أقلام ثقافية

بين التلميح والتصريح

يقول البحتري: "والشعر لمحٌ تكفي إشارته".

ويقول ستيفان مالارمي:

"التصريح بالشيء في الشعر، يفقدنا ثلاثة أرباع من الاستمتاع بالقصيدة، علما أن الاستمتاع يتكون شيئا فشيئا من سعادة التخمين؛ ما يوجب إذن التلميح لهذا الشيء عوض التصريح به، هو ذا الحلم."

وقد نضيف ما قاله الناقد محمد مندور حول الشعر والأدب بصفة عامة :"الأدب مهموس".

الشعر إذن تلميح أو أدب مهموس.

لكن في حقيقة الأمر فإن اللغة، بصفتها علامة لسانية اعتباطية، مكونة من دال لا تربطه أية علاقة مادية بالمدلول، وبما أننا نحتاج إلى مرجع الدلالة لتكوين فكرة حول المدلول، فإن مسألة التلميح لا تخص الشعر فقط، بل كل الكتابات بأنواعها وأجناسها، ما هي إلا تلميح، في حقيقة الأمر. لكن لماذا إذن يركز الشعراء على هذا التلميح فقط في الشعر؟ 

قد نفهم أن اللغة بالنسبة للأجناس الأخرى، تصبح مألوفة وكأن طابع الاعتباطية تم تجاوزه فأصبح الدال مدلولا بالألفة ولم يعد عائقا حيث تصبح الكلمة تشير بالواضح إلى الشيء الذي تعنيه وذلك بكثرة الاستعمال و التكرار، ما يسهل عملية التواصل بين المرسِل والمرسَل إليه. وفي هذا الصدد نتحدث أيضا في الشعر المكرور عن الصور او الكلمات المألوفة، بمعنى أنها لم تعد تلمح بل أصبحت تسمي الشيء وتصرح به وهكذا تفقد شعريتها. ما يؤدي بنا إلى القول بأن الشعر إبداع متواصل أي تلميح وتعريض وايحاء بدون انقطاع. وهكذا يمكن الجزم بأنه يبحث عن درجة أقوى من التلميح، حيث تصبح لغته خاضعة لنفسية الشاعر وخياله، حسب ظروفه الاجتماعية والنفسية. وبهذا التلميح المتواصل قد يشكل الشعر عائقا بالنسبة للتواصل، فيصبح نخبويا، إذ لا يتفاعل معه إلا من له الصبر في التخمين أو من يتلذذ به ويستمتع تماما كما يستمتع عالم الرياضيات او الفيزياء وهو بصدد إيجاد أسلوب جديد لحل عملية حسابية صعبة، أو كما يستمتع متأمل في غروب الشمس أو في لوحة تشكيلة أو عند الإنصات بكل جوارحه إلى معزوفة موسيقية.

وكخاتمة صدق رولان بارث حينما فرق بين الكاتب المبدع أو المؤلف (écrivain) والكاتب المزاول (écrivant). فالأول يشتغل على اللغة في كتاباته وهو يحاول إيصال رسالته، بمعنى أن "الكيف" أو الشكل هو انشغاله، أما الثاني فيشتغل على الرسالة، حيث ينشغل بالكم أو الموضوع. فالأول إذن منشغل بالتلميح أو الإيحاء أو التعريض، والثاني بالتصريح.

***

محمد العرجوني

في المثقف اليوم