أقلام ثقافية
جمال العتّابي: جدّي (غشيم)..!

نحمد الله ونشكره، أننا اكتشفنا جداً لنا اسمه (غشيم)، إثر حملات التأطير السكاني والجرد الحزبي، التي تقوم بها أجهزة نظام صدام حسين الأمنية والحزبية، والنبش في سجلات العراقيين المدنية للتأكد من تبعيتهم (العثمانية) منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي، وإستمرت حتى نهايته بأساليب و(فنون) لا مثيل لها في البحث عن الأرومات (الأصيلة). لتمنحهم بعد ذلك فرمانات (النقاء) العرقي . هناك شكوك دائمة في عراقيتنا ووطنيتنا، كأننا شعب بلا تاريخ، ولا أصول، شعب مقذوف إلى الحاضر من اللامكان واللازمان. لم تكتف تلك الأجهزة بالأسم الثلاثي، إنما ظلت تنقّب، لا يهدأ لها بال، تتابع السلالات من دون توقف حتى عند گلگامش !
كنا نسبّح بحمده أنهم لم يجدوا في أصولنا أسم (أغا)، أو (جيهان) أو اسم (شاه) في سلالتنا (الصافية المصفّاة)، ربما كان مصيرنا أسوأ من أولئك الذين رموهم على الحدود فيما لو عثروا على إسم (قلي) بيننا، فحمدنا الله مرة ثانية أنهم وجدوا (غشيم) والد جدي (علي)، وليس غيره، هو الرباعي ضمن تسلسل الأسماء، واكتفوا به، إذ لا مثيل لاسمه في السجلات المدنية العراقية، (ماركة مسجلة باسم عائلتنا)، لا أحد يشاركنا فيه، امتيازنا وحدنا، تمسّكنا به خشية أن لا يضيع من بين أيدينا أو ينافسنا أحد عليه.
كنا ننصت الى الأصوات الآتية من الماضي فلم نفلح في إسترجاع صوت (غشيم) ولا صورته.
على الرغم من سعينا القفز على اسمه في حالات لا تتطلبها الإجراءات الرسمية، فنذهب إلى أبيه (حمد)، الأجمل (ما عبّد وحمّد) بين الأسماء، عملتها أكثر من مرة للالتفاف على اسم جدي غشيم، حين ينتابني شعور بالخجل أثناء المناداة على اسمي في جمع من الناس، لا شك أني أتمنى لحظتها أن يكون أسم جدي (نبيه)! لكنه يلازمنا، لا فكاك من ظلّه في كل الأحوال.
لم يكن (غشيم) إبن مدينة، كان إنساناً مشتعلاً بالحرمان - كما يروي أبناؤه- تلفحه رياح الفصول، ينام ويصحو على فقره، يقيم في أرض يشبّ البؤس والجوع فيها، لا غيم يهطل ولا شفة تتوحم بالماء. كل زاده من الدنيا بضعة نعجات يقتات من لبنها، فهو غير (زبالة) ابن بغداد العاصمة، الذي عبرت شهرته الأفاق بـ (شربته) المصنوع من الزبيب، وغير (جريو) الذي تنسب له العائلة النجفية المشهورة والكريمة، فقَدر (غشيم) وقدرنا، انه عاش حياة بسيطة في الأماكن التي يتناسل فيها الجراد، الوصول إلى تفاصيلها غير مأمون الجانب، وتاريخ هذا النمط من الناس مرشح دائماً للنسيان، حين لا نجد أثراً أو معنى للاستذكار.
قدرنا الآخر أن اسمه على الأغلب لا يكتبه موظفو السجل المدني بصورة صحيحة، فتذهب نشوة (الامتياز)، لتحضر المتاعب بديلاً عنها، تذكّرنا بمساحات مجهولة مازالت مستكينة في أعماقنا، فـ (غشيم) جاء صحيحاً في بطاقتي المدنية، و(غثيم بالثاء) عند شقيق لي، و(غتيم بالتاء) لدى شقيقة، وعند آخر هو (غنيم). و(عتيم)، و(هشيم)، وهكذا… (غشيم) لا يعرف الثبات بل هو(متحول) في السجلات الحكومية، ربما هو الآخر يريد أن يزيح هذا العبء الثقيل في البحث عن إلفة وتعاطف مع الأسماء المجاورة، لكن البداية تبقى معلقة بالجذر.
قد يبدو للبعض أن للإسم طاقة تفعل فعلها فينا، وربما حالة كهذه يستطيع علم النفس أن يفسرها، هذا الفعل إن صحّ، ترسّخ في مخيالنا وذاكرتنا، الأمر الذي دعانا أن لانقاوم الهواجس المبالغ فيها، بتأويل ما نتعرض إليه من إخفاقات وخسارات في الحياة والعمل والسياسة والعلاقات، وفي الأرواح (عائلة غشيم فقدت ثلاثة أحفاد في شهر واحد) فنردّه إلى (قدرنا) الذي ورثناها من (غشيم)، نحن لا نخوض المغامرات، ولا عرفنا المقامرة، اغلب الأحيان لا نمتلك الجرأة في خوض المنافسات، أو شراء بطاقات اليانصيب تكون فيها النتائج محسومة لأصحاب الحظوظ العظيمة، فلا حرج علينا نحن ذرية (غشيم) إن سهونا وتناسينا وغفلنا أو خسرنا أو فقدنا أحبتنا في موت مفاجئ !
هذا الإحساس يتدخل أحياناً في تشكيل بعض استجاباتنا لهذا المعنى، دون أن نصدّق صوَرهَ وحالاته اللامنطقية، نتندر بها مع التكرار، ونتصرف على أساسها دون وعي، و(طاقة الإسم) التي يزعم البعض أنها تؤثر في شخصية الإنسان وتصرفاته، تبدو ماثلة أمامنا في حالات معينة لا تشكل قاعدة لما أشرنا إليه، لكنها تبدو متطابقة مع ما يحمله الإسم من دلالات في بعض المواقف والإخفاقات .
فالطالب (برغوث) يعاني من سخرية زملائه، وابتعادهم عنه، خشية من لدغة الحشرة (برغوث)، وهمْ المخاوف منه قادته إلى الخجل من اسمه، ثم الهروب والعزلة والانطواء على نفسه. لكن ماذا عن آخر اسمه (حرب)؟ وهو إنسان رقيق ومسالم، وماذا عن إسم (چلوب)، أو (بعر)؟ إذاً أين التفسير الذي يذهب إليه الزاعمون بـ (طاقة الإسم)، وتأثيراته الماورائية؟
لتهدأ مخيلتنا إذاً، فما عادت التداعيات التي تأتينا تمسك بالطبيعة الإنسانية التي تمتلك قوانينها، وماعاد التمسك بجدّنا (غشيم) يشغلنا كثيراً مادام أولادنا وأحفادنا تخلصوا من تبعاته، وما دام أغلب العراقيين يشاركونا المصير ذاته، فنحن جزء من كل، من شعب (غشيم) يضحك عليه الساسة الفاسدون والسراق، يمررون عليه أكاذيبهم وتفاهاتهم.
***
د. جمال العتابي