أقلام فكرية

محمد عمر غرس الله: النظرية السياسية الرابعة

يطرح المفكر الروسي (إلكسندر دوغين) ما يسميه (النظرية السياسية الرابعة)، والتي تبدو في الكثير منها الرؤية التي تفسر المسار الروسي منذ تفكك الإتحاد السوفييتي، وصولاً إلى  كلمة بوتين يوم 24 فبراير الماضي، وإنطلاق العملية الروسية في أُوكرانيا، فالحركات الوطنية والقومية والتحررية - والنهوض والمقاومة والتحدي والتعبير عن جسارة الإرادة السياسية - لابد أن ورائها رؤية نظرية وفكرة تؤطرها، او على الأقل تعبر عنها، والمفكر الروسي (دوغين) يبدو الأقرب بنظريته هذه، لمعرفة الخلفية والرؤية التي تحرك ما جرى ويجري.

ونحن في المنطقة العربية، يهمنا معرفة نظرية (دوغين) هذه، بالنظر لما حدث ويحدث لنا، فالعالم اليوم متشابك وما يجري يؤثر في الجميع، ومرتبط بطريقة ما بما يحدث في العالم من حولنا، فما يقدمه الفكر السياسي في العالم الأخر المتنوع مهم، غير ما يقدمه الغرب (الأورومركزية) ومؤسساته ومراكز بحثه ومفكريه - وآلته الإعلامية ومنظمته السياسية وحلف الناتو بشكل أُحادي بالفرض بالقوة والسطوة والسيطرة - ولذا يبدو من الضروري والحيوي لنا وللمعرفة وللإرادة السياسية التي تقودنا، الإطلاع على الأفكار الأخرى في هذا العالم، حيث لا يستقيم لنا المستقبل دون التحرر من (الأورومركزية) الفكرية والسياسية والفلسفية، فالتعرف على مناهج وسياقات وأفكار ونظريات الأمم والحضارات الأُخرى، يعطينا ثراء ورؤية أكثر إتساع وعمق وموضوعية، حول ما يفعل الإنسان في هذا العالم.

يرى (إلكسندر دوغين) أن لكل حضارة وأمة نظرية سياسية رابعة، فلروسيا نظريتها السياسية الرابعة، وهناك أخرى صينية، وأخرى عربية إسلامية، وهكذا للأُمم الأُخرى، ويشرح كيف أن التخلص من الإستعمارو الهيمنة يبدأ من خلال إحترام الحضارات الأخرى، وليس تغريبها وأوربتها بالشمولية الغربية، فالحضارة الغربية وفكرها ليس ملزماً على الأُمم الأُخرى، ولكل حضارة منطلقاتها الخاصة في ما يتعلق ".. بالأنسان، والوقت، والفضاء، والله ، والحب .."، ويرى في هذا أن الرأي العام الغربي ليس التعبير الوحيد عن الإنسان، بل هو مجرد أحد الأراء العديدة على وجه الأرض، والديموقراطية الغربية لا تناسب كل حضارة وأمة، فلكل أمة طريقتها في الديموقراطية، ولها أن تطورها من خلال قيمها وثقافتها ودينها.

وحول هذا الشأن، في تتبعنا لما يقوله المسؤولين الروس، وما يجري هذه الأيام، نلاحظ السياق الفكري الذي يحرك الشعور القومي والوطني، كقوة وحضارة لها رؤيتها في القضايا والأحداث، وقد تكلم الرئيس الروسي (بوتين) أكثر من مرة، حول رفض هيمنة النموذج الغربي في السياسة وفي القضايا الدولية السياسية والإقتصادية والعسكرية، وفي القضايا الدينية والإخلاقية، فيما يتعلق (بالتعرض والإساءة  للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا يراه حرية تعبير بل تجني على الدين والمجتمعات الإسلامية، وما يتعلق بالحرب الظالمة على العراق وليبيا وسوريا التي يراها ظلم وعدوان، وتصرف غربي أحادي خارج القانون الدولي، وضرب أمثلة في أكثر من مناسبة، وهذا في حقيقته يتسق تماما مع روية المفكر الروسي (إلكسندر دوغين) الذي يقول في نظريته التي يسميها (النظرية السياسية الرابعة): هناك إنتفاظة عالمية ضد القيم الغربية، فلا نعتبرها شمولية بل غربية، ومن يريدها يبقى معها او يغادر نحوها، أما باقي الشعوب فلها الحق في أن تختار طريقها الخاص لتطورها.

وفي هذا يقول (دوغين) أن التطور ليس له نموذجاً واحداً، فالأنظمة عليها أن تطور مجتمعاتها إنطلاقاً من مباديء حضارتها الخاصة، وعلى البلد أن يطور تقاليده ليتطور بقيمه نفسها، أما ممارسة الهيمنة بالقيم الغربية على المجتمعات، وتطويقها - بحظر او منع او تجريم أي رأي آخر يواجه النموذج الغربي - ويسمي ذلك تولتارية ديكتاتورية غربية، ويرى أن المجتمع الغربي ليس فيه شي منفتح، بل هو مجتمع يفرض سلطته وقيمه وموازينه، ويراه أشبه بمعتقل أكثر مما كان سابقاً، ويقول أن الأفضل هو الإنفتاح على المجتمع الصيني والإسلامي بقيمه، ويرى أن الإنفتاح في روسيا يبدو أكثر بكثير مما هو لدى الغرب.

وهو يصف نظريته بإنها نظرية تصفير الإستعمار و(صراع ملحمي ضد المادية الأمريكية)، فيعتبر أن النظريات الثلاث القائمة (الليبرالية – القومية – الماركسية) كلها ذات منشأ أوروبي، والشعوب الأخرى تبنت شيئاً منها لأنها أسيرة للتغريب، والنظرية السياسية الرابعة تعد محاولة للفكاك من هذا الأسر، وللتحرر من الهيمنة الغربية وقيمها وتفسيراتها ونظرياتها، التي ترى الإنسان الفرد لا الشخصية، بينما الحضارات الأُخرى مثل الثقافة الروسية، لديها فهم وتصور جماعي للإنسان كشخصية، غير منعزلة عن البيئة المحيطة الإجتماعية والثقافية والدينية، والأمر نفسه لدي الحضارة الصينية والإسلامية وغيرها من باقي الحضارات، وهذا ما يتطلب نظرة أخرى لحقوق الإنسان، ويقول أن هذه النظرية السياسية الرابعة تدافع عن الحضارة الإسلامية والعالم الإسلامي، الذي يختلف عن المجتمع الغربي، فالإنسان بلا دين يفقد كرامته الداخلية، ولذا فحقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي لابد أن تقوم على مفهوم إسلامي الذي يختلف عن المفهوم الغربي، فلا توجد نظرية واحدة لحقوق الإنسان، بل لكل حضارة منطلقاتها في هذا، والرأي الغربي، ليس إلا مجرد أحد الأراء العديدة في هذا العالم.

أن (دوغين) يقدم رؤيته الفكرية الستراتيجية، في إطار تمهيده ووضعه لرؤية روسية أوراسية، لكنه يقدمها كوصفة لربما تناسب في البعض منها بقية الحضارات والثقافات والأمم الأخرى، والتي يعتبرها ويقول إنها  تنوع من تنوعات البشرية ولها الحق في تطورها بذاتها وقيمها ودينها، وفي هذا هو يبين الرؤية الروسية الفكرية كمدرسة سياسية، أعطاها أسم الجيوبوليتيكا (الجغرافية السياسية).

وفي ترجمة لكتابه (أسس الجيوبولتيكا) الصادرة عن دار "الكتاب الجديد المتحدة مع دار نشر (أركتوفيا تستنتر)  2004م بيروت"، يقول بأنه لأول مرة تصاغ العقيدة الجيوبولتيكية لروسيا، ويقول أنها الدليل بالنسبة للجميع من الذين يتخذون القرارات في الحياة السياسية الروسية، ويصفها بأنها جيوبوليتيكا أوراسية، ويعرفها بقوله: في أسس الجيوبوليتيكا، "..أمام هذا الإستعراض للإرادة الأطلسية ولجبروتها ونزقها، فإن الرد المنطقي الوحيد هو العودة إلى المخزون الحضاري الخاص، وتجنيد المصادر الإستراتيجية، الإقتصادية، الإجتماعية، والثقافية والضرورية لروسيا، لكي لا تمحى من التاريخ باليد الحديدية لبناة النظام العالمي الجديد، ويقول أن هذه الجيوبوليتيكا الأوراسية ليست ساحة للعداون، بل هي خط الدفاع الأخير.."، ولذا فإن رؤيته هذه تبدو وصفة مفيدة للتعلم منها والنظر في تفاصيلها، مع إعتبار فروق الزمان والجغرافيا والديموغرافية والظروف والإمكانيات، هو سماها جيوبولتيكا أي (الجغرافيا السياسية).

أنها تبدو كالوصفة الفكرية التي تفسر إلى حداً ما القصة الأوكرانية كاملة، وهي في حقيقتها تعبير عن صدام عسكري فج، بسبب إختلاف أفكار وقيم ورؤية، وبالتالي إختلاف مصالح وظهور تهديدات للأمن القومي، فالأزمة الأوكرانية ليست أمراً عارضاً حدث فجأة بدون مسببات تاريخية عميقة - وإنما هي تطور من تطورات الوضع الدولي، مترتبة عما حصل في الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفييتي وتجلياته على بقية العالم، وما يراه مجتمع الشرق الشمالي غلطة تاريخية في حق وجوده وإرادته ومصالحه وأمه القومي، وكان قد سماه المفكر المغربي المهدي المنجرة (الإهانة) وأصدر حوله كتاب (الإهانة في عهد الميغا إمبريالية) مركزاً على تأثير هذه الأهانة على منطقتنا العربية، فما يجري اليوم - من أزمة دولية كبرى وصل فيها لأول مرة في التاريخ البشري التهديد المتبادل بالسلاح النووي على الأشهاد، ويحصل فيها حرب إقتصادية ساحقة ماحقة - له بعده وعمقه الفكري والستراتيجي الجيوبوليتيكي، في إرادة الأمم ومجالها الحيوي ووجودها الحضاري.

لقد عبر الرئيس الروسي (بوتين) في أكثر من مناسبة موقفه من التعرض لقيم الشعوب الأخرى وأديانها، وفي هذا رفض الأساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإستغرب أن يتم تسمية هذه الإساءة حرية التعبير، ورفض بشكل واضح وصريح إقرار المثلية الجنسية (اللواط والسحاق)، وإعتبره منافياً للطبيعة البشرية وتجاوزاً على القيم، وإنتقد بشدة ما فعله الغرب وحلف الناتو بليبيا وسوريا، وما فعلته أميركا وبريطانيا وحلفهما بالعراق، وإستنكره بشدة في أكثر من مناسبة، في معرض حديثه عما يفعله حلف الناتو في العالم وبجوار روسيا، وهذا كله ينسجم تماماً مع ما أسماه المفكر الروسي (إلكسندر دوغين) النظرية السياسية الرابعة، بل ويعد أحد تطبيقاتها.

غير أن (دوغين) يستدرك في مقابلة تلفزيونية - بالرغم تنظيره العميق للجيوبولتيكا الأوراسية - في أن شخصية الرئيس (بوتين) مركزية فيما يجري من أحداث اليوم، ويترك المستقبل منفتحاً على إحتمالات بسؤال مُعلق: حول إستمرار أهمية القائد السياسي، ويتساءل هل سيستمر هذا النهج عن طريق أخرين يأتون بعد بوتين، أم سيتم التراجع في حالة خروج بوتين من المشهد، وهو هنا لربما بطريقة أخرى، يترك سؤال ظهور المدرسة (البوتيني) نسبة لبوتين، بالرغم من أن الكثيرين يقولون أن بوتين نفسه متأثراً بالمفكر (دوغين)، لكن المهم هنا ليس نسبة الفكرة هل هي (دوغينية) نسبة لإلكسندر دوغين، أم (بوتينية) نسبة لفلاديمير بوتين، فالمهم إنها روسية أوراسية، تقدم رؤية رافضة للهمينة الغربية العسكرية والسياسية والقيمية، وتقول أن من حق الثقافات والحضارات الأُخرى، إن تتلمس طريقها في التطور الديموقراطية من داخل قيمها ودينها، دون فرض النموذج المادي الغربي عليها.

***

محمد عمر غرس الله

.................

المصادر:

- مقابلة المفكر إلكسندر دوغين على قناة الجزيرة

- كتاب أسس الجيوبولوتيكا

في المثقف اليوم