أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: الوجه الحقيقي للفنان رامبرانت

يفتح الفنان الهولندي الشهير رامبرانت، في كتاب يومياته. ترجمه إلى العربية ياسين طه حافظ، وصدر عن دار المدى السورية عام 2016، يفتح نافذة واسعة على حياته الصاخبة وابداعاته اللافتة. كتب رامبرانت يومياته هذه عام 1661. عندما كان في الخامسة والخمسين من عمره، ويقول في تلخيصه لهذه السنة: انتهت السنة. كم استمتع الآن بالاستقلال. استقلالي أنا، لأنتج العمل الذي اريده لا الذي تمليه علي نزوات الآخرين وغوغائية غُلاتهم، لكنّي لا أريد أن أتكئ على أمجادي. هذه السنة. سأعمل بجدٍّ أكبر.

يُعتبر رامبرانت من أهم الفنانين الأوروبيين. وبإمكان مَن يُريد، التوجّه إلى شبكة البحث الالكترونية العالمية، ليطلعوا على فيض من المعلومات عنه وعن حياته الصاخبة.. بالعديد من اللغات.

من اللافت في هذا الكتاب، هو تلك القُدرة الهائلة على التعبير عن المشاعر والاحاسيس المرهفة الدقيقة التي تذكّر بقدرة العديد من الفنانين الاجانب والعرب أيضًا، على التعبير بطرائق خاصة، تختلف بنوعيتها عن تلك التي يتميّز بها الكُتاب المبدعون عامة، وأذكر في هذا السياق أنه صدر مؤخرًا كتاب ضمّ عددًا من المواد الادبية الهامة التي أنتجها الفنان الاسباني ذائع الصيت بابلو بيكاسو، كما أذكر كتاب مذكرات.. الغني عن التعريف.. الفنان سلفادور دالي، وهناك كتابات رائعة خلّفها الفنان العربي المصري المعروف عالميًا حسن سليمان، منها كتاب عن "حرية الفنان".

يُمكنني تقسيم الابداع الادبي لرامبرانت، في يومياته هذه، إلى عدد من الابعاد أعتقد أن التعبير ذاته هو ما يميّزها. مثال قوله: الايام مثل بيضة صغيرة من ضوء متجمّد في منقار نسر هائل. ومثال آخر.. قوله: بعد طول انتظار ظهر الربيع وتفتّحت أزهاره وأفطرت عيناي هذا الصباح بورُوده.

يسلّط رامبرانت في يومياته هذه الضوء على حياته الخاصة فيطلعُنا على أبسط تفاصيلها لنكتشف بالتالي أنه، رغم عظمته التاريخية، كان إنسانًا عاديًا وبسيطًا أيضًا... تموت زوجته المحبوبة ساسكيا. ليتزوّج مِن مربية ابنه تيتوس المدعوة هندريشكة، ويحفل الكتاب بمشاعر الخوف على زوجته المُحبة المتفانية هذه. خاصة في فترة مرضها.

فيما يتعلّق بحياة رامبرانت الخاصة هناك صفحات عن تمرد أحد طُلّابه عليه ومحاولته إقناعه بالعودة للتعلّم لديه.. لكن عبثًا ودون جدوى. كما يتحدّث رامبرانت عن طالب إخر قذفه بالزيت، غير أن الله ستر فلم تتلف لوحاته القريبة.

يتحدّث رامبرانت أيضًا عمّا تعرّض له مِن مُضايقات، عندما أعلن إفلاسه، ويذكُر كيف دافع عنه أبناء أسرته خاصة زوجته هندريشكة.

أقترح على الاخوة الفنانين في بلادنا قراءة هذه اليوميات للاطلاع على تجربة عميقة لفنان مبدع اعترف العالم بإنتاجه الفنّي، وأشاد بعبقريته العشرات مِن فناني العالم ودارسي الفن. فهو كتاب ممتع بما حَفل به من عُمق وطرافة، بتنا نشتاق إليهما في زمن كثرة المدّعين وقلة المبدعين في مجال الابداعي الفني التشكيلي خاصة. اقرؤوا هذا الكتاب.

من أجواء الكتاب:

15 ايلول: نمتُ هذه الليلة مع هندريشكة. هي المرّة الاولى مذ مرضت.

حُبّها ليس خطيئة.

مُشاركتي لها حياتها ليست خطيئة.

وليست خطيئة بشرة جلدها الناعمة كالزبدة. شعرُها الذي قبّلته ومشّطته. خذاها. ثدياها. يداها المُحبّتان اللتان تحتضناني. عيناها اللتان تستوعبان عُريي وشفتاها حين تتلفظان اسمي.

أول مرّة ضاجعتها حين كانت خادمتي ثم صارت خليلتي. الآن نحن متساويان.

من 27 ايلول:

أثّر فيّ هذا كثيرًا وأرّقني هذه الليلة. بقيت تُعذّبني فكرة أنني. وأنا أهب نفسي للفن، أضحّي بأطفالي. شركاء حياتي، على مذبح الفن الجيّد. هي لعنة أن ابدأ الآن تساؤلي فلا نُكران اني وضعت ما أحب، وتألمت مِن أجله، في دَرجة أعلى مِن أولئك الذين أحبّهم.

من 15تموز:

رسمي صُراخ وهدير. هي رسومي. الضحك والنحيب، والابتسام في النحيب. كلّ هذه في الرسوم. الرسوم التي هي رسومي. أنا الرجل الذي وراءها.

3تشرين الاول:

حين نظرت إلى نفسي لم أرّ غيري. رامبرانت الفريد الوحيد، ولكن، وأنا أرسم صورتي، تملّكني شعور بأني أرسم جميعَ الرجال..

ولجميع الرجال.

***

بقلم: ناجي ظاهر

في المثقف اليوم