أقلام ثقافية

ماهر نصرت: طريق النجاة

سيخفق قلبك.. وتتعالى سريرتك.. وتنطلق نسمات الربيع من أدغـال أعماقك كتنهيدة خلاصٍ أبدية تسامر قلوب المعذبين.. وترمي لحظتها جانبا" قساوة الزمن ودبابيس الأيام والخريف والحزن وأنت تجلس في ركنٍ من أركان المسجد كما أجلس أنا الآن داخل حرمـه متضرعا.. أنها الطمأنينة التي تشرح القلوب، أنها بهجة الروح وصفاء سريرتها، أنها الرحمة التي تلامس الأفئدة ومشاعر المؤمنين..

رحت أتأمل ثلّة من التلاميذ التفوا حول معلمهم الشاب وهو يرتل آياتٌ من الذكر الحكيم، يرددون ما يتلو بسعادة غامرة فتعلوا صيحاتهم بألحان رائعة تحاكي نغماتها الآفاق وتنطلق مبشرة إلى ما وراء الطبيعة والصدى وغيبيات الوجود الأزلي، كانت مشاعري أسيرة تلك الأهزوجة المقدسة وأرتقي شوقا" بين الفينة والأخرى لسماع جديدها.. جديد الترتيل المشوق لمعلمهم المثابر من صعود وانحدار في نغمات نبرتـه العذبة تارة، وترديد التلاميذ بصوتهم الناعم الرقيق تارة" أخرى، أحسست لحظتها براحة الجسد وسكينة النفس وكأني قد قطعت على قدم وساق دروب الأجيال الطويلة وسط الأعاصير والمطر، وتمنيت أن أتغلغل بين صفوفهم وأعود طفلا" أمضي وراء سذاجتي وأمتطي صهوة الأمنيات وأنتزع من على سحنتي آثار سنيني العجاف التي هجرها الربيع ورافقتها زوبعة الشتاء ووحل الضياع المهلك.. لامحض سُنّة مذهبية ولا فروض عقائدية قذفتني في قوقعة الخشوع تلك بل هي فطرة الهداية الإلهية التي أقنعت الروح على هجر طريق التمرد وتخليص النفس من وساوس الشيطان والكف عن ذنوبها والعصيان، فرحمة الهداية أسعفتني بزورق النجاة وأنا أتقاذف في بحر الظلمات وسط أمواج الخطيئة والطغيان، وها هي دموعي تسبق بصيرتي تعانق الندم وتتوسل الصفح حتى أمتزجت معها شهقات وغصة خرجت منتفضة من أروقة الأعماق أجهشت خلالها بالبكاء العميق مثل أولئك المحرومين الضعفاء، ذلك البكاء الحنون الذي يطفئ لهيب الحزن ويرّقع ثقوب الضمير ويقزم قامة الكبرياء..

وجدت أن غمامة النحس تتساقط من عليائها عند خشوعي والدعاء، ورأيت في برهة فقدٍ وإغماء أن ملائكة" شُدادا" تُحلّق فوق حطام النفس تهاجم الشيطان وتجرف أوكاره السوداء، وراحت عيناي نافذة الروح تسرح في سرابٍ ينقشع عنه الغبار وتنجلي عني سحابة الغموض وتنفتح أمامي جنائن مدهشة الغمار.. تبهر الأبصار.. ثمارها شيء عجيب وبلا رقيب.. قصورها رحاب، تعلوها بروجٌ وقباب، تقيم فيها كائنات رقيقة اللمسات.. جذاّبة الهمسات.. كلآلئ نثرت في عتمة الطرقات.. يتوارى عشاّقها خلف خمارٍ من ضباب.

أنه ربيع جديد يعدو فوق أنفاسي، وها هي خيوط الشمس تداعب إحساسي بوداعة وانشراح وأنا أحلّق مستأنسا" مع الطيور والنسمات، أطارد الرياح وأعبث كالشقي في أروقة السحاب وأهوي خافظا" نحو الحقول أقبّل الزهور وأغني مع حفيف الشجر.. ورحت أطوف مبتهجا" فوق روابٍ ساحرة بقوة خارقة تقمصت أحشائي أخذتني صوب سهول الحواري والقلاع.. نغماتها تطرب الأسماع.. فيها خمر ولهوٍ ومتاع.. تضطجع هناك على أرائك مذهبة، حواري شقر ناعسة، ساحرات الكمال.. مبهرات الجمال.. تناديني إحداهن بهمسٍ ودلال..

وفجأة.. استيقظت بوخزه دبوس من غفوة أحلامي وصوت المؤذن يصيح (حي على الصلاة.. حي على الصلاة) لأجد نفسي محاطا" بثلّة التلاميذ وهم ينظرون نحوي ويضحكون، فقد حسبوني متشردا".. بلا عقل.. مجنون.

***

ماهر نصرت – بغداد

في المثقف اليوم