أقلام فكرية

سامي عبد العال: لماذا تغيب الفلسفة؟.. سلطة القول (4)

سامي عبد العاليبدو "معنى الغياب" موضوعاً للاستفهام طالما يتم بآليات الثقافة، إذ تُغطي الأخيرةُ الفراغَ بجوانب هامشية على نحو تعويضي. لكن ما الذي يدفع أيةَ ثقافةٍ لهذا العمل التعويضي؟! هنا لا ننسى أنَّ الفلسفة تتحسسُ المجال العام كقاعدة حرةٍ خارج ذواتنا، ولا ننسى تأكيدها بأنَّ (إنسانية الإنسان) لن تكتمل إلاّ حينما يُفعّل هذا المجال بين الناس. والفلسفة لا تملُك إزاء ذلك إلاَّ (فعلَّ القول)، سواء أكان كلاماً إنجازياً أم تداولياً أم عقلانياً أم نقدياً. حينئذ تدخل كلُّ فلسفة صراعاً مع (مصادر القول وقدراته) على التأثير، أي صراع على (نتائج التفكير) داخل حياتنا العامة.
المسألة إذن كيف تُشارك الفلسفة في الحوار وصناعة الشأن العمومي للمجتمع؟! وهل مشاركتها أساساً مقبولة أم لا؟ وبخاصة أنَّ القول العمومي هو الخلفية العمياء blind background التي تتنازعها قوى كثيرة (دينية وأخلاقية وسياسية)، كلٌّ منها يرى نفسه الأوحد للتحدث بلسان المجتمع ليس إلاَّ وأنه لن يتنازل عن التأثير والصراع من أجله بالأظافر والأنياب حتى الرمق الأخير .
القول العمومي
جاء في اللغة العربية: الغيب من الأرض: أي ما غيّبك منها هنا أو هناك خلال الترحال من مكانٍ لآخر. والغيب أيضاً بمعنى الشحم أو الدُهن، أي الشحم المتكون في تَرِب الشاة (صدر الشاة). وغاب الشيءُ.. اختفى واحتجب دون النظر. وهذا معناه أن الغياب فقدان للحضور والشهود مقارنة بشيء أساسي (مرجعية ما تمارس حضوراً دائماً) وكذلك هو تكوين حي يحتاج معرفة أسبابه (علته). وبالنسبة للأفكار الفلسفية، فإنها تغيب بمساحة (القدرة العمومية) على حجبها في نطاق يتم التحكُّم فيه. والحجب في الأنظمة الثقافية يتم بحسب النمط الغالب منها على سواه. فيُحول هذا النظام أو ذاك أيَّ منافس له (على المكانة والتأثير) إلى مرحلة عابرةٍ لا تؤثر في المجتمعات.
ليس مصادفةً أنْ تُطلق كلمة الغابة في العربية كأحد مشتقات الغياب على: " الجمع من الناس"، وهو جمع مشوش وغير قابل للتنظيم كثيراً ما تحقق في واقع الحياة. فأحداث الفوضى تعد آلية دفاعية تلجأ إليها الأنظمة المستبدة عندما تشعر بالخطر. ولا يخلو السياقُ من عنف المشهد نتيجة التجاذب والتدافع بين الأطراف على تلك (المساحة المشتركة). فالغابة هي أيضاً الرماح المجتمعة كلما اتفق بلا ترتيبٍ. وهي على التشبيه بالأجمة ذات الشجر المتكاثف - كما يقول اللغوي ابن سيدة - كدلالةٍ على الاضطراب والاختلاف مع وجود الرياح (الأهواء).
إن الغياب العمومي للفلسفة لا يتم تلقائياً بحالٍّ من الأحوال. كلُّ غياب من هذا الصنف يتم بفعل فاعل يُدرك ما يريد كضربٍ من العمل الذي ينتظر نتائج بعينها في الواقع. ونظراً لكون الغياب هذه المرة فكرياً، فإنَّ سلطة أو أخرى للقول تكمُن خلف تصوير الأحداث وترتيب معطياتها. والفلسفة تندرج – بحكم هيمنة السلطة – في تفاصيل الصورة كما لو كانت منتميةً إليها بعناوين مختلفة. ومن تلك الجهة يعد الغياب تغييباً متى كان موضُوعه مؤثراً ومتى كان يشكل تحرراً. فاللغة تقدم شهادتها على ما يجري، لأنها أرشيف الحياة العامة الظاهر منها والمحجوب. والاستفهام يجري تلقائياً حول لماذا لم تكن الفلسفة واضحة التأثير لدينا نحن العرب؟!
هنا لا ينفصل الغياب عن " سياسات تدجين " المعقول intelligible داخل الفكر السائد. لدرجة إنه لو بدا " المعقول" غريباً كما في الأدب والفنون والمعارف وبعض الفلسفات والسرديات الشعبية والقصص الرمزي، فلن يُجدي إزاء قبضة الهيمنة عبر أية جماعةٍ بشريةٍ. والمعقول العربي أحد الأشكال التي لا تتركها الثقافة الشائعة بلا سيطرة. لأن المعقول لايجب تركه مشاعاً بين أيدي كل الناس(كل من هب ودب كما يقال). وبالمناسبة يدخل في دوائر المعقول الكلام المختلف عن السائد، الأفكار خارج السلطة والأحلام وهوامش الثقافة والأشعار والروحانيات الصوفية والأفكار الجديدة. كل ذلك يضم إلى بعضه البعض تحت بند: الفكر الذي ينتجه الإنسان لأجل معرفة مختلفة. ولذلك يكون قولاً غريباً محل توجس وريبة.
الفلسفة أحد أجناس القول التي تخاطب المعْقول الحر في الثقافة، وتضع آليات ومفاهيم عامة لجعله متاحاً لدى القطاع الأكبر من الناس. فكان طبيعياً أن تجد حرباً ضروساً حول تلك العملية من منتجي المعقولات وسياساتها في الثقافة العربية. ولذلك تحول الصراع من مجرد التعبير عما يجب أن يكون إلى صراع حول البقاء والفناء.
في التاريخ العربي، كان انتشار الأساطير والخرافات، أي "ذهنية الخفة والمبالغة "، هو الرد المناسب على من يريد معقولاً حُراً. ونتيجة اختلاط السرد والشفاهية بالفكرة العقلانية في ثقافتنا كانت الأفكار عاجزة عن الصمود أمام السلطة. وكانت المحاكاة على خلفية السمع والطاعة هي الوضع الذي يرسمه الحكام والأنظمة السياسية والعادات والتقاليد في اتاحة اليقين. لأنَّ نموذج الخطاب العام لدينا هو خطاب (ايمان واعتقاد) باختلاف مجالاته قبل أي شيء آخر. ويتميز بالخلط والتوظيف لخدمة القائم على صناعة الكلام.
وقد أخذ الخطابُ أشكالاً من الوصايةِ على حرية العقل (كلام الفقهاء)، وعلى أطر الجسد والغرائز (علاقة المرأة والرجل)، على المشاعر والعواطف (فتاوى التحريم والتحليل)، وعلى الحقيقة (مقولات الفضيحة والمداراة والصمت)، وعلى النص (تقديس الأصول)، وعلى الفعل (مركزية القرار والروتين الرسمي)، وعلى التنظيم الاجتماعي (الهندسة السياسية للمجتمع)، وعلى الحركة (آليات الضبط والمراقبة)، وعلى الروحانيات (التحكم في ممارسة الشعائر والطقوس الدينية)، وعلى التربية (مؤسسات التعليم)، وعلى الآخر (الإقصاء والغلبة)....!!
والوصاية الخطابية تفترض راعياً لا يمل الإمساك بزمام الأمر. وتفترص أيضاً رعية تتلقى ما يقوله بشكل سلبي. المجتمعات العربية ربما بدرجات فارقة عن غيرها نُحتت على مقاييس الثنائية الشهيرة: " الراعي والرعية ". فالعلاقة رأسية حتى النخاع ولا تكون أفقية أبداً ومازالت هكذا حتى اللحظة في السياسة والاجتماع والمعرفة واللغة والتراتب الوظيفي والمهني والطقوس والحوارات والممارسات العامة. نتيجة أن السلطة في الثقافة العربية سلطة (هرمية)، وليست مستوية ولا دائرية ولا متعددة الزوايا. في الفكر اليوناني كانت الدائرة هي أتم الأشكال الهندسية وأكملها بياناً بينما في الشرق كان الهرم هو أبلغ وأقوى الأشكال الرياضية التي تعكس نمط الحياة السائدة. لأن هندسة السلطة ميتافيزيقية- سياسية لدى الشرقيين إجمالاً، لكنها في بلاد اليونان كانت أرضية ممتدة خارج ذاتها.
ولعلَّ هذا يعني أن غياب الفلسفة في المجتمعات العربية كان شيئاً مقصوداً (لفاعل خفي دوماً) بحكم قوانين الثقافة التقليدية وآليات عملها. إنَّه نوع من التغييب المقبول بين الناس، والذي تم التأكيد عليه تاريخياً، أي أن هناك فعل فاعل عمومي وراء المسألة. فالناس اتفقول بحوافز من السلطة على تغييب العقول والأفهام على التأثير. وحين يكون الغياب شاملاً (مع اختفاء الفاعل العيني والذي قد يُنصِّب من يقوم بهذه المهمة)، فالثقافة تدير الصورة لصالح أنشطة وقوى غالبة، سواء أكانت سياسية أم دينية أم اجتماعية.
إقصاء الأسئلة
معنى الغياب إذن هو تأويل لإقصاء الأسئلة الفلسفية والتأسيس الماهوي للفكر. ففي المجتمعات التي يغلب عليها التقليد تكون الأسئلة ملعونة، تكون مصدراً للقلق والمطاردة من جهات كثيرة. لعنة الأسئلة تلاحق من يبحث عن إجابات مهما كانت بسيطة. ومع أن الحقيقة هي الغاية وراء أنشطة الإنسان، إلاَّ أنها تأتي عادة محجوبة بأغطية رمزية تحول دون معرفتها. وقد رسُخ ذلك الإهمال الثقافي العربي للمعقول كخطط استراتيجية للتعامل مع الواقع، حتى أن أحداثاً سياسية واجتماعية قد تكون مهمة إلاَّ أن الأفراد لا يعبأون بما يجري. الثقافة العربية جعلت من (سياسات اللامبالاة) جزءاً من تكوينها العضوي. والأفراد يعترفون بالعجز عن التفكير عند الأزمات هروباً من الحياة. وباستمرار تنمي السلطة الحاكمة هذا (الهروب الجماعي) لدى الأفراد حرصاً على بقاء تأثيرها في مجال القول.
بينما الإلتزام الفلسفي يحتم على الفرد التفكير والسلوك كأنهما عملان للإنسانية جمعاء، أي أن نفكر كما لو كنا نفكر ونفعل لأجل الآخرين في الوقت نفسه. وهذا نوع من التكافل الدنيوي الاجتماعي إزاء أناس هم شركاء الأحداث والظواهر. أي أنه نوع من التبادل الإنساني للمواقع، لكنه يتأسس على انفتاح العقل وتقبل المغاير وإقامة الحوار والمناقشة. وهو الإلتزام المبذول من واقع إرادة عامة بالدرجة الأولى وإنْ تجسدت فردياً في شخص أو غيره. وهو ما ينتج المسؤولية المتبادلة مع المؤسسات وإرادة الفعل في الدولة.
من جانب آخر يرتبط تغييب الوعي (المعرفة، النقد، صورة الحقائق) بتصورات اللامرئي: فيقال غاب الشيء أي احتجب واختفى عن الأنظار. لكن تأويلات الدين تمثل عملية غياب مقصودة لأي وعي آخر باسم المقدس. حتى أنها قد قابلت ورجحت كلمة (الغيب) كمضاد لكلمة الشك، حين ينكره البعض وحين يحمله البعض الآخر على المجاز... وقيل عن نبي الإسلام(إنه نبي يعلْم الغيابا)، أي يعرف الغيب والأقدار والأحداث المجهولة. وفي القرآن جاء عن المؤمنين (الذين يؤمنون بالغيب)، أي يؤمنون بما غابَ عنهم، وكل ما غابَ عنهم مما أنبأهم به الله فهو غيبٌ ... والغيب ما غاب عن حواس وقدرات البشر.
وهذا معناه أنَّ رجال الدين يتعاملون مع أصنافِ الوعي في الحياة مثل تعاملهم مع (الغيب الديني) الذي ينطقون بلسانه واسمه. فيحبذون وجودَ أناس بلا وعي سياسي أو اجتماعي أو معرفي، وأنْ يكون رجال الدين هم الممسكون بهذا الغياب بالطريقة ذاتها. وكانت الثقافة الدينية هي ما رسخت مصادر هذا الغياب لصورة الحقائق في المجال العام. لأنها تؤكد دوماً على انحجاب المقدسات والمعتقدات ثم تقدم خطاباً عنها وإخباراً عن ضرورة تأثيرها في الحياة.
في المقابل ترفض الثقافة الدينية أن تخضع للنقد ولا حتى للتفتيش فيما تقول. ولم تدرك أنَّه حتى الإيمان بالغيب حينما يُعلَّق (بسلطة ما خارج ذاته) يجب مسألتها بحكم ارتباط تفاصيل الحياة بها. ولكن ما حدث تاريخياً كان العكس أن السلطة الدينية إزدادت هيمنة وأفرطت في صناعة البدائل بينما لا يوجد تحرر ولا أي نقد، وقد جري هذا الوضع على كافة مناحي العمل البشري. وعليه تمَّ تقليص مساحة الحرية وتحريم الأسئلة للسلطة القائمة فكريا وسياسياً. وبذلك شكل الغياب في الثقافة العربية جزءاً كبيراً من هويتها حتى أمسى آلية لليقين والحوار والتصديق.
ثم كان على السياسةِ أنْ تتعامل بمنطق الغياب تباعاً، حتى تنال قبولاً وتصديقاً بالطريقة نفسها. قيل إنَّ قصُور الحكام في التراث العربي كانت ملفوفةً بالأسرار ومظاهر الغُموض والظلام الدامس والدهاليز السياسية. وفي محاولة لتعميم ذلك الوضع، كانت القرارات والأعمال تتم بليلٍّ خارج المراقبة الشعبية إن وجدت. وتمَّ كذلك احتكار السلطة لصالح النخب والأسر والعائلات الحاكمة. وبالمقابل طالما لم يكن هناك سوى الغياب، فقد ظل الطريق الأقرب للتعامل مع السلطة هو طريق المؤامرات والدسائس. وهذا جانب كان يشكل بعداً كبيراً في تكوين اللاوعي الشعبي وما يتسرب إليه من أسرارٍ تخص رموز السلطة والأنظمة السياسية تحديداً.
اتساع القول
اتسعت دلالة " الغياب " لتمس وضعية المرأة كأبرز العناصر التي ينطبع عليها نمط الفكر السائد. جاء في اللغة العربية " امرأة مغيبة "، أي غاب عنها بعلُّها أو أحدٌ من أهلها.. وفي حديث ابن عباس أنَّ " امرأة مغيبة" أتت رجلاً تشتري منه شيئاً فتعرّض لها، فقالت له ويحك يا هذا إني مغيب، فتركها وشأنها. والغياب بصدد الأنثى يكشف على طريقة بيير بورديو علاقات السلطة الذكورية التي تضعها على مفترق معانٍ نسقية systematic meanings واسعة الانتشار. فهي عندئذ ضعيفة في مهب ريح الثقافة التي تدفعها إلي زاوية ضيقة من الحياة، كما أنها موضوع لإسقاطات سلطوية بحكم النفي من التأثير والظهور، وأنها مجرد كائن ممتثل للتنظيم السياسي الاجتماعي وأنه يجب عليها ألا تخرج من بيتها إلا بحجة وبرهان. فالمرأة المغيبة هي التي وُضعت تحت الوصاية بعناوين شتى، حيث قد تتعرض لعين القوة الباحثة عن موضوعها.
إذن للغياب كما ذكرنا دلالة الوصاية التي تحل محل الغائب أو تُقهره على ممارسة الغياب. ولا يستطيع الغائب إلاَّ أن يتسق مع محيطه وكذلك لا يفلت من آليات حضوره في بديل آخر. ودلالة المرأة كاستعارة لحرية الفعل والفكر والرغبة في الفعل والقول ترمز إلى الفلسفة التي مازالت تُعلَّق عربياً بسترة الوصاية. فلا تستطيع المرأة (دون مضايقات) قيادة السيارة ولا قيادة حياتها ولا الخروج ولا التسوق ولا الذهاب إلى الطبيب ولا إلى العالم. بالأسلوب نفسه تعد الفلسفة المغيبة هي ما غاب سيدها الثقافي. ولنا أن ندرج في قالبها العام كلَّ أفكار ناظرة نحو التحرر. بل كيف سيكون ذلك وهي معلقة بمعصم يهيمن على وجودها؟!
وكما قال جاك دريدا Derrida في كتابه " الحق في الفلسفة": قبل الكلام عن الأبنية المرئية أو كثيفة الوجود (المدرسة، الجامعة، السلطة، الأسانيد والمبررات الشرعية) هناك بالأحرى التعامل مع تجارب الخطاب واللغة. إذ تحاول المؤسسات أنْ تملي علينا البلاغة وإجراءات البرهنة على أفعال القول، وكذا طريقتنا في الكلام والكتابة التي سنوجهها لكل لآخر. ولذلك فأن نسائل بشكل نقدي أو تفكيكي علاقتنا بالفلسفة، يعني أن نضع أنفسنا محل المؤسسة ومفارقاتها أيضاً لمعرفة كيف تعمل.
وربما هذه الآلية البديلة هي أكبر عقبة في طريق التفلسف وترتهن بالتقاليد التي تجر كافة أقنعتها الخطابية المسيَّسة ضمن مجالات الفكر. كيف يتم تحرير القول الفلسفي؟ عندئذ من ذا الذي بإمكانه إنكار أن الفكر الفلسفي(العربي)، لفظا أو جملةً أو نصاً أو معنى أو تأويلاً أو شرحاً، هو فكر غارق في التقاليد؟.. ورغم أنَّ الثقافة العربية قطعت أشواطاً من التحول ليست بالقصيرة تجاه الماضي إلاَّ أن التقاليد تستدير للهيمنة على الفكر بشكل رمزي مرةً بعد أخرى.
على أنه في بداية الفلسفة تاريخياً لم يكن هناك انفصال بينها وبين الحياة الجارية ولم توجد إطلاقاً فكرة تجنبها(مثل موت الفلسفة، نهاية الفلسفة، إفلاس الفلسفة، غياب الفلسفة) ليحل محلها شيء آخر حتى وإن كان من جنسها المؤثر الذي قد يقع في دوائر الثقافة العامة. ولذلك أغلب الآراء العربية التي تنتقد صورة تتورط فيما تضعنا أمامه من انتقادات. فالتقاليد تعبر عن متون اللغة والأفكار والذهنيات التي تنقل (سلطة التفكير) بأسماء المجتمع والحقيقة والدين.
إن ضرورة وجود القول الفلسفي الحر تعني ضرورة عودة أدوار الفيلسوف إلى المجتمع والمدن والعوالم التقنية، بما هو محاور فذ يغوص في الجدال العمومي، يتحدث مع الناس ويحررهم من أسر اليومي، يحاور العلوم ويحاور باقي المشتغلين بالفكر وأمور العقل، ويناقش برامج السياسة وخطط الحياة اليومية والأنظنمة المعرفية والتعليمية والتربوية والإقتصادية. إن ضرورة وجود الفيلسوف هي ضرورة الحلم بحياة أفضل، ضرورة العيش تحت مظلة الإنسانية، والتي من شأنها أن تشعرنا بالثقة والقدرة على إبداع المستقل.
ومع ذلك هناك تراث عربي ضخم ضد خراج تلك الفكرة للنور، يروي أغلب المؤرّخين قولا لابن رشد مازالت له دلالة كبيرة بقدر ما هو مؤثر وفاجع فعلاً. فعندما كانت تحترق كتبه أمام المارة، لمح فيلسوف قرطبة أحد تلامذته الواقفين معه يبكي بمرارة شديدة، فالتفت ابن رشد نحوه قائلاً: يا عزيزي إن كنت تبكي حال المسلمين، فبحار الأرض لن تكفيك دموعاً، أمّا الكتب فاعلم أنّ للأفكار أجنحة تطير لأصحابها!!
يقول أبو حيان التّوحيدي، في الإمتاع والمؤانسة(ساخراً) من التفلسف: "أين الدّين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بـ" الوحي النّازل" من الشيء المأخوذ بـ"الرأي الزّائل"؟ مع أنه إذا كانت المقارنة بين الوحي والفلسفة لأجل الاختيار وإبراز أهمية الدين، فلا وجه للمقارنة أصلاً. لأن الاختيار لا يعني أن الشريعة ضد العقل وأن على الإنسان أن يؤكد العداء بين رجال الفقه ورجال الفكر كما يبدو. فالحياة المشتركة تصنع عادة صيغاً عقلانية حُرة مدهشة أو هكذا يكون الأمر بحيث لا يقصي هؤلاء أولئك. ويقول الإمام الشافعي: "ما جهل الناس واختلفوا إلاَّ بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطو طاليس". والعبارة بها تدليل على اختزال الفلسفة وشخصنتها في شخص أرسطو على طريقة التفكير العربي. وقال الفقيه زكريا الانصاري (شافعي المذهب) في كتابه "أسنى المطالب": " وأمَّا تعلُّم علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبائعيين والسحر فحرام".
وما ينطبق على الشافعية ذهب إليه اتباع أبي حنيفة، قال ابن نجيم (حنفي المذهب) في كتاب "الأشباه والنظائر" : " تعلُّم العلم يكون فرضَ عين على الإنسان, وهو بقدر ما يحتاج إليه لدينه. وفرض كفاية, وهو ما زاد عليه لنفع غيره. ومندوباً, وهو التبحر في الفقه وعلم القلب. وحراماً, وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبيعيين والسحر".
طالما كانت الفلسفة خطاباً تساؤلياً منفلتاً من اليقينيات ومحطمةً للقيود: سياسية أو دينية أو إيديولوجية أو تاريخية، فوجود الفلسفة النقدي الحُر يجعلها حجرَ عثرةٍ أمام كل سلطة واستغلال للوعي الشعبي. إن أنصار التطرف الديني والفكري لم يتوانوا عن القيام بمحاولات حثيثة داخل جميع الفضاءات(الشارع، المدرسة، المساجد، المنابر الإعلامية والسياسية، الجامعات، الرياضة، المناسبات الاجتماعية) لتأليب الناس ضد المنطق والفلسفة، وتصويرها في شكل خطابات شاذة، مجنونة، ودخيلة يلزم الحذر منها على الدوام، حتى تختفي في المستقبل. وليس بعيداً أن بعض البلدان العربية قد أبعدت الفلسفة عن ديارها كأنها عدو قاتل، مبررةً هذا القرار السياسي بفتاوى دينية تحرم الانحرافات الفكرية، لأنها باعتقادها السياسي اللاهوتي، مخالفة لشريعة الله وعقيدته السماوية.. وبالنتيجة تم رفع شعار: "من تمنطق فقد تزندق".

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم