكلنا يقع في الخطأ، وخيرُنا من يحاول ان يقلِّلَ من الأخطاء، إن لم نقل يتفاداها ما استطاع، وألّا يستمرَّ في الخطأ لِكَيْلا يُصبِحَ مأْلوفًا، سلام.

***

عبد يونس لافي

في المثقف اليوم