أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: جوهر القانون الطبيعي

علي رسول الربيعيإن المقصد الاسنى لتقليب النظر المتكرر من قبلنا في القانون الطبيعي هو محاولة للتدليل والتأكيد على أن هناك حقوق طبيعية أولية للانسان بوصفه انسان في كل زمان ومكان، وهي ذات صلاحية كونية وسابقة لكل تشريع وضعي وهي غير قابلة للانتهاك.

ماذا يعني مصطلح القانون الطبيعي حقا؟ متى وكيف يأخذ السبب صفة كونه سببًا صحيحًا؟ي قترح هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها ذات الصلة.

الطبيعة والقانون الطبيعي

اختلاف الناس في أسلوب معيشتهم، وفقًا للعرق والزمان والمكان حال معروف حتى قبل أن تؤكده العلوم التجريبية كعلم الاجتماع وعلم الأعراق البشرية ( ethnology). تبدو الاختلافات في بعض الحالات، مدهشة للغاية لدرجة أنها دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن دراسة علمية للإنسان لابد أن تتعامل معه على المستوى الفردي حصريًا. الأ انه على الرغم من النطاق الواسع للخصوصيات المذكورة أعلاه، فإن الناس من جميع الأعمار والأماكن يمتلكون بعض الخصائص الواضحة التي تصنفهم في فئة خاصة بهم من بين الكائنات.

لا تكشف نتائج العلم الحديث الطبيعة الحيوانية والعقلانية المتأصلة الخاصة بالإنسان فحسب، بل حتى التجربة البسيطة تكشف عن ذلك. يتميز الإنسان اينماكان بمحاولاته التفكرية لتغيير ظروف وجوده وتفسير ظواهر الطبيعة المادية. تمكنه قواه المنطقية من اكتشاف غائية الأشياء، وإدراك الاتجاه الصحيح الذي يجب أن تتخذه بعض الكائنات، وخاصة البشر، من أجل تحقيق تطورها الكامل. يكشف مثل هذا البحث والاستقصاء في الطبيعة عن القوانين الأساسية التي تحكم النظام الصحيح للمجتمع البشري. هذا النظام هو المقصود بمصطلح القانون الطبيعي بالضبط.

يتقدم العلماء في بحثهم عن الحقيقة وفقًا لطريقتين عمومًا، إما من السبب إلى النتيجة، أو من النتيجة إلى السبب. من الواضح أن الأخير فقط هو المفيد في دراسة الطبيعة البشرية. يدل المعنى المقصود بالطبيعة هنا، على "المبدأ الداخلي الذي تنبع منه الملكات أو الغرائز تجاه الأشياء".[1] ولكن حتى الملكات أو الغرائز الطبيعية لشيء ما لا يمكن للعقل البشري بلوغها على الفور. إذن، لابد من أن تبدأ معرفة الطبيعة بغايات أو إنجازات هذه الملكات التي تدركها الحواس بوضوح.

ستوضح ببعض الأمثلة المبدأ العام القائل بأن غاية الشيء تحدد طبيعته والعكس صحيح أيضا. بمجرد التأكد من طبيعة الشيء بشكل كافٍ، يمكن التنبؤ بالغايات الضرورية لملكاته وعملياته. لفهم طبيعة القلم، ينظر المرء إلى نتاج عمله، أي الكتابة. إنه من الشائع جدًا في اللغة العادية تعريف الشيء بما يقوم به. قد يقول المرء إن السيارة هي شيء يستخدم لنقل الأشخاص أو البضائع من مكان إلى آخر. وفي ترتيب الكائنات المتحركة ، تُفهم طبيعة الشجرة جزئيًا من خلال حقيقة أنها تنتج أوراقًا وأزهارًا، وكذلك بذرة لنمو الأشجار الأخرى. وسيكون من الضروري لمعرفة ماهية الحيوان دراسة عاداته وطريقة عيشه.

إذا كان الإنسان يرغب في فهم طبيعته عليه أن يدرس من خلال الملاحظة المباشرة أو التفكير، الوظائف الطبيعية لملكاته، احساسه وعقلانية. لا يختلف الانسان في هذا الصدد عن الكائنات الأخرى، فله مخزونه الطبيعي الخاص من الوسائل التي تتكيف مع مختلف الغايات. لديه، على سبيل المثال، أسنان للمضغ، ويدان للإمساك بها، وأعضاء هضمية للحفاظ على حياته، وأعضاء تناسلية للحفاظ على الجنس البشري. كما أنه يتمتع بقدرات الكلام والفكر، وهي خصائص له وحده. وتنطبق الملاحظة نفسها على الغرائز والميول الطبيعية التي توحي باستخدام هذه الملكات. هناك سلسلة كاملة من الدوافع والاحتياجات عند الإنسان يدركها مباشرة، مثل الجوع والعطش والغريزة الجنسية والرغبة في المعرفة والحاجة الى المجتمع والميول الدينية. وهذه ليست سوى عدد قليل من الميول الأساسية التي تكشف عن طبيعة الإنسان العاطفية.

يجب التمييز على الفور بين الميول الأساسية للانسان، سواء تلك التي تعطيها الطبيعة أو تلك التي يخلقها. قد يكون الأخيرة طبيعيًا، ولكن ليس بالمعنى المقصود هنا، على أنها "معطى من الطبيعة". فقد يُطلق، على سبيل المثال، على الميل لشرب المشروبات الكحولية وتناول الطعام المطبوخ تسمية طبيعية، ولكن ليس بالمعنى نفسه للميل الطبيعي لتناول الطعام والشراب بشكل اساس. يمكن للمرء أن يعيش بدون الكحول والطعام المطبوخ لكنه لا يمكنه يعيش بدون طعام وشراب. [2]

ماهيًة القانون الطبيعي

قد يتبادر الى ذهن المرء سؤال في هذا السياق: ما هي العلاقة بين هذه الغرائز الطبيعية وفكرة القانون والقانون الطبيعي؟ الجواب أن هذه إن العلاقة هي نتاج عقلانية الإنسان.[3] على الرغم من أن الكائنات غير العقلانية لا تعرف معناها الاصيل، إلا أنها تتمتع أيضًا بميول طبيعية تدفعها بطريقة محددة إلى التطور والكمال المتوافق مع طبيعتها. من ناحية أخرى، لا يدرك الإنسان وجود هذه الميول الطبيعية فحسب، بل إن قدراته المنطقية تمكنه من إدراك الغرض منها، أي إدراك مضمون الخير والكمال المتأصل فيها. إن الخير يشكل في الواقع القوة الدافعة وراء كل أفعال الإنسان؛ وبالتالي فهي غاية طبيعته كلها. فكل فاعل لديه هدف محدد لأفعاله، وإذا اختار هذا الهدف فذلك يرجع إلى الجاذبية التي يمارسها عليه باعتباره نتيجة استحسانه كشيء خير. ومن ثم فإن القاعدة الأساسية التي يطبقها الإنسان على نفسه هي: "افعل الخير واجتنب الشر"[4]، ونظيرها الاجتماعي: "قدم لكل إنسان حقه"، أي الخير الذي يستحقه كإنسان.

يرى الإنسان، في ضوء ذلك، غايات هذه الأغراض الطبيعية بوصفها وسائل عديدة لبلوغ خيره الكامل، وتطوره الكامل كإنسان. نتيجة لذلك، تأخذ هذه الغرائز طابع المعقولية. لم تعد مجرد ديناميكية أو دوافع، بل هي أيديولوجيا، ومبادئ، وأحكام عملية، ومبادئ عقلانية للعمل.[5] وهكذا تم تفصيل واجب فعل الخير وتجنب الشر في العديد من القواعد السلوك المشتقة من التعاليم المختلفة للقانون الطبيعي.[6]

إن العملية المزدوجة التي يدرك فيها الإنسان القيمة الأخلاقية لغرائزه الطبيعية، والتفكير الجاد والدراسة المناسبة لعلم الأخلاق أو القانون؛ هو علم القانون الطبيعي. ويبدو مع ذلك أن هناك طريقة أخرى لإدراك هذه الحقائق ايضًا وهي الفهم الغريزي وغير مفاهيمي للنظام المتأصل في الميول الطبيعية للإنسان. ومثال ذلك هو كيف يمكن للطفل، أو البالغ الذي لم يقوم بالتفكير، أن يتوصل إلى استنتاجات مماثلة، في بعض الحالات، لاستنتاجات الأخلاقيين المتعلمين. إن من شأن مثل هذا الفهم للقانون الطبيعي أن يفسر أيضًا لماذا يمكن أن يتوصل الناس الذين ينتمون إلى أيديولوجيات وخلفيات دينية متعارضة وعنيفة إلى اتفاق عملي على حقوق الإنسان الطبيعية.

تثبت "هذه الحقيقة " أن أنظمة الفلسفة الأخلاقية هي نتاج التفكير في الحقائق الأخلاقية التي تسبقها وتتحكم فيها وتكشف عن نوع معقد جدًا من جيولوجيا الضمير، حيث يكون العمل الطبيعي للعقل العفوي والما قبل العلمي وما قبل الفلسفي مشروطة في كل لحظة بعمليات الاكتساب والأكراه وبنية وتطور المجموعة الاجتماعية".[7]

إن "كل تلك الأشياء التي لدى الإنسان ميل طبيعي إليها، يدركها العقل بشكل طبيعي على أنها خيرة، ونتيجة لذلك يجب متابعتها في الأعمال؛ ومخالفتها كشرور يجب تجنبها".[8] وبالتالي فإن المبادئ المحددة للقانون الطبيعي لن تكون حقًا استنتاجات من المبدأ الأول، ولكن سيتم تصورها على هذا النحو، في المجال العملي، بطريقة مشابهة للاستنتاجات المستخلصة من المبدأ الأول في الترتيب التأملي.[9] وبالمثل، فإن هذه المبادئ المحددة نفسها، عندما تُعرف بطريقة غريزية ، ستنتمي بشكل صحيح إلى القانون الطبيعي. [10]

لستُ في وضع يسمح لي بالحكم على هذا التمييز الدقيق، على الرغم من أنه يبدو مقبولًا بالنسبة له كحل تاريخي. ومع ذلك ، لانرى أننا مجبرين على تبني مصطلحات الأكويني، وسيستمر في الحديث عن القانون الطبيعي حتى عند معالجة المزيد من الاستنتاجات المستخلصة بعقلانية من المبادئ. وعلى كل حال، إذا كان يتعلق أحد المبادئ بالقانون الطبيعي، فلا يبدو أن هناك سببًا يجعل الاستنتاج الموجود فيه غير واقعي والاستدلال المنطقي منه لا يتعلق بالقانون الطبيعي أيضًا. يستمد المرء منطقياً من المبدأ الطبيعي القائل بأن الناس يجب أن يعيشوا في المجتمع، على سبيل المثال، المبدأ القائل بأن وجود شكلاً من أشكال الحكومة ضروري؛ هذا ينتمي أيضًا إلى القانون الطبيعي.

لتلخيص المفاهيم التي توصلنا اليها ، يمكن القول أن جوهر القانون الطبيعي يتكون من عنصرين متميزين. الأول، تستمد طبيعته من الوظائف الطبيعية لملكات الإنسان والميول الطبيعية لممارستها. الثاني، يعود أصل عنصر القانون إلى نور العقل الذي يدرك العلاقة بين هذه الملكات والغرائز وأفعال الإنسان. يوجه كل افعال الانسان بالتكييف مع ما تشير إليه غرائزهم الطبيعية.[11]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.................................

[1] M. Cronin, The Science of Ethics (4. ed., 2 vols., Dublin: M, H. Gill and Son, Ltd., 1939), I, 127-128. 

[2] Cronin, The Science of Ethics, I, 164.

[3] Maritain, Man and the State (Chicago: The University of Chicago Press, 1951), p, 87.

[4] توما الاكويني، الخلاصة اللاهوتية، ، ترجمة بولس الخوري، المطبعى الادبية، بيروت، 1881،

Aquinas , St. Thomas, Summa Theologiae, lallae,q.

[5] Sertillanges, The Philosophy of Laws, Collection of Essays "Facts and Ideas," Vol. II,: Editions Alsatia, 1946.

[6] Rommen, The Natural Law, A Study in Legal and Social History and Philosophy (trans. by Thomas R. Hanley, St. Louis & London: B. Herder Book Co., 1947), p.178.

[7] Maritain, Man and the State,p.80.

[8] Aquinas , St. Thomas, Summa Theologiae, lallae,q.94,a.2 ( تجد اقتباسات الأكويني في Maritain, Man and the State

[9] Aquinas , St. Thomas, Summa Theologiae

[10] Maritain, Man and the State,p.98.

[11] Farrell, The Natural Moral Law According to Saint Thomas and Suarez (Ditchling: St. Dominic's Press, 1930), p. 97

 

 

في المثقف اليوم