أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نقد العلموية للميتافيزيقا

حاتم حميد محسنالنقد الثالث للميتافيزيقا بعد نقد كانط والوضعية المنطقية مرتبط بالرؤية  التي تسمى العلموية "scientism" وتؤكد على ان المنهجية العلمية هي الاتجاه الأفضل في فهم العالم قياسا بالمنهجية الميتافيزيقية. ان مفردة "علموية" استُعملت اساسا بازدراء  من جانب النقاد الذين يعتقدون ان بعض الداعين لإتّباع الطريقة العلمية قد ذهبوا بعيدا في الادّعاء بان العلم هو الطريقة الوحيدة في وصف العالم، لذلك هم يرفضون الميتافيزيقا والطرق الثيولوجية والانسانية في التحقيق. الاستعمال غير المتطرف للعلموية (وهو المتّبع في هذا المقال) يؤكد على اتجاه معتدل في النظر الى العلم باعتباره يقدّم طريقة اكثر وثوقا وأملاً في وصف العالم ولهذا يجب ان تُفضل على الطرق غير العلمية. الادّعاء هنا هو ليس ان العلم هو الطريقة "الوحيدة" المقبولة للتحقيق، وانما يجب ان يكون الطريقة العملية للتحقيق طالما ان سجلات العلم الحديث كانت ناجحة جدا. الطرق غير العلمية ربما مفضلة في مجالات لايتم استكشافها بما يكفي بواسطة العلم، مثل مسائل الجمال والحب.

عندما ظهرت الميتافيزيقا في اليونان القديمة قبل 2500 سنة، لم تكن هناك طريقة علمية صارمة ولهذا كانت الميتافيزيقا أفضل العلوم في ذلك الوقت. الميتافيزيقيون القدماء تأملوا في موضوعات مثل العنصر الأول الذي صُنع منه كل شيء، أصغر جسيم في المادة و حركة الكون. من الواضح ان تلك كانت محاولة لتوضيح السمات المختبئة للعالم بطريقة شبه علمية. بعد ذلك توسعت الميتافيزيقا لقضايا اخرى مثل الاشياء المجردة مدّعية عمل اكتشافات شبه علمية حول العالم. لكن العلم الحقيقي والطريقة العلمية تطورا دراماتيكيا منذ ذلك الوقت، والاتجاه العلمي أثبت انه مصدر اكثر موثوقية وفائدة للمعرفة والحقيقة.

عندما تدّعي الميتافيزيقا وصف العالم، فهي تتبع منهجية ذات طريق مسدود فهي لا هي علمية حقا، ولا مساعدة للعلم ولا حتى بديل للعلم الحقيقي . انها بقايا مهترئة للماضي تعمل فقط لترفيه الفلاسفة وتضليل أي شخص آخر. جدال العلموية ضد الميتافيزيقا ليس نفس جدال الوضعية المنطقية، انه ليس نقدا للشكل اللغوي للادّعاءات الميتافيزيقية وانما نقد للكيفية التي تتجاهل بها الميتافيزيقا التقليدية العلم الحقيقي. نقد الميتافيزيقا من جانب العلموية عُرض في كتاب (كل شيء يجب ان يذهب،2007) للمؤلفين جيمس لادمن و دون روس James Ladyman and Don Ross . يجادلان ان العلم الحديث وفّر أرضية كافية لرفض عدة ادّعاءات وضعها الميتافيزيقيون. الميتافيزيقا حسبما يذكر المؤلفان ، تعتمد على لجوء بلا أساس للحدس على حساب ايجاد علم حقيقي للإجابة على اسئلة حول العالم، ومثل هذه التأملات "ليس لها قواسم مشتركة مع الواقع مثلما تصفه الفيزياء مقارنة بعمل الكوزمولوجي القديم في العناصر الأربعة والعوالم السماوية التامة". الميتافيزيقا التقليدية لهذا "لا تساهم بشيء للمعرفة الانسانية و، ليس لها أي تأثير ابدا، بل هي تشوّه منهجيا الأهمية النسبية لما نعرفه على أساس علمي". المشكلة الرئيسية، حسبما يقولان، هي ان الحجج الميتافيزيقية تعتمد على الحدس الذي يبدو معقولا مع انه لا علاقة له بالحقيقة. هي اكثر شبها بالتأملات الفنية و "لها مشتركات مع مزايا كتابة القصة وليس مع العلم".

أثناء تطور الانسان، تكوّن حدسنا عن العالم كطريقة لتعقّب الأشياء ذات الحجم المتوسط مثل الظباء التي نطاردها ونأكلها، والأسد الذي نحتاج للهروب منه. هذا الحدس ليس له علاقة بالأشياء الصغيرة الحجم مثل الجسيمات دون الذرة، او الأشياء الكبيرة جدا مثل المجرات والثقوب السوداء. وطبقا لذلك، "لا سبب هناك لتصوّر ان حدسنا المألوف والإستجابات الاستدلالية صُممت جيدا للعلم او للميتافيزيقا". التفكير الرياضي هو الذي يمكّننا من فهم الواقع الصغير جدا للذرات ولمجرات الكون الهائلة، وليس حدسنا. المؤلفان كطبيعيين يتمتعان بذهن علمي، يجادلان "اننا لا نهتم بالحدس ابدا". وبينما يستنتج المؤلفان ان الميتافيزيقا التقليدية يجب رفضها، هما يعتقدان انه لازال هناك  دور  لما يسمى "الميتافيزيقا الطبيعية":

الميتافيزيقا يجب ان تحاول فقط تقديم توضيح موحد ومتعدد الحقول لما تخبرنا بشأنه علوم معينة عن الواقع. هذا لا يذهب بالضد من العلم ولا يعمل بشكل مستقل عنه، وانما هو يشبه الوسيط بين مختلف فروع العلم التي تحاول ان تأتي بعمل جامع عن القضايا ذات الصلة والذي  "يوضح مجتمعاً اكثر من مجموع ما يتم توضيحه  بفرضيتين منفصلتين".

ماذا يجب ان نعتقد بشأن هذا النقد للميتافيزيقا من جانب العلموية؟

الكثير منه لا يمكن إنكاره. الميتافيزيقا عادة تطرح نظريات حول العالم ليس لها علاقة بالعلم، وحتى هي في تصادم معه. هذا كان الموقف في دفاع برجسون الميتافيزيقي عن تدفق الزمن، الذي يتعارض مع رؤية اينشتاين العلمية في كتلة الكون. مع ذلك، في دفاعها عن الميتافيزيقا، لعبت الفلسفة الميتافيزيقية دائما دورا هاما كأرض خصبة لأفكار جديدة عن العالم والتي  تطورت لاحقا الى فروع مستقلة للعلم. في القرون الماضية، كل علم كان جزءا من الفلسفة، حيث ان العلوم الصلبة من فيزياء وكيمياء وبايولوجي جرى تصنيفها تحت مظلة "الفلسفة الطبيعية"، والعلوم الاجتماعية من علم نفس واقتصاد وسوسيولوجي جرى تصنيفها تحت مظلة "الفلسفة الاخلاقية". هذه العلوم انتقلت واحدا بعد الآخر  من مكان ولادتها الفلسفي وهي  في النهاية تركت الجوهر اللاعلمي للفلسفة المسيطر عليه من جانب الميتافيزيقا. هذا يكشف الدور الفعال الذي لعبته الميتافيزيقا التقليدية في المراحل المبكرة لتلك الموضوعات، قبل ان تحصل تلك الموضوعات على موطئ قدم راسخ لمنهجيتها العلمية. اذا كانت لاتزال هناك أي عناصر من الفلسفة لها حيوية علمية، فهي فقط مسألة زمن قبل ان يتم الاستحواذ عليها من جانب احد العلوم القائمة او تنشق وتتفرع الى حقل علمي جديد. لايزال، النقد من جانب العلموية يشكل أخبارا سيئة للميتافيزيقيين كما كان الحال بالنسبة لنقد كانط ونقد الوضعية المنطقية. ذلك ليس بسبب ان هذه الانتقادات الثلاثة ضد الميتافيزيقا هي قاطعة. كلا، جميعها تنطوي على ضعف. الأخبار السيئة هي انه رغم ضعفها ، هذه الانتقادات الثلاثة بشكل او بآخر، ستبقى لفترة طويلة. لكن الكثير من الميتافيزيقيين يحاولون تبرير افتراض وجودات ميتافيزيقية، والرد الفوري هو ان مثل هذه الافكار هي مجرد فبركات للذهن،او انها غير قابلة للتحقق، او هي لا تتطابق مع ما  يخبرنا عنه العلم. هذا يعني ، من البداية، ان الميتافيزيقا هي في حالة دفاع.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم