أقلام ثقافية

طُرفَةُ صَدِيقَتيَ الخَالة

هو ذا تَغَلْغُلٌ ثمَّ تَسلسلُ في قهقهاتِ طرفةٍ لخالتي المُتورِّعة، وتراها في دارِها دوّارةً أو قاعدةً غير مضطجعةٍ، وما برحَت مُكَبِّرَةً مُسَبِّحَةٌ مُهَلِّلَةٌ ومُستَرجِعة.

تزورني هي كلَّ حينٍ، وإذ الوجهُ فيها هنيٌّ بهيٌّ ومزخرفٌ بوشمِ، وترى قَسَماتهِ مُتَوَرِّدةً وغيرَ مُتَوَجِعة

وجهُ خالتي وجهُ أرملةٍ بسيطةٍ سعيدةٍ وليس لديَّ وجهُ خالةٍ سواها.

هي صديقتي، وتملكُ طرفةً وحيدةً فريدةً، وليسَ لها مِن طرفةٍ عداها

تزورني هيَ لتنالَ رضايَ، وهي الكبيرةُ، وقليلاً ما أزورُها، ولا آبهُ لرِضاها، بيدَ أني وطاعةً لأمرِ الرَّحمنِ بِصِلةِ الرَّحِمِ، زُرتُها قبلَ حينٍ في فناها، لأشجوَ بشجاها في فضاها.

أجل، قد زُرتُ َخالتي ذاتَ أشراقةٍ في المُبتَسَمِ. ذاتَ أنشراحةٍ في الصدرِ تٌزيّنُها، والَوجهُ بِبَشاشةٍ مُرتَسَم، فوجهُها مُزَخرَفٌ ويداها، والقدمانِ بِفَيرُوز مِن وَشَمِ.. نَديَّةٌ هي وبعُقودٍ ثَمانيةٍ، وذاتُ نَكهةِ ريفٍ حَنونٍ أَصيلٍ أشمّ.

لا تَعرِفُ الكبائِرَ إلا حظَّاً من لَمَمِ.

نِصفُ قرنٍ هو مكثُها في بغدادَ، عرينِ العِزّةِ والعنفوانِ والقمم، وقرينِ المَعَزَّةِ ودكَّانِ الكَرمِ، ومَا فارقَتْها نَكهةُ الريف، بل هي صِبغتُها، وهي الأصلُ عِندَها، وهي المُعتَصَم. ولقد أقسَمَتْ ليَ أنَّ صِبغاً ما وَطِىء يوماً إظفرَها وما إحتثَّ وما دَهَم، وأنَّ اُذُنَها كانَت دوماً في صِراعٍ مع غثِّ النَغمِ. ولئن ٱسْتَدْلَلتَ عن دارِ صَديقتي الخَالة، سيقولون:

آوه! سَنَدُلُّكَ، أَوَ تَقصِدُ بَيتَ تِيكَ المَحجُوبة المُحتَشِمِ؟

رَصِيدُ خَالَتِي (طُرفةٌ) يتيمةُ، سَمِعتُها مِنها عَدَدَ الشهابِ والنجمِ، وعددَ ما على الأرضِ نَجَم! طرفةٌ عَتيقةٌ أقدمُ من فرعونَ ومن عنخَ آمونَ، ومِن كُلِّ تأريخٍ وقِدم. طُرفةٌ طوى ثُقلُها سجلَّ (غينيس) وما حوى من رَقَم! ومَا فَتِأت تَقذفُني بها كلَّما زُرتُها طَلباً للأجرِ، وَمزيدٍ من النِعَمِ. وقد قَصَفَتني بها في آخرِ زيارةِ غَفرَ اللّهُ لِكلينا، وأعاذَنا وإياكم من شِرذماتِ الهَرَمِ.

تَقصِفُني هي، فَتُقَهقِهُ هي وَحدها بِقهقةٍ مُتَسارعةٍ كَأنَّها تَقذِفُ بالحِمَم! فَلا ينفعُ معها ساعتئذٍ تَجاهِلٌ ولا لَجَم، ولا يشفعُ تَخاصُمٌ، ولا حتى قَسَم. ولا يدفعُ إن رَماها جَليسُها بسَهمٍ من شَتم.

ويكأنَّ ضِحكتَها بركانٌ، ولن يهدأَ إلّا بعدَ هَزيمةِ خافِقِها وإفرَاغِهِ من الزَّخَم

والحقَّ أقولُ؛ إنَّ خالتي لا إثمَ لها، بلِ الأثمُ أثمُ جَليسِها أنَّهُ تَجَرَأ، ولأَهوَالِ طُرفتِها قدِ إقتَحَم.

أنا أصَغرُ من صديقتي الخالة بِثلاثةِ عُقودٍ، ومُغرَمٌ أنا بطُرفتِها الفريدةِ المريدة، رغمَ ظُلمِها والسَّأم. وسِرُّ غَرامي كامِنٌ في لَذَّةِ سردها المُمِل لِطُرفتِها، سردٍ مُدَمدٍمٍ مُشَرذَم

بقَهقَهاتٍ مُذَبذَبة

ودُموعٍ مُصبصبة

وبأكتافٍ مُكَبكَبة، تَرقُصُ معها خدودها وخاصرتُها بطياتِ الشَّحَم!

وواعَحبي!

إنَّها لا تُبالي بِمَن أحاطَها، أضَحِكوا معها، أم اُصيبوا منها بِقَهرٍ أو بِسَقَم!

مُحَدِّقٌ أنا بِبَصري نحوها، ونَاظرٌ بوَجهٍ باسِرٍ آسِرٍ بسَأم:

أوَ يُعقَلُ هذا منكِ يا خَويلة! ثم..

أرَانيَ أنجَرِفُ مُقَهقِهاً مع شَلالِ قَهقَهاتِها، وتَائِهاً ما بينَ عَجَبٍ ونَدَمٍ. ولأختِمَ جولتي بمَلامةٍ على زيارتي لها، وبِتَوبِيخٍ وبوابلٍ من شَتَم.

صَديقتي خالتي نديّةٌ نقيةٌ تقيةٌ لأنّها بقيّةٌ لجذورِ زمانٍ من هُناك، من ..

زَمانِ البَسمَلةِ والحَوقَلةِ، والتَّوَكلِ والسَّكَن.

زَمانِ الطِّيبِ والنَّقاهةِ وأطيافِ الشَّجَن.

زمانِ العِزَّةِ لِلرُوحِ وجَبيِنِها والشَّاربِ واللَّحىً.

زمانِ العُنفوانِ رَغمَ كلِّ قَحطٍ وبلاء، وكلِّ وباءٍ وحَزَن.

زمانٍ وَجدُهُ مُغرَمٌ بلسانِ الضّاد، ويَرفُضُ كلَّ حَرفٍ بِلَحَن.

زمانٌ يَبغُضُ كلَّ قرفٍ رذيلٍ، وتقليدٍ للغرب حتى بِصُندوقِ الكَفَن.

زمان يَقشَّعِرُ بَدنُهُ مِن نفخاتِ غِلٍّ، ولفحاتِ ذُلٍّ، ومن صفحاتِ عريٍّ ولَّعَن.

زمانٍ ما عَرَفَ (حاسوباً)، ولو عَلِمَهُ لمَا تَغيّرَ، ولأزدادَ تَشَبُثاً بصَحراء الوَطَن!

أنا أعلمُ ألّا رَغبَةَ لأمرئٍ لِسماعِ طُرفَتِها. نعم، لكنّي سَأتلُوها ومالِ لأحدٍ من محيص، إنتِقاماً من خالتي بِفَضحِها علناً بين النّاسِ وفي الصُّحفِ وبمقالٍ رخيص. فصابروا جميلاً على طنينها العويص، ولنستمِع إليها بعد تشذيبٍ منّي وتهذيبٍ وتلخيص، قد أبقى على جثمان الطرفة هوَ هو فلا تقليص فيه، ولا منه تنقيص؛

قالت لي خالتي مُقهقهةً بتمليص ..

[أنصِتْ يا خُوَيل.. طَلبَ الجابيُّ الأجرةَ مِن عَجوزٍ تَجلِسُ في طَستٍ لها دَاخلَ الحافلةِ؟ فرَمَقَتْهُ العَجوز بنَظرةِ من عَجبٍ، ورَدَّتْ من فورها بردٍّ قد وَجَب:

"ليُسامِحُكَ اللهُ بُنَيّ، أفي طَستي أنا قاعِدةُ، أم أنا في حَافِلَتِك صاعدَة!"

لا تُقَهقَهوا رجاءً، لكيلا تصطفّوا فتدعموها فيضيع ثأري من صَديقتي الخالة.

***

علي الجنابي

.....................

- الجابي: هو محصل الأجور داخل حافلات النقل العام.

 

في المثقف اليوم