أقلام ثقافية

تميم أمجد توفيق: أفكار الحروف

لمَا نويتُ أنْ أرسمَ الافكارَ حروفا تتشكل كما اُريد فاذا بها تُشكلني كما تريد، فكأنّ الحرف كائنٌ لا يُعرف كنهُه، والكُنهُ جوهرُ الشئ ومصدره، يقول الشاعر الموصلي عبد الغفار الاخرس وهو من فحول شعراء العرب المتأخرين:

وكم أخبرَ التجريبُ عن كُنْهِ حالِهِ

ويَظهَرُ كنهُ المرءِ عند التجاربِ

أقول: وقد هممتُ أنْ ابدأ مقالتي ب (أقول) اصلا فاذا بتخميسات الشاعرِ الفلسطيني تميم البرغوثي تراودني عن نفسي كفاتنةٍ فار جمالُها فصاغها جوهرةً توسطت تاجَ بلقيس فانفجرت عيونا كحجر موسى أصابتني منه واحدة كأسباط يعقوب تعاتبني أنْ كيف لمثلك أنْ ينسى مثلي:

أقــولُ  لــدارٍ  دهــرُها  لا  يــســالـمُ

ومـوتٍ  بأســواق  النـفــوس  يسـاومُ

وأوجــهِ  قـتـلى   زيّـنـتْـها   المـبـاسمُ

على  قدر  أهل  العـزم  تأتي العزائمُ

وتـأتي  على  قـدر  الكـرام  المكـارمُ

ولأنّ العزيمةَ أصلُها فكرةُ والفكرةُ مادةُ الحروف ولمّا كانت آلةُ الكلام – الحنجرة - تعطي الحرفَ صوتَه، يصير الكلامُ حياً إذا خالطَتْه عزيمةٌ وفيما عداه يمسي الكلامُ هذراً لا روحَ فيه.  والعزائمُ على قدر النفوس، فكما تتعبُ الاجسامُ في مرادِ الكبيرةِ منها كما قال المتنبي، يتعب الحرفُ في مراد الافكار العالية.

استنكر البدوي الفصيح نسبةَ التعب الى الحروف فقال بفطرته السليمة انّ الحروفَ تسعُ المعاني جميعَها، بل وتسعُ الافكار التي لم تخامرْ عقلَ أحدٍ بعد، ومَنْ قال بتعب الحروف إنّما نسب الضعفَ الى لغته. سمع الفتى كلامَ البدوي الفصيح فأعجبه فتمتم في سرّه: سبحان من كَمُلتْ كلماتُه فلا تحيطها البحورُ مداداً ولا شجرُ الارض أقلاما، جاء العارف بالله فربّتَ على كتف الفتى مبتسما مستحسنا ما أسرّ في نفسه، قال العارف: لا تعجب فانّ لأهل الله موجةً يسمعون فيها الطيّبَ من القول، والسمعُ على قدر المحبة.

شتان بين المُحبّ والمحبوب فهذا طالب وذاك مطلوب، والمحب للحق من أجل علّة لا يستوي مع من كان محبا من غير غرض في نفسه فذاك في خِلّة.

استرسل العارف: الكلام سفير النفوس، ما طاب منه سكنها "كالبلدِ الطيب يخرجُ نباتُه بإذن ربّه وما خَبُثَ لا يخرج الا نكِدا"، فاملأ جرّتك بالعذب من الماء، إنْ فاضت لم تفضحك وإنْ نقصت دفعتك لملئها بالعذب والطيب.

عندما يكثر الصخبُ، ويغشى البصيرةَ الحُجبُ، وتندثر النُخب، ويتصدّر للأمرِ كلُّ مذبذبٍ أجدبٍ قد أصابه العطب، يصير لزاما ان يحدد الحُرُّ موقفَه، أعلى أو أدنى، أو قل أن يميل الى ما غلب من طبعه. ولمّـا كان الانسان من جزئين؛ قبضةِ تراب جمعها ملكٌ كريم بين يدي رب العزة ونفخةٍ من روح العلي العظيم، فانظر الى ما تميل، الى التراب أم إلى الاعلى والاقدس.

يقول آلان دونو، الحاصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة باريس والمحاضر في جامعة كيبيك في كندا في كتابه الشهير نظام التفاهة:

ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر. معاً، يدعم التافهون بعضهم بعضا فيرفع كلّ منهم الاخر لتقع السلطة بيد جماعة أكبر باستمرار لأن الطيور على اشكالها تقع. ما يهمّ هنا لا يتعلق بتجنب الغباء وإنما بالحرص على إحاطته بسور من السلطة.

ويقول ايضا: ما ان تتم مكافأة مرتزقة الكلمة على جبنهم، فانهم يصبحون أكثر شراسة وجدبا، بل انهم قد حولوا الكلمات الى اشارات يستعملها الكثير من الناس في تواصلهم مع بعضهم البعض.

يقول مجد الدين سنائي الذي توفاه الله قبل ألف عام تقريبا:

ماذا أفعل  بالروح  وأنا من الطين

ماذا أفعل  بالجسـد  وأنا من عليين

ويقول مولانا جلال الدين: إذا كان هذا الامر حقا فأين النور؟ ارفع رأسك من البئر وانظر أيها الدني. اترك البئر واذهب الى الايوان والكروم.

هنالك انتفض الفتى وخرج من البئر، وسارع الى البيت الذي اختاره الله بنفسه فسجد لله واقترب فطاف به سبعا علم فيها أن الوجودَ كلَّه عدمٌ، ثم تعلّق بأستار البيت وشم رائحته ومسح على الحجر الاكرم بيده ثم مسحها على وجهه فكحّلـه صاحب البيت فصار يرى ما لا يراه المحروم من الخمر فناداه الدرويش أن هلمّ الى الحبيب فاني واقف عند الباب احَيّي من أراد السلام عليه.

أيها   المـشـتاقُ   لا  تنمِ

هـذه  أنــوار ُ  ذي   سَلَمِ

عـن قـليلٍ أنـت  بالحـرمِ

عند خير العُرْبِ  والعجمِ

وجد الفتى الدرويشَ مئذنةً اسطنبولية رشيقة عليها غطاء رأس طويل مخروطي الشكل أخضر كلون قبة الحبيب، فطرق الباب فدخل، فرأى الحبيب فاختلطت الرهبة بالفرح وصارت ضربات القلب تتسابق مع الدموع ايهما ينال شرف الاحتفال بهذا الموقف الذي لا يقفه الا من دُعِيَ إليه كفراشة تحوم حول النور تدري ان فناءها باقترابها، ولكنّ فطرتَها غالبةٌ، فالفَناءُ يدني الى فِناءٍ لله درّ ساكنيه.

رفقا بي ايتها الحروف، تطير بي كريشة في يوم كثير النسائم، أيّما نسمةٍ هبّـت دفعتي الى حيث اختارت ولا مفر فالأفكار الاصيلة لا تلتزم بقاعدة معينة فالصدق يدفع المرء الى اكتشافها وربما تطول بك رحلة الاكتشاف هذه وتدفعك لتسلق شعرة املا ان تجد في نهايتها ما يُسكِتُ مرجل الصدق داخلك. 

وهنا أقول:

إن الكلامَ إذا ما جئت ترسمُهُ

فارفق بنفسك إن الحرفَ غلّابُ

هل السيادة تكون للفكرة على الحرف أم للحرف على الفكرة؟

الفكرة سابقة، تختار ما طاب لها من الحروف لتعبر عن نفسها أم الحروف تعطي الفكرة شكلها وسمعها وبصرها؟ الفكرة روح والحرف جسدها، ولكنْ هل نرى الأرواح أم الأجساد؟ الأرواح باقية والاجساد فانية.

هل السيادة مشتركة؟ فان كان الامر كذلك، فما العمل ان تخاصم السيدان؟ أيتخاصم القوس مع السهم؟  هل الحرف ظل الفكرة؟ فماذا تفعل الفكرة ان جاء الظلام؟ الفكرة روح، أيكون للأرواح ظل؟  جاء العارف ليقطع سلسلة الأسئلة فقال: اعرفْ الروح من حركة الجسد، ثم سكت.

فلمن تكون السيادة؟

قلت: أين الدرويش؟ فنادى من باب الحبيب ضاحكا: يا احمق، دع عنك هذا الذي انت فيه وداوم على قرع باب الملك فمن أدام قرع الباب ولج.

***

د. تميم أمجد توفيق

في المثقف اليوم