أقلام ثقافية

الابداع في الجوهر والمظهر

عرف الابداع الادبي والفني منذ فجرهما الاول، جانبين، أحدهما هو الهامّ والآخر هو الاقل أهمية، هذان الجانبان تمثّلا في الابداع الحقيقي الذي دخل إلى الذاكرة البشرية، أما الجانب الآخر، فقد تمثّل فيما يمكننا أن نطلق عليه الجانب الاجتماعي وكل ما يتعلّق بصاحب العمل الابداعي.. لا بالعمل ذاته.

عن الجانب الاول نقول، إنه الهدف والمبغى وسدرة المنتهى في الابداع عامة وفي النوعين المذكورين خاصة، فالكاتب أو الفنان الحقيقي، إنما يبغي من كل عمل إبداعي يقوم به وينفّذه، إلى مرمى واحد، هو أن يضيف إلى ما سبق وقاله آخرون سابقون ما هو جديد وجدير، لهذا نراه لا ينام الليل، ويصل هذا الأخير بالنهار كي يُقدّم أفضل ما لديه، مسعينًا بكلّ ما يمكنه التوسل به تحقيقًا لهذه الغاية سواء كان بالاستزادة من الثقافة والاطلاع، أم بالدراسة والمتابعة لكلّ ما هو جديد وحتى قديم في المجال. لهذا نلاحظ أن المبدعين الحقيقيين الجديرين بصفتهم هذه، يضعون الابداع ذا المستوى الرفيع في أعلى سُلم أولياتهم، غير عابئين بما يمكن أن يستتبعه إنتاجهم الابداعي من انتشار وشيوع ذكر، وتحضرني في هذا السياق رؤية مختلفة لتلك التي عرفناها حتى الآن، عن أن الحرمان الفقر والجوع، هما الابوان الشرعيان للإبداع، هذا الرأي هو للمثقف السوري د. سامي الدروبي، المعروف بإثرائه المكتبة العربية بالترجمات الكاملة لكل من الاديبين الروائيين الروسيين البارزين فيودور دوستوفسكي وليو تولتسوي، ومفاده أن الفقر الجوع والحرمان قد يكونان نتيجةً للحياة التقشفية التي يعيشها الانسان المبدع، وليس مقدمةً لها، كما أشيع دائمًا، لقد أورد الدروبي رأيه الثمين هذا في كتابه القيّم عن " علم النفس والادب"، وأعتقد أن مرماه البعيد يتمثّل في أن الانسان المبدع قد ينسى العالم إلا أنه لا ينسى إبداعه.. مهما طاله مِن ظُلمٍ وعسف.

أما عن الجانب الآخر للإبداع الادبي، فهو ذاك الذي يتعلّق بصاحبه وبذيوع ذكره، أعترف أن هذا الجانب هو الدافع لكتابة هذه الخاطرة، فما أكثر أولئك الذين ينشدون السمعة الادبية الطيبة في عصرنا، عصر انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وهيمنة العولمة/ الامركة، بعد انتهاء الحرب الباردة، أي انتهاء زمن الحروب، هؤلاء لا يهمهم ما يبدعونه وينتجونه، بقدر ما يجذبهم البريق المُضلّل للشهرة، ومن هؤلاء أشير إلى مَن يدّعي أنه شاعر أديب أو مبدع فنان، دون أن يُقدّم أي ابداع يُعتدُّ به، ومنهم من يستكتب آخرين وينشر ما يكتبونه له بالأجرة أو مجانًا، مُدعيًا أنه من بنات إبدعه، ومنهم أيضا مَن يستقطب بفهلويته الاجتماعية، أو موضعيته الوظيفية، عددًا من الاصدقاء الذين يداهمونه باللاياكات على الطالع والنازل، غير آخذين بعين الاعتبار المستوى المتدنّي الذي يُقدّمه للآخرين، من القراء والمتلقين. في هذا السياق يهمني الاشارة إلى فكرة طالما ردّدها شعراء ومثقفون منهم الشاعر محمود درويش، مُفادها أن هناك فرقًا كبيرًا بين الشهرة والأهمية، فقد ترى مبدعًا مشهورًا دون وجه حق، فيما ترى آخر مبدعًا وغير مشهور، فالشهرة ليست مقياسًا للإبداع، وإنما مقياس الابداع.. هو الابداع ذاته.

إذا كان لي من كلمة أضيفها في نهاية هذه الكلمة هي تلك التي تتعلّق بالإبداع والتسويق، وقد سبق وأشرت إليها في أكثر من كتابة وموقع، لا شك أنه من حق المبدع ذاتيًا، كما هو الشأن في عالمنا العربي عامة، أو مدير أعماله كما هو الامر في الغرب، أن يُسوّق ما يقوم بوضعه من إبداع، شريطة ألا ينسى أن الابداع وليس الانتشار المجّاني هو الهدف، ومما يمكن ذكره في هذا المجال، ما قاله الكاتب الروائي الايطالي المبدع البرتو مورافيا، صاحب الروايات المشهورة عالميًا: "السام"، "امرأة من روما "و "أنا وهو". لقد قال مورافيا ما مُفاده إنه من حق المبدع أن يسوّق عمله بنسبة عشرة بالمائة، لكن من واجبه أن يُبدع بالمتبقي أي تسعين بالمائة، وليس العكس.. كما يحدث لدينا.

***

ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم