أقلام فكرية

سامي عبد العال: في غياب الفلسفة.. ماذا تفعل الثقافة؟ (3)

سامي عبد العالتختلف ظاهرة "غياب الفلسفة" ثقافياً عن أيَّة ظواهر أخرى بصدد هذا اللون من الفكر. وسواء أكانت أمامنا مصطلحات مثل "نهاية الفلسفة" أم " بؤس الفلسفة " أم " موت الفلسفة "...، فلم تكن أفكارٌ كهذه وليدةَ أسبابٍ خارج التفلسف عادةً، بل جميعها تمثلُّ (مواقف فلسفية) داخل حدود الفلسفة ذاتها. بمعنى أنَّ الفلاسفة من وقت لآخر يأخذون (موقفاً معيناً) من التفلسف وفقاً لرؤيتهم الجديدة. كلُّ فلسفةٍ جديدةٍ تهدم المفاهيم الفلسفية القديمة ذاتها وتعيد بناءها مرةً أخرى وتعرضّها للنقد الشديد على أسس مختلفةٍ.

لعل التفلسف هو وجهة نظر عميقة إلى حياة الإنسان وآفاقها البعيدة واعيةً بالاختلاف عما عداها من حيوات. إن " غياب الفلسفة " ظاهرةٌ في كيفية تأثير الثقافة وهيمنتها. وهذه النقطة وحدُها كفيلة بإفهامنا طبيعة الثقافة وآلياتها النوعية. وبما أنَّ الفلسفة- غياباً وحضوراً- تكشف أبنيتها العميقة (أي الثقافة)، فهي نشاط فكري دالٌّ على كلا الجانبين. ولذلك، أقول إنَّ غياب الفلسفة المشار إليه يختلف دائماً عما يلي من عناوين:

نهاية الفلسفة

هناك معان لنهاية الفلسفة لا تماثل جميعها فكرة الغياب والبدائل الثقافية لها.

1- تعني النهاية لوناً من "الاكتفاء الفكري" عند حدود معينة: أي أن هناك تشبعاً بأفكار محددة دون سواها وليس ثمة مجال للزيادة أو الإضافة. على سبيل المثال يرى هيجل في كتابه " فينومينولوجيا الروح " أنَّ الفلسفة أخيراً أصبحت مكتفيةً بذاتها". وبالتالي فالمحاولات الفلسفية التالية ليست إلَّا "هوامش" على متون أصلية. حيث يأتي كلُّ فيلسوف ليسبر غور أفكار فلسفية سابقةٍ، ويقوم بدور الشارح لما طرحه الفلاسفة الكبار. الواضح أن التفلسف بهذا المعنى استنفد امكانياته واصبح عقيماً لحد الهزل، غير قادر على الاتيان بجديد وأنه لن يضيف شيئًا ذا بالٍ لتاريخ الفلسفة. بل ربما يكون عبئاً يصعب التخلص منه، حيث سيكرر المقولات والخطابات، لأن منافذ الفكر خلاله قد توقفت عن اختراع أدواته ومفاهيمه.

وعلى الرغم من ذلك، فليس الحل هو "اغتيال الفلسفة "، لأنَّ ما هو مهم في الحياة لا يذهب أدراج الرياح. ولا سيما أنَّ الفلسفة نشاط عقلي لا غنى عنه صراحةً أو ضمناً، وأنها لا تموت، لكنها قد تتراجع وقد تمارس اختفاءً غير محدودٍ. بيد أنَّ حضورها شيء ضروري لممارسة العقلانية والنقد والتساؤل. لأنَّ وجوداً إنسانياً دون (عقل جمعي) سيقعُ في حبائل الخرافة والخزعبلات.

أغلب الفلاسفة بعد هيجل اعترفوا بفكرته عن نهاية الفلسفة بهذا المعنى وقد أخذوا يمارسون بعضاً مما قال. ولكن النكاية أن ما يقومون به هو تصديق للفلسفة الهيجلية من جانب آخر، وكأنَّ هيجل قد وضع أفقاً فلسفياً آخر ليس إلاَّ. وأن استنفاد إمكانيات الفلسفة قد يكرر هذا المعنى الخاص بالنهاية من خلال الآخرين. على وجه التقريب اعترف هؤلاء بهذه النهاية بحسب فلسفاتهم، مثل مارتن هيدجر وميشل فوكو وجاك دريدا وفرانسوا ليوتار وجان بودريار وريتشارد رورتي. إن مفهوم الفلسفة بعد هيجل كسر أنساق الفكر وتجاوز حقيقته التاريخية، أخذا بالبحث في اللامعنى وجوانب الكذب والتفاهة والهامشي والأوهام وفي باثولوجيا المجتمعات والخيال والفكاهة والسخرية.

لقد كانت فكرة النهاية بالمعنى السابق مقطوعةَ الصلة بالمشكلات التقليدية، لكنها ظلت موصولة بطرف آخر من الحياة الإنسانية بحسب الظروف الراهنة، وهو طرف التفكير الحر وتعريف الإنسان الراهن إلى نفسه. وليس هذا فقط، بل قدمت الفلسفة مفاهيم جديدةً تتماشى وتغيراتها، لعلها تبرِّر بذلك مواقعها الجديدة من وقتٍ لآخر.

2- توقف صناعة الانساق الكبرى meta-narratives: رأى فرانسوا ليوتار نهاية السرديات أو الحكايات الكبرى التي تغزل أفكارها حول الحياة والموت والمصير والإله والحقائق(مثل أوهام المسرح عند فرنسيس بيكون). حيث كانت السرديات تتحدث عن كل شيء وأي شيء. وقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي لوك فيري Luc Ferry أنَّ طابع الفلسفة المعاصرة لم يعد طابعاً نبوئياً ولا نسقياً، لكنه عبارة عن فكر نقدي أميل إلى التفكيك من جوانب كثيرة. وهذا هو ما أفقد الفلسفة خلال التاريخ القريب جزءاً من بريقها الميتافيزيقي.

ومن جهة أخرى، اعتقد الفيلسوف الفرنسي ألان باديو Badiou‏ Alain  أنَّ شيوع فكرة " نهاية الفلسفة " يرجع إلى سببين:

أولاً: أن الفلسفة لم تعد تطلق أفكارها كوعود وأحلام كبرى كما كانت قديماً، إذ أصبحت تشعر بقلة تأثيرها مقارنةً بمجالات أخرى: فلا هي بإمكانها (تغيير أحوال العالم) كما يحدث في مجال السياسة (برأي كارل ماركس)، ولا هي تنتج ابتكارات تدفع الحياة كما تفعل العلوم، ولا هي تثير إعجاباً جمالياً لدى الجماهير كحال الأعمال الفنية.

ثانياً: انتشار رأي هيدجر حول الفكر: أن هناك فكراً واحداً كان محدداً لتاريخ العقل (هو الجانب الميتافيزيقي)، وكان بإمكانه تحديد مصير الإنسانية. ولذا يرى آلان باديو حتمية تجاوز الفلسفة الهيدجرية، وفتح فكرنا الراهن على فضاءاتٍ أخرى مثل: التجارب العاطفية، التحولات السياسية، العلوم والفنون والعوالم الرمزية والآداب. ومع ذلك إذا كانت هناك تغيرات تسبب تحولاً عبر مجال الفكر وإذا كانت هذه التغيرات تضعنا في حمأة الأزمات، وتجعلنا نعتقد أنها معززة  لفكرة "نهاية الفلسفة"، فهذا شيء لم ولن يحدث أبداً!!

لا يمكن أنْ تذهب الفلسفة دون رجعة في يوم من الأيام، ويستحيل كذلك أن تنقلب إلى شيء آخر مثل الكائنات الاسطورية. لأنَّ مساحة الفكر الأصيل فيها (مجالاً ودلالةً وأهميةً) لا تنطبق على أي شيء ولا تُمسخ إلى مساحة أخرى مثلما يستحيل أنْ يشغل تلك المساحة سواها. وهذا ما حدث طوال تاريخ الفلسفة المتعرج، فعصرنا الراهن الشهير بالواقع الافتراضي كاد أن يُقصي كافة المشاكل الموروثة من القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر(أي تجنب إدراك الواقع من خلال العقل والتجربب)، ليضع مكانها الموضوعات الشبكية والمتخيلة والبيئات الافتراضية والرمزية والمعارف البينية جنباً إلى جنب مع العوالم الكونية. لهذا يعد القرنان العشرون والواحد والعشرون بمثابة القرنين الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة. وحتى في لحظات انزواء الفلسفة، كما هو شأن رأي بعض الفلاسفة عن نهاية الفلسفة، فإن خطورة الفلسفة تكمن في كونها تشق طرقها الخاصة، ولا تكف عن معاودة الحفر مجدداً لفتح دروباً أكثر حيوية.

بؤس الفلسفة

مصطلح " بؤس الفلسفة " أحد عناوين كتب كارل ماركس التي يناقش فيه قضايا اقتصادية رداً على كتاب فلسفة البؤس لجوزيف برودون. وهو مصطلح ينطوي على "نفس سياسي" واضح، حيث كان المفكر الفرنسي بيير جوزيف برودون (1809 -  1865) قد كتب كثيراً حول علاقة الفرد والدولة.  وأيد برودون فكرة المجتمع المنظم، لكنه اعتقد أنَّ الدولة عنوان لتركز العنف الرسمي، وهو عنف غير شرعي يقوِّض فعلياً أي جهد لبناء مجتمع عادل. وقد كتب جوزيف برودون كتابه " فلسفة البؤس" عام 1846. وبدا أن هدفه الأساس هو نقد النظريات الاقتصادية الآلية التي وجد صداها الكبير في كتابات ماركس واتباعه. فجوزيف برودون، انتقد كتابات هؤلاء جميعاً بصدد " إهمال العامل البشري " وأغفال دور " قوة الإبداع الجماعي " وبشكل أبعد انتقد اهمالهم لـ" حضور الروح في العالم وفي الأخلاقيات". فمن وجهة نظر برودون كانت قضية الماديين الأولى هي اغفال الاهتمام بثنائيات (الخير والشر) المؤثرة في حياتنا العامة.

أما كتاب ماركس " بؤس الفلسفة "، فرغم وجود كلمة الفلسفة في عنوانه مباشرة، فإن الكتاب بالأساس كتاب يتناول قضايا اقتصادية. حيث يحتوي على أسس ومبادئ النظريات التي تم عرضها بالتفصيل في كتاب رأس المال، وكذلك عرض كتاب (بؤس الفلسفة) تحليل النظام الرأسمالي الخاص بالإنتاج والتوزيع بجانب قانون القيمة، ولجأ ماركس إلى الإستعانة بالمنطق الهيجلي، لكي يناقش طريقة تطبيق المادية الجدلية على الاقتصاد السياسي.

وفي هذا الإطار رفض ماركس فكرة جوزيف برودون حول الضرائب الاستهلاكية التي تفرضها الدولة و كذلك رفض استخدام أسلوب الاضراب للاعتراض على السياسات القائمة. وفي نهاية كتاب بؤس الفلسفة، يستشهد ماركس بكلمات جورج ساند حول القتال أو الموت كموقفين معبرين عن تحديد المصير، مؤيداً فكرة النضال لأجل تغيير السياسات من داخل المجتمع وبآليات العمل والكفاح تطلعاً للحرية.

إفلاس الفلسفة

أفلاس الفلسفة تعبير عن عجز الفلسفة تاريخياً عن تقديم شيء ناجع. وأن الإنسان إذا أراد أن يجد في الفلسفة ثراء أو إغناء لحياته البشرية، فلن يجد إلاَّ فقراً مدقعاً. يرتبط التعبير هنا بفينومينولوجيا إدموند هوسرل، حيث لم تقدم الفلسفة حتى لحظته التاريخية ما يلبي احتياجاتنا الإنسانية من معانٍ. يؤكد هوسرل أنَّ تحليلاته الفلسفية تطرح أفكاراً إزاء حالة أزمة بالفعل، وهي الأزمة التي تعاني منها العلوم الأوروبية تحديداً. تتجلى أزمة العلوم، بحسب رأي هوسرل، في هروبها من الأسئلة الجوهرية والحاسمة بالنسبة لوجودنا البشري كله.

وهي أسئلة تتعلق بمعنى الوجود البشري ودلالته، تتعلق بالعقل، وتتعلق بسلوك الإنسان إزاء المحيط البشري وغير البشري، وبحريته في تشكيل محيطه تبعاً لمعايير العقل. على أن علوم الطبيعة من جهتها لا تطرح هذه الأسئلة، لأنَّها تقوم على استبعاد كل ما هو ذاتي.

وحتى العلوم الإنسانية التي عليها الاهتمام بالوجود الروحي للإنسان، فإن علميتها تفترض أن يتجنب باحثوها اتخاذ أية مواقف أو إبداء أية " أحكام قيمة " حول قضايا الإنسان. فالصفة العلمية تقتضي، حسب المنظور السائد الاقتصار على ملاحظة الوقائع ووصفها، سواء أكانت الوقائع متعلقةً بالعالم المادي أم الروحي. وواضح أنَّ إبعاد الأسئلة الجوهرية بالنسبة للوجود البشري من مجال العلم، يجعل العلوم الحديثة عاجزةً عن مساعدة الإنسان في إعطاء معنى لوجوده وفعله، وعن توجيه حياته الفكرية والعلمية توجيهاً ناجعاً.

من زاوية أخرى لا تحمل الفلسفة سمات خاصة بالثقافة الأوربية فيما يعتقد هوسرل، بل إنها إجمالاً إمكانية كامنة في كل ثقافة بشرية على اتساع حيوات البشر. وأكثر من ذلك إذ تعد  الفلسفة هي الشكل الأساسي الذي تتجه نحوه كل ثقافة مهما كانت خصوصياتها. ومع ذلك، فإن الثقافة الأوربية تتميز عن كل الثقافات الأخرى، بأنها الثقافة التي جعلت تلك الإمكانية ترى النور وتنتقل إلى السطح.

ليست الفلسفة عند هوسرل محض أسلوب ثقافي مثل باقي الأساليب الثقافية الأخرى، لكن بإمكان الأسلوب الفلسفي الحقيقي أنْ ينفذ عميقاً إلى جميع صور الحياة البشرية ويطبع كل جوانبها. إن الرغبة الإنسانية في التفلسف ليست، فيما يرى هوسرل، إلاَّ توجيه حياتنا وفقاً لمعايير العقل وباستقلال عن كل الآراء والقناعات المسبقة. أنْ تعيش فلسفياً، يعني أنْ توجه طبيعة حياتك كلها بحسب مبادئ التفكير العقلي المتحرر. وبوصفها نظرية تحكم رؤيتنا وحياتنا، فإن الفلسفة لا تجعل المتفلسف وحده حراً، بل تجعل كل من له تكوين فلسفي حراً بدوره إزاء كل العادات والتقاليد. وعن طريق هذا التحرر النظري المفتوح، يترتب الاستقلال العملي في كل أمور الحياة الإنسانية.

والأزمة التي تعرفها أوروبا هي (أزمة معنى) بالدرجة الأولى ناتجة عن سيادة النزعة الموضوعية الباردة وتصورها المادي الضيق للعلم. هذا التصور يُقصي خارج المعرفة العلمية كل الأسئلة التي تتعلق بالإنسان في وجوده العميق، والتي تنتمي إلى الفلسفة بدلالتها الدقيقة، أي الأسئلة التي هي موجودة في الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا. والعلم، في إطار هذا التصور، مركب يضم كل العلوم الجزئية التي تغطي كل وجوه الأشياء وعالم الموجودات، وتجعلنا بالتالي في غنى عن الفلسفة. اختصاراً، فإنّ أزمة العلوم الأوروبية لدى هوسرل أزمة معنى وثقافة بأكملها. وأهمّ معنى وراء أزمة العلوم، هو فقدان دلالتها الإنسانية بالنسبة إلى الحياة.

فراغ الفلسفة

الفراغ من المعنى هو الأساس في القول بأن الفلسفة لا تلوي على شيء حقيقي. ذلك بحكم أنَّ الفلسفة تقول كلاماً مجرداً لا يمس الأشياء ولا يمكن ترجمته إلى أدوات عملية. فالكلام الممتلئ هو الكلام المعبر مباشرة عن الواقع وأن تكون هناك قابلية لإختبار صحته أو صحة نتائجه. وهذا رأي الوضعية المنطقية عندما تسعى إلى تحليل النظريات العلمية وتوحيد لغة العلم وتوحيد العلوم كلها في فلسفة علمية تشملها جميعها. ومن ثمَّ، جاء استبعاد جميع قضايا الميتافيزيقا والأخلاقيات واللاهوت.

وذلك طبقاً لما تحمله القضايا من أفكار عامة لا مجال للتحقق منها، وكذلك بوصفها نوعاً من الثرثرة اللفظية الفارغة من المعنى. ومن ثمَّ كان رأي الوضعيين أنْ يتم تضييق نطاق الفلسفة والفكر داخل نطاق محدد ومعروف. ويحدث هذا بوقف مهمتهما على ربط اللغة وفقاً للتجربة ربطاً علمياً بالموضوعات والأشياء و وأن تقوم بصياغة الواقع الخارجي صياغة منطقية عن طريق استخدام أساليب التحليل المنطقي، إضافة إلى أنَّ مهمة الفيلسوف يجب ألَّا تتخطى تحليل اللغة والعلاقات بين المعاني.

ويقترن تأكيد الوضعية المنطقية للملاحظة التجريبية بالأخذ بمعيار للمعنى يتمثل في مبدأ قابلية التحققverification  من صدق القضايا. إذ أن معنى القضية أيا كانت هو أسلوب تحققها الفعلي، بحيث نتأكد يقيناً من وجود معنى ملموس لها. وبالتركيز على مشكلة المعنى طورت الوضعية المنطقية أيضاً مبدأ التبريرjustification، أي أن شيئاً ما سيصير ذا معنى إذا كان مسوّغاً أو قابلاً للتبرير بطريقة علمية.

وتلك الفكرة الخاصة بفراغ الفلسفة من المعنى مختلفة عن غياب الفلسفة، لأن الغياب حدث في مجال الثقافة. لا يتم ذلك بناء على مذهب فلسفي كما تفعل الوضعية المنطقية بل على أساس بدائل لها هيمنة ومركزية، بحيث تزيح الفلسفة جانباً وتُفشل أيَّ وجود لها.

الفكر بديل الفلسفة

هذا الرأي يعتقد أن الفلسفة تعود أساساً إلى الفكر كلون مختلف من النشاط الإنساني. وأنه إذا كانت الفلسفة قد استنفدت أهدافها تاريخياً ولم تستطع مواصلة الطريق نحو غايات أخرى، فلا عليها إلاَّ أن تأخذ منحى فكرياً آخر وأكثر أصالة. ولا يعني ذلك أن نهاية الفلسفة هي نهاية مطلقة لها كأننا إزاء مرحلة أشبه بيوم القيامة لكل فلسفة، أي نطلق عليها الفلسفة النهائية أو الختامية بصورة من الصور. فالفكر سيواصل المسيرة بشكل جديد معتبراً أن النهاية حياة مختلفة دون الوقوع في صور دجمائية انهت حياة نمط معين من التفلسف لتبدأ حيوات مدهشة للفكر.  ثمة سؤال صاغه جاك دريدا كالتالي: كيف يمكن فهم خطاب النهاية (الفلسفة) وهل يمكن فهم نهاية النهاية (الفكر) ؟

ولذلك كان التركيز على خطاب النهايات فقط كوجهة نظر أخيرة قد أحال إلى الأسس الفلسفية التي دعمت فكرة القيامة( الأبوكاليبس Apocalypse ) التي اجتاحت حقول الفكر المختلفة. وظهرت مصطلحات مثل: موت الإله، موت الإنسان، نهاية الفلسفة، نهاية الأيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الحقيقة، موت الواقع. وقد وضع هذه الأسس فلاسفة أمثال: كارل ماركس،  فردريك نيتشه، مارتن هيدجر ومفكرون وسياسيون مثل جان بودريار وجيانو فاتيمو وفرنسيس فوكوياما.

من ثمَّ، يمكن فهم رأي مارتن هيدجر إذ يتم التعبير عن  وضع حد لنهاية الفلسفات التقليدية التي ستبعث في الفكر بعثاً فاعلاً. لقد تحدث هيدجر على نحو قوي عن مهمة التفكير. إذ تساءل عن شيئين مترابطين: بأي معنى نتحدث عن نهاية الفلسفة؟ وما هي المهمة الباقية للفكر بعد نهاية الفلسفة؟  ولا يجب أن ننسى كون الفكر يأتي بمعنى مؤثر وحر، وأنه لا يتوقف على عقيدة سابقة التجهيز ولا متعلقة في غاية بعيدة الزمن. فنهاية الفلسفة، لا تأخذ عند هيدجر دلالة مباشرة، أي " دلالة سلبية" ، كأنه يتكلم عن قطع مسيرة التفلسف باعتباره نوعاً من العجز والركون إلى الختام المحتوم.

كان مارتن هيدجر يقصد بـ"نهاية الفلسفة" اكتمال وتمام الميتافيزيقا، أي وصولها إلى الذروة التي لا بعدها إلاَّ النقصان. وليس يقصد هيدجر كمال الفلسفةperfection ، أي اطلاقها النهائي باعتبارها ختاماً لا تعقيب عليه. كما أن كلمة النهاية das Ende لا تخلو (في اللغة الألمانية) من دلالة المكان، حيث تمثل نهاية الفلسفة ساحة تستوعب تاريخها الطويل. فاكتمال الميتافيزيقا يدفع الفلسفة كي تتخذ نهايتها القصوى ومكانها المعروف سلفاً. ذلك في زمن إنتصار التكنولوجيا، حيث تغلب فيه النظرة العلمية على أي شيء آخر. إن دلالة كلمة النهاية على المكان تجعل لكلمة النهاية دلالة أخرى غير الختام، وهي رسم التخوم وتعيين الحدود limits، ولا يرتبط هذا الأمر بإنتهاء الفلسفة ولكن بنهاية للفلسفة عند تخوم معينة.

هكذا، فإن نهاية الفلسفة تشكل حدود التفلسف في عالم اليوم، وتحيل على  مفهوم الإشكالية وتصبح أحدى وظائف الفكر هي عملية التهيؤ والإعداد والانتظار لما هو قادم وليس التأسيس ولا التأصيل. وهذا يعني أنْ على الفلسفة التخلي عن نزعة الكهانة أو العرافة بصدد المستقبل وأحداثه،  ويجب في المقابل أن تستغرق في إيقاظ قدرات الإنسان من أجل عالم ممكن، صحيح أنه عالم غير واضح التفاصيل والإحداث، ولكنه محتمل وممكن.

وهذا المعنى لسؤال الفكر غير مطابق أيضاً لغياب الفلسفة في بعض الثقافات، لأن الفلسفة تخضع لعملية تغييب ثقافي متعمد، وأن البدائل لها لن تكون إلا أكثر هيمنة وأقل وعياً بنشاطها الفكري. ولئن كان هيدجر يري في الفكر مراناً على التهيئة وشحذ العقول، فإن التغييب سيدمر كل يقوم بهذه المهمة، حيث تنكفيء البدائل على ما هو متاح لا أكثر.

موت الفلسفة

انتشرت فكرة موت الفلسفة لدى أغلب تيارات مابعد الحداثة. وليس هذا فحسب بل تبنت موت الإنسان نفسه على أنه أمر حتمي من حيث كونه كائناً بيولوجياً. وذلك لصالح تحوله إلى كائن إفتراضي في عوالم تقنية أخرى يفرضها الواقع الفائق للوصف من خلال التقنيات والوسائط والبيئات الافتراضية. والفلسفة تتراجع من تلك الزاوية بوصفها أخر الصروح الكبرى التي يحتمي بها الانسان. ومن ثم نظرت ما بعد الحداثة إلى التفلسف بأنه يوجد غريباً في عصر غسق الحضارة وموت الواقع والإله.

وفي هذا ظهر الكلام باختلاف مجالاته عن الأبوكاليبس Apocalypse كرمز للحديث عن تلاشي العالم. أي أصبح مصطلح الأبوكاليبس علامةً للحظات الاحتضار الأخيرة للإنسانية، وظهرت فنون وآداب ومعارف وطرائق الديستوبيا  Dystopia  وهي روايات تحكي عن مجتمع غير فاضل تسوده الفوضى، فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض والدمار، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته ويتحوّل فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ تتقاتل مع بعضها البعض.

وبالتالي ستشهد الحياة أحداثاً صاعقةً، وانفجارات مرعبة للبحار والمحيطات، وانشقاقات عملاقة الجبال والوديان، واقتراب السماء من الرؤوس المذعورة خوفاً من ويلات الأحداث. فأصبحت فكرة الأبوكاليبس رمزا لنهاية العالم كما في السينما وبخاصة أفلام الرعب والأكشن. حتى بات الأبوكاليبس يحتل مكانة بارزة في المتخيل العام المتداول على المنصات والمواقع الإلكترونية. وتمَّ صناعة نوع من الأسكاتولوجيا الفلسفية philosophical eschatology، تهتم فقط بالنهايات الأخيرة: الموت، نهاية العالم، وبصفة عامة الأحداث المُرعبة القادمة. تدخل في الصورة نتاجات العقل والفكر من اتجاهات وأيديولوجيات ومعارف.

بهذا المعنى، تكون " الإسكاتولوجيا الفلسفية " آراء وأفكار وأخيلة عن النهايات المفزعة، إذ تتضمن معتقدات المصير الأخير،  مصير الإنسان (إسكاتولوجيا فردية eschatology  individual) أو مصير الكون (إسكاتولوجيا كونية cosmic eschatology). وترتبط تلك المعتقدات برؤى تدور حول الإنسان والطبيعة والعالم والحقائق النهائية.

ولكن هذا المعنى لموت الفلسفة يختلف تماماً عن ظاهرة غياب الفلسفة، بل إنّ الفلسفة لا تتوارى إساساً بهذا الشكل المفاجئ. والغياب يساوي ثقافياً الإمتلاء والحضور. لأنَّ الفلسفة تترك آثارها البعيدة على هيئة أسئلةٍ إنسانيةٍ تظل مُلحةً وباحثةً عن إجابات شافيةٍ. وأنّ غياباً فلسفياً ما قد يمثل أرشيفاً لحياةٍ لم تتحقق بعد بوافر زخمها الإنساني.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم