أقلام فكرية

فضيلة عبد الكريم: الفلسفة.. في زمن الوباء وإتيقا الحياة

في كل سنة نقف مع اليوم العالمي للفلسفة منذ ترسيمه مع الألفية الجديدة ليذكرنا بالأسئلة التي طرحت ولازالت تطرح، يوم لتجديد الدهشة من واقعنا، ومع حلول سنة 2020م وقع العقل في حالة احراج حقيقي أمام أجوبة هشة لأن الإنسانية تقف على عتبة متغييرات ومنعرجات غير متوقعة مع انتشار وباء كورونا حيث أصبح معها العقل أمام معايشة مقلقة تحتاج إلى فلسفة تتجاوز التأمل الذاتي الذي كرسته الفلسفة النظرية زمنا وخصصت له أطروحاتها فابتعدت بذلك عن مسرح حياة الإنسان والذي هو بالأساس المنطلق للسؤال والعودة إليه لا الانفصال عنه بالغلو في التجريد نحن اليوم بحاجة إلى حسن التفكير الذي ترافقه جودة التدبير بناء على أسس إتيقية الأفق فيها يقترب من اليومي ويبتعد قليلا عن ضبابية التفكير في محاولة لشرح مخرجات صانعة للوضوح .

- فماهي الأسئلة الجديرة بالطرح اليوم أمام النخب التي تشتغل على الفعل الفلسفي؟

- وهل يمكن للعقل العربي اليوم - المسلم والمسيحي – أن يضع توجها علميا وفلسفيا في ظل التنافس الفكري والإبداعي خارجه وبموازاة المركزية الأوروبية والأمريكية والصينية والروسية؟

- وأمام هذا الوضع هل نحن أمام تعدد أنماط التمركز التي شهدنا من خلالها هشاشة المركزية الأوروبية في مواجهة الجائحة ونتائجها الكارثية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية؟

في اليوم العالمي للفلسفة world philosophy day والذي يهدف إلى خدمة التنوع الثقافي في العالم وقد أكدت عليه منظمة اليونسكو والمشتغلين بالحقل الفلسفي، وأشير إلى أن مبادرة ترسيم هذا اليوم جاءت بطلب من المغرب ولم تأت من البلدان الأوروبية، ربما لا تحتاج إلى هذا اليوم لأن العقل لديها يعيش مساحة من حرية التفكير ويجسد ذلك فعليا في كل أيام السنة .

ولكن مقابل ذلك نشعر بأن المركزية الأوروبية مع مطلع القرن 21 شهدت هزات هددت هذه المركزية التي تربعت عليها لقرون عديدة منذ عهد الأنوار والحداثة وما بعدها .. وعلى الضفة الجنوبية نجد المنطقة العربية التي فرضت عليها الظروف التاريخية أن تكون تابعة رغم المشاريع الفكرية التي كانت تظهر هنا وهناك والتي اتسمت بطابع الفردانية ولم تحقق النسق الجماعي والاستمرارية كبراديغمات نوعية تطبيقية فاعلة، هذه الإخفاقات تعود في مجملها إلى الفكر الديني المتطرف والذي عمل بالتنسيق مع المنظومة السياسية على إقصاء الفكر النقدي الحر لأنه لا يخدم هذه الكيانات التي وجهت المجتمعات إلى حالة من الجمود والتي أغلقت كل أبواب المعرفة، لذلك كان العقل الحر الذي يتوق إلى تفعيل مشاريعه البحثية العلمية والفكرية والفلسفية يغادر هذه المناطق ويستقر بالبلدان التي تعد مركزا للمنافسة الفاعلة والديناميكية أو ماتسمى بمجتمعات المعرفة، وأتحدث هنا جهرا وليس سرا فإن الفلسفة العربية فقدت حضورها منذ أزمة ابن رشد والتي فقدنا من خلالها التفكير العقلاني إلى يومنا هذا وحل محلها التفكير الخرافي والأسطوري والذي له السطوة على ردود أفعالنا .

ومع أزمة وباء كورونا أصبح الإنسان اليوم يبحث عن مخرج ليقهر من خلاله المرض وفي كل أحواله لايخرج عن مفهوم القيم في الحياة كمبحث هام في الحياة لأن العلاقة الثلاثية في الفلسفة متكاملة بين سؤال الوجود والمعرفة والقيم .

فالهدف اليوم في الفلسفة هو وضع حد للبراديغمات المغلقة لرسم أبعاد فكرية إتيقية لما بعد الراهن الذي رسم تشابهات خادمة للتخلف الذي يستهويه الفكر الذي يحاصر ذاته بالخوف من كل تجديد يراجع من خلاله معارفه في هذا الوجود الكوني ويثبت تحدياته في هذا الفضاء المفتوح والمشترك بين الجميع، ومنه أعتقد بأن نجاح أي فعل فلسفي لا يأتي من الإقتباسات المتكررة والتي أغرقت المشهد البحثي الأكاديمي لضرورتها بل تحقيق الوجود الفعلي للفكر الفلسفي لا يكون إلا إتيقا تتماشى مع مشكلاتنا وقضايانا في هذا الفضاء الإنساني المتنوع والذي نستطيع من خلاله الوقوف على وضعنا الحقيقي والذي لا يكون تابعا لحلول الأزمات الماضية لتستمر ديمومتها أو نأخذ من حلول الآخر تطبيقات تامة لقضايا لها سياقاتها النوعية والمتمايزة، ومنه رغم أن هذه الجائحة قد وحدت الإنسانية لكن مقابل ذلك نحتاج إلى تفكير عملي نساهم من خلاله مع الجميع بعيدا عن السطحية والتأويلات السطحية التي عطلتنا قرونا والتي كان فيها العقل العربي مستقيلا بتعبير المفكر المغربي محمد عابد الجابري، هذا العقل المستقيل الذي يحاول الإبتعاد عن كل مناقشة حقيقية ومراجعاتية حول القضايا الحضارية الكبرى .

و عليه إذا استطاع العقل الفلسفي لدينا أن يتجاوز مشكلات التبعية الأديولوجية ليفكر خارج هذا النفق الضيق فبإمكانه أن يبسط تفكيره على معضلاته المتراكمة لأن الأولوية للقادم مع إحداث قطيعة مع المثبطات قد تكون عنيفة خاصة وأن العقل الكوني اليوم يقف في مفترق الطرق مع هذه الدهشة المستعصية لفيروس يربك العلم ويشتت التفكير ويهزم الحياة أمام كل الإمكانيات المادية المتاحة، ربما هو تجديد لصفتة التي أصبحت لصيقة بالفلسفة المعاصرة وهي أنها فلسفة الأزمات المتتالية التي سادت القرن 20 وامتدت إلى القرن 21 تحت مسميات جديدة والتي فرضت إعادة النظر في مشروع الحداثة مرة أخرى بل وأصبح من الضروري تأسيس فضاء عمومي جديد بين النخب بمنطقتنا العربية وبمواصفات إتيقية وتواصلية مختلفة نشترك فيها مع الآخر البعيد ولكن يجب أن نضع دائما خصوصيات تجعلنا نبدع ونبتكر حلولا راهنة بعيدا عن الضرورة الإقتباسية المفرطة في التطبيق لتحقيق إتيقا الفعل المجتمعي العربي بكل أنساقه الفكرية ونتفق حول قيمة التعايش مادامت النتائج واحدة في واقع محيط بنا قد تتعدد أقطابه العالمية مع الانكماش الحاصل من هذا الوباء والمصطلحات الجديدة – الكمامة والتباعد والحجر الصحي – للحفاظ على الحياة واقع لم يعد فيه نموذجا واحدا فاعلا، بل هناك نماذج وعلينا أن نختار مع أوضد دون تناقض لأن التعدد قيمة إتيقية تكاملية بعيدا عن الصدام .

ومنه فإن استقامة التفكير تتطلب تقويم الواقع الذي حولنا قبل الحديث عن الآخر، وبحكم أن الظواهر كونية منذ وجود الحياة والإنسان فإن النتائج تختلف حسب السياقات الثقافية التي ننتمي إليها أولا والتي نشترك فيها ثانيا لنتجاوز الهيمنة الفكرية التي نحاول فهمها لأنها حقيقة في فضاء تواصلي موازي للحياة له سلطة قوية وتوجيهية للفكر ليست في صالح الفكر المستلهك للمعرفة، لذلك كانت الجائحة حقيقة كشفت كل ماهو مركزي وفضحت التبيعية التي صرنا من خلالها ننتظر اللقاح القادم من المخابر والتي تتنافس من أجل تحقيق السبق مهما كانت النتائج الصحية المترتبة على ذلك .

ففي كل سنة تعود ذكرى اليوم العالمي للفلسفة وسط متغييرات تفرض على الجانب العملي فيها أن يحضر بقوة الاستفسار العقلاني في كل الميادين، بدلا من استنزاف الجهد في البناء النظري واللعبة المفاهيمية للمنطق واللغة، فهذا المتغير المتسارع والذي عاد بنا إلى حالة عزلة ومعاملات لم تكن يوما من سلوكياتنا وقيمنا فهو المتغير الذي يتطلب تفعيل الفكر المراجعاتي وربطه بالفضاء الشخصي والعام، لعلها فرصة لمنطقنا المهزوم ومنطقتنا التي تعد من أشد الجغرافيا تراكما وقابلية لتفجير الأحداث ذات الصفة التعطيلية لكل فرصة قد تحدث نقلة نوعية لفكرنا . ولتكن أيامنا كلها تفكير مراجعاتي وتأمل حقيقي بمشكلات الحياة.

 

الأستاذة: فضيلة عبد الكريم - من الجزائر

 

في المثقف اليوم