أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: السياق اللامتماثل والحوار بين التقاليد الفلسفية (2-2)

علي رسول الربيعيعالمية الفلسفة وخصوصية الثقافة
يمكن للخطاب الفلسفي أن يأخذ في الاعتبار "المشاكل الجوهرية" ويحاول تطوير استجابات ذات صلاحية عالمية، كمساهمات يمكن مناقشتها من قبل الثقافات الأخرى، بما أنها تنطوي على مشاكل بشرية وبالتالي عالمية في طابعها. يجتهد كارل أوتو آبل[1] في تحديد الشروط العالمية للصلاحية اللازمة لخطاب فلسفي يعبرعن وجهات نظر متباينة مع المركزية الأوربية حيث يمكن أن تكون هناك احتمالات متماثلة لكل من المشاركين للانخراط في المناقشة الفلسفية؛ وخلاف ذلك، لن تكون استنتاجات المناقشة ذات صلاحية عالمية لأن لم يكن المشاركين في ظل ظروف وأوضاع متساوية. هذا مبدأ منهجي ومعرفي وأخلاقي، وبدون أي مضمون يستند الى أي حكم قيم مادية معينة لأي ثقافة، يمكن تقييمه من قبل الثقافات الأخرى.
لاتنفي العمومية المجردة للمبادئ وبعض الرؤى، التي تشكلت باسلوب مختلف على المستوى المادي لكل ثقافة أن تكون "جسورًا" تفتح أمكانات الحوار بين التقاليد الفلسفية المختلفة. إن هذه الميتا- فلسفة هي نتاج البشرية جمعاء، فحتى لو ظهرت في البداية في سياق ثقافة خاصة، أو في تقليد محدد أو فترة تاريخية معينة، فانها قادرة على إحراز تقدم أكبر في القضايا العامة والعالمية، ويمكن ان تتعلم من داخل حدود افتراضاتها التاريخية الخاصة جميع التقاليد الأخرى.
ونأخذ مثال بارز على ذلك هو تقدم الرياضيات بشكل ملحوظ في بغداد حيث ساهمت في قفزة لتطوير الفلسفة العربية (الأفلاطونية- الأرسطية) وأثبتت فائدتها للتقاليد الأخرى ايضًا في القرن العاشر الميلادي. إن فلسفة مجردة تمامًا من ايً علاقة بأي ثقافة محددة غير ممكنة، فجميع الفلسفات تأتي في سياق ثقافة معينة، مع ذلك قادرة على الانخراط في حوار مع الفلسفات الآخرى من خلال منظور المشاركة في المشاكل الجوهرية والخطابات ذات الطابع الفلسفي التي تكون عالمية بوصفها تهم كافة البشرية.
حوار التقاليد الفلسفية
لقد حجب الأصرار على أن وظيفة العالمية تتحق من خلال الفلسفة الأوروبية الحديثة العديد من الاكتشافات المهمة التي حققتها التقاليد الفلسفية الأخرى. وهذا سبب اساس للتأكيد على أن المهمة الكبرى التي تنتظرنا في هذا القرن الحادي والعشرين هي بدء حوار بين التقاليد الفلسفية في العالم.
علينا أن نبدأ بحوار بحوار فكري- فلسفي عميق وشامل بين الشمال والجنوب. أننا نتذكر الاستعمار وموروثاته، واستمرار تدخلاته العسكرية ونتائجها التي تشمل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن البنى الثقافية والفلسفية. فماتزال فلسفة المجتمعات في عالم ما بعد الاستعمار (بمشاكلها واستجاباتها الخاصة) غير مقبولة بشكل عام أو غير معترف بها ومستبعدة من قبل نظرائها في المجتمعات المهيمنة.
وهنا نقطة ذات أهمية ايضًا ألأً وهي الحاجة إلى إجراء حوار مستمر بين بلدان الجنوب نفسها وتطوير قواعد هذا الحوار من أجل تحديد جدول أعمال المشاكل الفلسفية الأكثر إلحاحًا ومناقشتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلخ.[2]
علاوة على ذلك،علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت التقاليد الفلسفية الأخرى (بخلاف تقاليد أوروبا وأمريكا الشمالية) قد واجهت الأسئلة التي تجاهلتها تقاليدنا، وأن تلك التقاليد استكشفتها بطرق مختلفة، مع أهتمامات أو قيم مختلفة. فقد توفر الاختلافات وجهات نظر جديدة عند اشراكها. ومطلوب، ايضًا، أن يكون هناك حوار بين الشرق (وهومفهوم غامض كان قد فككه إدوارد سعيد) والغرب (مفهومغامض أيضًا)، فقد نتساءل: من ماذا يتكون الغرب؟ هل هي أوروبا الغربية فقط ، فأين نضع روسيا في هذه الحالة والتي كانت بالتأكيد جزءًا من ثقافة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية القديمة؟ وهل يعود اصلها ومنشأها الى اليونان؟ وهذا يمثل مشكلة أيضًا لأنه بالنسبة لليونان كانت بقية أوروبا همجية مثل المناطق الأخرى في شمال مقدونيا. اذن، نحتاج إلى إعادة صياغة كاملة لتاريخ الفلسفة حتى نكون مستعدين لمثل هذا الحوار.
يشير العمل الرائد لعالم الاجتماع راندال كولينز،[3] الى الجوانب الرئيسة التي يُتطلب أن تؤخذ بنظر الأعتبار بخصوص الفلسفة العالمية. يتخطى تحليله المقارن حدود الجغرافيا والتاريخ حيث يتناول عظماء الفلاسفة الصينيين، والهنود، والعرب، والأوروبيين، وأمريكا الشمالية، والأفارقة، ويصنفه في أجيال ومن حيث أهميتها النسبية. على الرغم من الإغفالات الصارخة نقاط الضعف في عمله؛ فقد فشل، مثلا، في تكريس سطر واحد لخمسمائة عام من فلسفة أمريكا اللاتينية ، الا إنه يوفر معلومات غنية لمزيد من التفسير والتأويل. إنه عالم اجتماع يقدم قدرًا كبيرًا من المواد للتفكير الفلسفي.
علينا إرساء الأسس التربوية من خلال تعليم الأجيال القادمة تقاليد فلسفية متعددة. أن تبدأ دراسة، عن سبيل المثال تاريخ الفلسفة على المستوى الجامعي مع "أول فلاسفة الإنسانية العظماء والمفكرين الذين طوروا الفئات الأصلية للتفكير الفلسفي في مصر (إفريقيا)، بلاد ما بين النهرين (بما في ذلك أنبياء إسرائيل)، اليونان، الهند، الصين، أمريكا الوسطى، الإنكا، وإلخ. ثم دراسة "الأنطولوجيا الكبرى"، بما في ذلك الطاوية والكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية والإغريق (مثل أفلاطون وأرسطو وحتى أفلوطين) والرومان، إلخ. وأن تُستكشف المراحل اللاحقة التطور الفلسفي في الصين (بدءًا من تأسيس إمبراطورية هان)، والأمثلة اللاحقة للفلسفة البوذية والهندية، والفلسفة المسيحية البيزنطية، والفلسفة العربية حتى الفترة المعاصرة، وما إلى ذلك. هذه هي الطريقة التي يمكن أن يبدأ بها الجيل الجديد في التفكير فلسفيًا بعقلية عالمية. وأن ينعكس النهج نفسه في الدراسات المتخصصة في الأخلاق والسياسة والأنطولوجيا وغيرها.
حوار الفلسفات لتعدد عابر للحداثة
بدأت فلسفات المناطق الأخرى من العالم إعادة النظر في منظوماتها الفلسفية واستعادة إحساسها بتاريخها المدفون تحت إعصارسياقات وتأثيرات "الحداثة" بعد أزمة طويلة نتجت عن تأثير الثقافة والفلسفة الأوروبية الحديثة. نأخذ عن سبيل المثال الفيلسوف العربي المعاصر، محمد عابد الجابري الذي قام بتقييم نقدي للثقافة العربية وتقاليدها الفلسفة في أعماله: نقد العقل العربي،[4] ونحن والتراث[5]. فنجده أ) يرفض التفسير التقليدي من قبل السلفيين أو الأصوليين، اذا يعتبره رد فعل ضد الحداثة يفتقر إلى إعادة بناء إبداعية للماضي الفلسفي. ب) يقدم أنتقادات قوية وصارمة الى "التفسيرات الماركسية" العربية التي تنسى تقاليد تلك الثقافة وتضفي عليها تصورات من خارجها.[6] ج) ويرفض بالقوة نفسها التقاليد الليبرالية ذات المركزية الأوروبية التي لا تقبل وجود "فلسفة عربية" معاصرة. فيجري بحثًا أصليًا في التقاليد الفلسفية للمفكرين العظام في المدارس "الشرقية" (في بغداد ونحو الشرق) والمدارس "الغربية" (قرطبة) التي تتمحور حول مساهمات ابن رشد. لقد أجرى الجابري في المرحلة الثانية من استكشافه، نقدًا للتقليد الفلسفي العربي من خلال توظيف موارد الفلسفة العربية نفسها، معتمدًا على بعض إنجازات مناهج القراءة التأويل الحديثة. مكنته هذه الرؤية التركيبة من اكتشاف عناصر تاريخية جديدة في التقليد الفلسفي العربي. لقد أنتجت الفلسفة العربية، التي استلهمت من التجريبية العلمية أنذاك والفكر الأرسطي الصارم فيلسوفا تنويرًا حقيقيًا، أنه الفيلسوف العربي العظيم ابن رشد الذي يحدد تمامًا ما يجب أن يكون عليه الحوار بين الفلسفات، وهذا على عكس ما فرضه الفلاسفة والمؤرخون الأوربيون من أن اصل الفلسفة الأوربية الحديثة يعود الى الى الفلسفة اللاتينية الجرمانية.
لا شك علينا أن نستلهم النسغ الحيً من مساهمات كل من سبقونا (الإغريق والمسيحيون) كمصادر للمساعدة في دراستنا العقلانية نظرًا لأن الفلاسفة القدماء درسوا بالفعل قواعد التفكير (المنطق، المنهج) بعناية كبيرة؛ وسيكون من المناسب تكريس جهودنا لدراسة أعمال هؤلاء الفلاسفة القدماء، فإذا وجدنا عندهم ماهو معقولاً فيمكننا قبوله؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، يمكن أن تكون تلك الأشياء غير المعقولة بمثابة تحذير وأساس للاحتياط.[7]
في المرحلة الثالثة، مرحلة الخلق الجديد القائم على التقاليد االخاصة وتغذيها بالحوار مع الثقافات الأخرى، لا ينبغي أن تعمينا الروعة الواضحة للفلسفة الأوروبية الحديثة عن حقيقة أنها وضعت أساسًا لاستكشاف مشاكلها الخاصة وليس استكشاف المشاكل الخاصة بالمجتمعات في العالم. فكيف يمكن، مثلا، للفلسفة العربية أن تستوعب تجربة الليبرالية قبل أن يمر العالم العربي بتلك المرحلة، أو بدونها؟[8]
نريد أن نتناول نقطة أخيرة وهي أن الحوار الذي يمكن أن يثري كل تقليد فلسفي يتطلب أن يقوم به فلاسفة نقديون ومبدعون في كل تقليد. أحد العناصر الأساسية لمثل هذا الموقف النقدي هو أن يتحمل الفلاسفة مسؤولية معالجة المشكلات الأخلاقية والسياسية ولكن كذلك القضايا المرتبطة بالفقر والسيطرة والاقصاء. أثرت الحداثة الأوروبية على الثقافات في جميع أنحاء العالم بطرق عديدة ومنها من خلال الاستعمارلا سيما في جنوب الكرة الأرضية (في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) حيث استغلت مواردهم، واستخرجت المعارف من ثقافتهم، وتجاهلت ما لم تستوعبه.
عندما نطرح رؤية عن ماوراء الحداثة (trans-modernity )، فأننا نشير إلى مشروع عالمي يسعى إلى تجاوز محددات وحدود الحداثة الأوروبية أو الأمريكية الشمالية؛ أيً الى ما وراء الحدود الفكرية والتاريخية للحداثة. إنه غير مشروع ما بعد الحداثة (post-modernity) ويختلف عنه، لأن مازالت ما بعد الحداثة نقدًا غير مكتمل للحداثة من قبل أوروبا وأمريكا الشمالية. إن ما وراء الحداثة مهمة تتطلب مسارا آخرا وأن يُعبًر عنها فلسفيًا، ونقطة انطلاقها هي تلك الرؤى والأفكار والفلسفات التي تم تجاهلها، وخُفضت قيمتها، وُحكم عليها بأنها عديمة الجدوى أو أقل استخدامًا بين الثقافات العالمية في المناطق المستعمرة. يتضمن هذا المشروع تطوير إمكانات تلك الثقافات والفلسفات التي تم تجاهلها، على أساس مصادرها الفكرية الذاتية أو الخاصة، في حوار بناء مع الحداثة الأوروبية وأمريكا الشمالية. وبهذه الطريقة يمكن للفلسفة العربية، عن سبيل المثال، دمج أاستلهام النسغ الحيً من منظومات وتأويلات الفلسفة الأوروبية، وتطويرها وتطبيقها من أجل أنتاج وتطوير تفسيرات جديدة لتراثها، وهذا ما من شأنه أن يجعل من الممكن تجاوز اشكالية محدودية النص الفلسفي ويساهم في ظهور فلسفة سياسية وأخلاقية عربية جديدة تشتد الحاجة إليها اليوم. ستكون ثمرة التقليد الفلسفي العربي، الناتج عن الحوار بين الفلسفات (ليس فقط مع أوروبا، ولكن بالتساوي مع أمريكا اللاتينية والهند والصين، إلخ)، موجه نحو فلسفة عالمية متعددة المستقبل. هذا المشروع هو ماوراء الحداثة، وعابر للحداثة بالضرورة، وبالتالي عابر للرأسمالية أيضًا.
ستستمر كل من التقاليد الفلسفية المتنوعة في اتباع مساراتها الذاتية- الخاصة لفترة طويلة، ربما لقرون، ولكن مع ذلك، يظهر في الأفق إمكانية قيام مشروع عالمي لتعددية عابرة للحداثة (وهي غير العالمية، وليس ما بعد الحداثة). "فلسفات أخرى" ممكنة، لـ"عالم آخر ممكن".

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
...........................
[1] Karl-Otto Apel Towards a Transformation of Philosophy ‎ Routledge Kegan & Paul, 1979.
[2] للإطلاع على دراسة مفيدة عن جدالات مابعد الاستعمار في امريكا اللاتينية وافريقيا أنظر: كساب، مي، الفكر العربي المعاصر، دراسة في النقد الثقافي المقارن، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2012، ص 402-458
[3] أنظر راندال كولينز، علم اجتماع الفلسفة ، دار جسور للترجمة والنشر، 2019.
[4] أنظر: الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي
[5] أنظر: الجابري، نحن والتراث، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020
[6] أنظر: الجابري، محمد عابد، الخطاب العربي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1999
[7] الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي، ص 157--158 .
[8] الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي، ص 159 .

في المثقف اليوم