أقلام ثقافية

ضياء نافع: حول مسرحية تشيخوف – الخال فانيا

قررت كتابة الملاحظات الوجيزة الآتية عن مسرحية تشيخوف هذه بالذات لأني مازلت أرى عنوانها بالعربية في بعض الاحيان – (العم فانيا) لحد الان، وليس (الخال فانيا) كما كتبها مؤلفها تشيخوف عام 1897، وسبب ذلك بالطبع يكمن في ان هؤلاء الذين يحوّلون (الخال) الى (العم) في هذه المسرحية يترجمون عنوانها عن لغات توجد فيها كلمة واحدة فقط تطلق على الخال والعم معا، بما فيها اللغة الروسية – لغة تشيخوف نفسه. عندما ارى، ان عنوان المسرحية قد تحوّل الى (العم فانيا) استنتج رأسا، ان كاتب المقالة او مترجمها لم يطلع على نص المسرحية ولم يشاهدها طبعا على خشبة المسرح، وابتسم، ومن ثمّ اضطر ان اعتذر همسا لروح تشيخوف على هذه الهفوة (كدت استخدم كلمة اخرى!) العربية، التي تؤكّد عدم الاحساس بالمسؤولية عند بعض كتّابنا، عندما يسطرون الكلمات وينشرونها، وقد اعتذرت بهذه الطريقة آخر مرة، عندما قرأت خبرا تفصيليا جدا عن هذا (العم !) في جريدة الشرق الاوسط اللندنية الشهيرة.

ونعود الى المسرحية تلك. مضمونها تشيخوفي بحت، اذ توجد فيها افكار يطرحها الابطال اثناء مسيرة حياتهم الاعتيادية ليس الا. وعن هذه المسرحية بالذات قال تولستوي كلمته الشهيرة عندما شاهدها، وخرج من المسرح غاضبا – (...قولوا لتشيخوف وستنسلافسكي، انه لا يمكن ان تكون هناك مسرحية لمجرد ان يرقد شخص على الاريكة وينظر الى الحديقة  عبر النافذة ويتحدّث...). وقد كتب المسرحي الروسي نيميروفيتش – دانتشينكو بعدئذ لتشيخوف عن زيارة تولستوي للمسرح ومشاهدته لتلك المسرحية قائلا – (.. تولستوي معجب بعبقريتك، لكنه لا يستوعب مسرحياتك. لقد حاولت ان اوضح له ذلك (المركز) الذي كان يبحث عنه ولم يجده...وقال انه توجد في مسرحية الخال فانيا اماكن مدهشة، لكن لا توجد فيها تراجيدية الوضعية...)، ويقصد تولستوي بذلك المصطلح الحدث الاساسي الذي يتمحور حوله البناء المسرحي، اي ما اطلق عليه دانتشينكو (المركز)، ويختتم رسالته تلك الى تشيخوف ويقول – (.. ولكن من الطريف ان نقول، ان تولستوي كتب مسرحيته (الجثة الحيّة) بتأثير من الخال فانيا..). وفي الواقع، فان تولستوي لم يكتب مسرحيته (بتأثير) من مسرحية الخال فانيا، وانما (جوابا) عليها، لأن تولستوي لم يعترف بمسرح تشيخوف الخالي من الاحداث، والذي يعتمد على الافكار والمزاج، او كما قال أحد النقاد الفرنسيين المعاصرين عن هذا المسرح – (..كل دقيقة فيه مليئة، ولكنها ليست مليئة بالحوار، وانما بالصمت وبالاحساس بالحياة..). ولا مجال في اطار هذه المقالة بالطبع الاسترسال في الكتابة عن هذا الصراع بين مفاهيم بنية المسرح عند تولستوي وتشيخوف، وكيف ان الزمن اثبت صمود وازدهار واستمرار الانتشار عالميا للمسرح التشيخوفي (مسرح الافكار والاحاسيس الانسانية الاعتيادية) مقارنة مع المسرح التولستوي (مسرح الاحداث الدراماتيكية)، ان صحّت كل هذه  التعابير والتعريفات والصفات. والاستشهاد بموقف تولستوي هذا يوجب علينا الاستشهاد بموقف مكسيم غوركي المعاكس تماما لرأي تولستوي تجاه هذه المسرحية، والذي كتب الى تشيخوف بعد ان شاهدها على خشبة المسرح قائلا – (.. شاهدتها وبكيت مثل امرأة..). ويطرح السؤال نفسه تلقائيا، وهو – كيف ولماذا استطاعت هذه المسرحية ان تجعل تولستوي يكتب مسرحيته الشهيرة (الجثة الحّية) معارضا لها وحوابا عليها، ولماذا بكى غوركي مثل النساء عندما شاهدها ؟

الفكرة المركزية في مسرحية الخال فانيا تتجسّد في (الخيبة)، التي يحسّها الانسان عند نهاية مسيرة حياته، هذه الخيبة المريرة والخانقة، لأن الانسان لا يستطيع ان يلغيها او يغيّرها، اذ لا يمكن ان يعيد مسيرة حياته من جديد (وما أكثر خيبات الامل التي تعرضّنا لها جميعا !)، وفي هذه الفكرة ذات الابعاد الانسانية الشاملة لكل المجتمعات تكمن عظمة تشيخوف الفنية والابداعية، والتي تجعل من فلسفة مسرحه مفهومة من قبل الانسان، كل انسان، بغض النظر عن مجتمعه وقوميته. وهكذا نرى في هذه المسرحية كيف ان زوج اخت فانيا المتوفية البروفيسور سيريبريكوف – العالم الجليل، الذي كان فانيا ينظر اليه طوال حياته باحترام وتبجيل مع ابنة تلك الاخت واسمها سونيا، وكيف كانا يعملان معا – وبكل اخلاص وتضحية – على خدمته، ولكنه اكتشف اخيرا انانيته، وانه  لا يفقه شيئا، وبالتالي، فان الحياة قد ضاعت هباء. وتحاول سونيا (والتي تناديه طوال وقت بالخال فانيا، ومن هنا جاءت تسمية المسرحية) تحاول ان تدخل الطمأنينة على تلك الاجواء المريرة من خيبة الامل هذه، وتقول لخالها فانيا، ان السماء والملائكة ستمنح الراحة له... وهكذا نرى ان هذه المسرحية تنتهي بعدم انتصار أحد، وان الجميع هنا خاسرون ليس الا، وان تشيخوف يرسم كل هذه الامور ببساطةأ واعتيادية ودون احداث دراماتيكية متشابكة، وهو ما جعل مكسيم غوركي يبكي وهو يشاهدها، وهو ما جعل تولستوي يحتج عليها لانها لا تتضمن احداثا وصراعات بين ابطالها، وهو شئ يتناقض ومفهومه للمسرح، ولهذا قرر ان يكتب مسرحيته الاخيرة – الجثة الحية جوابا عليها، كي يثبت وجهة نظره حول بنية الفن المسرحي.

مسرحية (الخال فانيا) تدور حول فكرة الخيبة في حياة الانسان، وهذه المسرحية ما زالت تعرض على مسارح روسيا والكثير من مسارح العالم منذ ان كتبها تشيخوف عام 1897 ولحد الان، بل انها انتقلت من المسرح الى السينما، حيث تمّ انتاجها (11) مرة في مختلف البلدان، ومن الطريف ان نشير في نهاية مقالتنا حول مسرحية الخال فانيا الى قائمة الافلام السينمائية تلك، وهي كما يأتي – 1 –عام 1957 في امريكا // 2 – عام 1962 في فرنسا // 3 – عام 1963 في بريطانيا // 4 – عام 1967 في السويد // 5 – عام 1970 في يوغسلافيا // 6 – عام 1970 في روسيا // 7 – عام 1986 في روسيا // 8 – عام 1994 في امريكا // 9 – عام 1994 في السويد // 10 – عام 1996 في بريطانيا // 11 – عام 2004 في المانيا.

ختاما اكرر الرجاء الى زملائي الباحثين والمترجمين ان يكتبوا ما يريدون عن (الخال) فانيا، دون ان يحولوه الى (العم) فانيا.

***

أ.د. ضياء نافع

........................

* من كتاب: سبعون مقالة عن تشيخوف، الذي سيصدر قريبا عن دار نوّار في بغداد وموسكو.

في المثقف اليوم