أقلام ثقافية

طالب الأحمد: رمزية التماهي مع "خان الذهب"

كنتُ في "المول" قاصداً التسوّق قُبيل حلول عيد الفطر المبارك.. وبينما أنا أهمّ بسؤال الموظفة البائعة في جناح الملابس عن إحدى المعروضات، رأيت فتاة صغيرة تركض نحوها وهي تحمل "موبايل" بيدها وتصيح بحبور:

- ماما .. ماما.. أمير ما مات.. أمير ما مات.

انتابني القلق لأول وهلة.. تصوّرت أن البنت تلقت اتصالاً من هاتفها عن مريض لهم في حالة خطرة أو في المستشفى..

سألت الأم البائعة:

- خير؟.. سلامات إن شاء الله.

ابتسمت البائعة وقالت لي:

-لا ما كو شي، هذه ابنتي متأثرة جدا على موت " أمير" في مسلسل خان الذهب.

وأضافت بنبرة أسى:

- كلنا تأثرّنا لموته.

دفعني فضولي الصحفي إلى أن أسأل البنت:

- إلى هذه الدرجة انتِ متأثرة بالمسلسل؟!

أجابت بعفوية:

- نعم.. لقد حزنت كثيراً على وفاة أمير.

ثم أردفت بتنهد ولهفة:

- يقولون في "الفيسبوك" إنه لم يمت وستكون هناك مفاجأة في الحلقة الأخيرة.

لم يكن حال البائعة وإبنتها إستثناءاً أو حالة نادرة في شدّة التفاعل مع أحداث مسلسل "خان الذهب" والتأثّر بها، فمتابعة المسلسل بلغت رقماً قياسياً لم يبلغه أي عمل فني أو درامي عراقي في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يدعو للتفاؤل بإمكانية تحوّل الدراما العراقية إلى قوة ناعمة للبلد.

والأمر اللافت هو أن ردود الأفعال على المسلسل تواصلت ولاتزال حتى بعد إنتهاء عرضه، وعندما تصفحت وسائل التواصل الإجتماعي بعد عرض الحلقة الأخيرة من المسلسل فوجئت بكم هائل من التعليقات التي ترثي "أمير" وتتحسّر وتتأسف وتتألم على وفاته مظلوماً. حتى أن بعض رواد "الفيسبوك" نقموا على المؤلف وأعتبروا موت "أمير" بمثابة إعلان لإنتصار الظالم وليس العكس كما ينبغي. كما لفتت نظري عشرات التعليقات التي طالبت بمحاكمة عادلة لبطل المسلسل وزوجته التي صبّ كثيرون جام الغضب عليها واعتبرو المآل الذي انتهت إليه (عندما شبت النار في يدها) لا يشفي غليلهم ولا يُمثل عقوبة عادلة على جشعها وجشع زوجها الذي بلغ مرحلة عدم التورع عن ارتكاب الجرائم بحق الأقربين.

وبقدر ما يؤشر هذا التفاعل والتماهي مع شخصيات المسلسل إلى نجاح المؤلف والمخرج وكل كادر التمثيل فضلاً عن النجاح الذي يُحسب للجهة المُنتجة وللقناة التي قدمته للمشاهدين، فإنه يعكس من جانب آخر دلالات رمزية جديرة بالقراءة أنثروبولوجياً وسوسيولوجياً لكونها تعكس ثقافة وطبيعة المجتمع العراقي المعروف بشدة تعاطفه وتضامنه مع كل مظلوم، وتوقه الدائم للعدالة، سيما في سلوكه السياسي، على النحو الذي جعله لايرضى عن الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على الحكم في تاريخ العراق الحديث وتعاكست مع هذا التوق والشغف المجتمعي بدلاً عن مسايرته.

كذلك أظهرت رمزية التفاعل مع المسلسل تجذّر حضور قيم التكافل والتضامن في ذاكرة المجتمع، فالرفض للجشع والتنكر لصلة الرحم من أجل المال يؤشر لسلامة وحيوية المنظومة القيمية في المجتمع، وهي منظومة رمزية تواصلية بطبيعتها. والشاشات التي عرضت المسلسل كانت بمثابة تجسيد للمعاني التي انطوت عليها أنماط السلوك الفردي والإجتماعي لشخصيات العمل الدرامي، مما أوجد هذا المستوى من الإسقاط النفسي والتماهي مع الذين يشعر المشاهد أنهم يرمزون إلى ما يقبله أو يرفضه من قيم سلوكية.

إن مشاعر الغضب التي انتابت ملايين المشاهدين للمسلسل تجاه النفاق والخداع والجشع وخيانة الأمانة، حملت رسالة واضحة عن قوة وحيوية الوجدان الجمعي، وعن تحطم معادلة القسوة والصمت التي ارادت أنظمة الطغيان السابقة تعميمها وفرضها بالقوة على المجتمع العراقي.

وتبعا لذك وجدنا – من خلال استقراء المئات من تعليقات المشاهدين على منصات التواصل الإجتماعي – أن نسبة عالية جداً من المشاهدين لم يقتنعوا بما رسمه مؤلف المسلسل من نهايات قدرية لعبدة المال ومنتهكي الحرمات، فقد كانوا يأملون بأن يفرض القانون سلطته وأن تتم محاكمة علنية عادلة لهم لكي يعتبر الآخرون، وهذه – في تقديري - أهم رسالة لرمزية التماهي مع "خان الذهب" حرّيٌ بأهل السياسة أن يقرأوها بتمعّن.

***

طالب الأحمد

في المثقف اليوم