أقلام ثقافية

محمد الورداشي: التداوي بالكتابة

ذات حصة دراسية مخصصة للنصوص القرائية، توقفت رفقة تلاميذي عند نص شعري معنون ب"قلت للشعر"، وهو قصيدة شعرية للشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي. فحدث أن طرحت سؤالا على التلاميذ في إطار مناقشة القصيدة: لماذا يكتب الأدباء والكتاب والشعراء ليلا؟ ولم يلجأون إلى فعل الكتابة أصلا؟

تعددت الإجابات المقدمة من قبل التلاميذ؛ إذ أجاب بعضهم بأن الليل وقت الهدوء ومن ثم التركيز على فعل التفكير والتذكر..إلخ؟ وقال آخرون إن غياب النوم هو الباعث على فعل الكتابة.

وأمام تعدد الإجابات، ارتأيت أن أبسط سؤالا ثالثا، كان الهدف من طرحه هو معرفة الأنشطة التي يقوم بها التلاميذ الساهرون ليلا، وكيف يصرفون الأرق والملل عن أنفسهم. فكانت الإجابات أيضا متباينة ومختلفة بين من يقضي ليله في مواقع التواصل الاجتماعي، وبين من يشاهد التلفاز، ومن يتأمل سقف غرفته، ومن يعد رسوم السقف وزخرفته.. إلخ. فقلت لهم متسائلا: لماذا لا تكتبون شيئا ما؟ مثلا؛ أن تأخذوا ورقة وقلما، ثم تشرعون في كتابة الخواطر والمشاعر التي تختلج أنفسكم في تلكم اللحظة بالذات.

استرعاني استغراب المتعلمين، واندهاشهم من كلامي. فانطلق أوضح قصدي قائلا: إن ثمة علاجات متعددة ضد الملل والأرق، بل ضد الفراغ الذي يعد مدخلا تتسلل منه مختلف المشاعر السلبية التي تنخر النفس الإنسانية؛ فمثلا، هناك من يجد علاجه في تلاوة القرآن الكريم، ومن يلفاه في الاستماع إلى قطعة موسيقية مفضلة لديه، ومن يسامر قريبا له يسكن معه البيت نفسه، ولكنّ هناك أناسا كثيرين يجدون دواءهم وضالتهم في القراءة والكتابة. وهكذا، نكون أمام التداوي بالكتابة حينما نفرغ كل همومنا ومشاغلنا، ونملأ فراغنا المهول بفعل الكتابة.

أن تكتب معناه أنك ترغب في تفريغ نفسك مما يثقلها، وتسعى إلى مشاركتهم مع الآخرين علهم يحملون معك قسطا منه، أو يفكرون في حلول فعالة له.

إن الكتابة، أيها التلاميذ وأيتها التلميذات، ملاذ ومأوى آمنان مطمئنان لمن لا مؤنس له ولا رفيق.. إنها بلسم يشفي الجروح العميقة التي تتركها الحياة وبناتها التي تأتي تباعا، ومن ثم، تأتي الكتابة لتحقق للنفس البشرية الهائمة توازنا ما، وتنتشلها من قسوة الفراغ والخواء.

أن تكتب معناه أن لك هما يثقلك، ورسالة محددة تروم إبلاغها إلى الآخرين. والنتيجة أن الكتابة تتحول إلى مصرف للآلام والأوجاع، ومساعد على تحمل عنت الدهر وصروفه.

وما دام الإنسان موجودا، فإن عليه أن يكتب وجوده، ويقدم صورة عن نفسه باعتباره ذاتا حربائية: تحزن وتفرح، تنعم وتشقى، تضحك وتبكي، وترغب وتمل، وتقبل وتدبر.. إلخ. ومنه، تأتي الكتابة بحسبانها فعلا يحتضن تقلبات النفس البشرية، وخلاصا تبتغيه الأنفس التي ضاقت بها الأرض بما رحبت.

اكتبوا ما يحضركم في الليل البهيم، لكي تحققوا كوجيطا متمثلا في المعادلة التالية: أنا إذن أنا حي. وهذه حكاية أخرى سنقف عليها في فرصة أخرى.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم