أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نيتشة، سبينوزا ومشكلة الرغبة الحرة

كل واحد منا شعر بالحرية بشكل او بآخر.عندما نختار مشروبا من قائمة الطعام، نحن نمارس هذا الاختيار كفعل للرغبة الحرة. وعندما انت توافق على تصويرك في فيلم وثائقي، انت تقوم بهذا طبقا لحرية الاختيار في الموافقة او عدم الموافقة للمشاركة في التصوير. هذه المبادئ الاساسية مثل "الاختيار" او "الموافقة"، وكذلك "المسؤولية" او "الذنب"،  تفترض سلفا وجود مقدار من حرية الفعل. ولكن ماذا لو قيل لنا ان الحرية تلك ليست الاّ وهما؟ مقال نُشر مؤخرا في الغاردين البريطانية يطرح المشكلة بدهاء ويستكشف الرؤى المعاصرة حول الرغبة الحرة من منظور كل من العلوم الطبيعية والفلسفة. الكاتب يحدد ببراعة مشكلة الرغبة الحرة كمشكلة اساسية في الفلسفة. هو ربما يضيف شيء ما: اذا كانت ممارسة الحرية هامة جدا واساسية لوجودنا اليومي، فهل التعامل معها كمشكلة يحقق لنا أي فائدة؟ أليست هي إنكار مباشر لتجربة معينة، ان لم تكن نفيا خطيرا ومباشرا للمسؤولية الاخلاقية؟ وبينما يقوم المؤلف بمهمة عظيمة في تجسيد المشكلة،لكن بداية المشكلة وتاريخها جرى تجنّبهُ نوعا ما.

ان مشكلة "الرغبة الحرة" فيما اذا كنا وكلاء و أسباب لأفعالنا الخاصة وأفكارنا  أربك الحضارة الغربية على مدى قرون. انها لم تأخذ دائما شكل نقاش عن حرية الفعل. التراجيديون الكبار، مثلا، كانوا حريصين على ان يبيّنوا لنا بالضبط الجانب المعاكس للمشكلة عندما يسردون القصص عن الأبطال الكبار والامم التي سُحقت بمصيرها الحتمي. ربما من أشهر التراجيديات المتبقية، تراجيديا سوفكليس بعنوان Oedipus Rex ، نحن لسنا فقط امام  مسرحية في القرن الخامس قبل الميلاد في اثينا،عرضت ضمنا مشكلة الرغبة الحرة. عندما نتابع الملك اوديب في سعيه لتجنّب نبوءة الآلهة في دلفي بانه سوف يقتل ابوه ويتزوج امه، سنرى ان البطل ينجز بالضبط تلك الانتهاكات الفضيعة. وبينما ستكون الرغبة الحرة غير مفهومة لاولئك الذين حضروا الاحتفال الكبير الذي عُرضت فيه المسرحية، لكن سوفكليس يتفق مع استنتاج العديد من العلماء والفلاسفة المعاصرين ، بانه حتى عندما تعتقد انك تتصرف بحرية، فانت لست كذلك.

المؤرخون المفكرون والفلاسفة عادة ينسبون أصل مفهوم الرغبة الحرة الى مصدر لاحق، أي،التقاليد اليهودية – المسيحية. لكن يبقى من المؤكد ان التعامل الهام مع المشكلة جرى في القرن الخامس الميلادي من قبل المفكر المسيحي اوغستين في نظريته عن أصل الخطيئة، والتي بقيت حتى اليوم احد المصادر الرئيسية لمشكلة الشر والعدالة الالهية. هذه اللحظة من التاريخ الفكري برزت من الحاجة للتوفيق بين عقيدتين مسيحيتين غير منسجمتين: وهما ان الله متسامح وخيّر وانه ايضا القدير على كل شيء.

الآن، اذا كان الله قادرا على ان يكون في كلتا الحالتين خيّرا وقادرا، فلماذا نرى العالم منذ القدم وحتى الآن يضج بالفضائع والأعمال الوحشية ؟ لماذا حتى المسيحيين اضطُهدوا واذُلّوا وتُركوا ينزفون حتى الموت في الساحات العامة؟ اوغسطين يرى ان الله لم يفعل الشر، وانما هو أعطى لأول مخلوق انساني – آدم وحواء- الشيء الوحيد الذي لم تمنحه التراجيديا اليونانية لأبطالها المأساويين: وهي الرغبة الحرة. فقط من تلك الرغبة، من تلك الإمكانية في إختيار التفاحة، دخل الشر الى العالم . قدرتنا على الشر ليست الاّ سمة وراثية اُعيد انتاجها نزولا الينا على طول الطريق منذ لحظة السقوط من جنة عدن.

هذا الجدال – بان الله أراد منحنا الحرية بدلا من جعلنا عبيدا للقدر – لازال سائدا بين الثيولوجيين المسيحيين. وبينما يبدو ضعيفا للبعض او سخيفا جدا للبعض الآخر، لكن تأثيره كان كبيرا جدا لدرجة حتى ملحدي اليوم (خاصة اولئك الذين يؤكدون على الاختيار كاساس للّيبرالية من النوع الاقتصادي) يقبلون دون تمحيص عقيدة الرغبة الحرة كما انحدرت الينا منذ اوغسطين.

مع ذلك، قد لا نحتاج للاهتمام كثيرا بحكاية اوغستين، لأن الحياة بدون رغبة حرة تبدو للكثير منا مستحيلة وسخيفة لدرجة اننا ببساطة لانرغب القبول بها. ألا يمكن ان ينهار المجتمع الذي ينكر الرغبة الحرة تحت سطوة الإرهاب المظلم؟ ماذا عن المسؤولية الأخلاقية التي نحن كوريثين لكانط، نعتقد انها مرتبطة فطريا بقوة الفهم من خلال الفعل الحر للرغبة ؟ماذا سيحدث للقانون الجنائي اذا تأكل الافتراض الفلسفي الاساسي المسبق باننا نعمل بمستوى معين من الرغبة ويمكن الحكم علينا طبقا لحريتنا بالفعل؟

من هذه الزاوية تقريبا عالج الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة في القرن التاسع عشر هذه المشكلة وبطريقة عميقة واسلوب سجالي:

"نحن لم نعد لدينا أي تعاطف اليوم مع مفهوم الرغبة الحرة، نحن نعرف فقط  الاساليب الشائنه للثيولوجيين لجعل البشرية "مسؤولة" .. في كل مكان هناك السعي نحو المسائلة، انها غريزة العقاب والحكم .. عقيدة الرغبة هذه جرى إختراعها اساسا بهدف العقوبة، أي ،ايجاد المذنب". (شفق "او افول" الأصنام: الاخطاء الأربعة العظمى، ص7).

هذه احدى المقاطع  يعبّر فيها نيتشة عن الفكرة بان الرغبة الحرة ليست الا اختراعا انسانيا. خصيصا، هو يتبنّى الرؤية السايكولوجية بان المفهوم اعيد انتاجه لكي يعزز مكانة اولئك الذين في موقع السلطة، بما فيهم الثيولوجيين. بكلمة اخرى، الرغبة الحرة تجد نفسها كعقيدة هامة لإطلاق الغرائز العنيفة في العقاب وفي الشعور اللاحق بالسلطة. الرؤية تبدو وصفية فقط – هي بالتأكيد لاتطلب إلغاء المحاكم او السجون – وانما هي تقف كواحدة من بين العديد من الأمثلة لإطروحة نيتشة بان عدة مفاهيم تبرز من محفزات مثيرة وحتى مضادة، تُربط بالتنفيس الفسيو- سايكولوجي للسلطة.

كان عمل نيتشة فعالا وحاسما في إنكار الرغبة الحرة التي طبعت الفكر الغربي في القرون الأخيرة، وربما لا وجود لحقل معرفي اكثر من الفيزياء في إعطاء قوة ابستمية لوهم الرغبة الحرة. ومع نجاح فيزياء نيوتن في القرن السابع عشر، اصبحت الصورة الميكانيكية للعالم التي عرفناها من سبينوزا وهوبز مترسخة بالعمق في الفكر الغربي. الفكرة هي ان كل الأشياء مشروطة بشيء ما هو المسبب لها، وان هذه الأشياء ذاتها ستكون اسبابا لنتائج اخرى. سيكون انتهاكا لكل من قوانين الفيزياء والمنطق ازالة اختياري لعصير معين على آخر من سلسلة لا متناهية من الأحداث المؤلفة للوجود. ومع استثناء فيزياء الكوانتم، التي حددت الأحداث في مستوى الذرة وما دون الذرة والتي هي،مثل ذرات لوكريتيوس ، العشوائية وغير الضرورية – أحداث ضئيلة جدا لدرجة انها لاعلاقة لها بالحياة العملية ومفهوم الرغبة الحرة – التفسير الفيزيائي للعالم والتحقيق العلمي اُجبرا على انكار الرغبة الحرة امام الدليل والقواعد المنطقية التي وضعها الفلاسفة والمنطقيون في العصور الماضية.

العلماء المعاصرون في كل الحقول ايضا يبدو يشيرون الى نفس الاتجاه. في علم الأعصاب، التجارب التي حددت محفزات عصبية مماثلة في دماغنا قبل عمل الاختيار أعطى صورة معتمة للمدافعين عن الرغبة الحرة، واليوم علم النفس ودراسات السلوك الوراثي،التي احيانا حددت ما يقرب من 60% من التباين في السلوك لأسباب وراثية، ايضا تقدم موقفا مضطربا للرغبة الحرة. قد يجيب احد ان مثل هذه التفسيرات هي صالحة فقط لو قبلنا الاستبعاد الانطولوجي لممارسة الحرية والذي بالضرورة يتبع من تفسير اختزالي فيزيائي للاشياء. لكن الفيزيائي قد يرد بان  البرهان المستند على دليل لافيزيائي يجب ان يكون قادرا على اظهار كيفية وجود الرغبة الحرة في ما وراء التجربة، او حتى  الكيفية التي ترقى بها التجربة لتصبح شيئا واقعيا.

الفلسفة المعاصرة التي تفتقر لوسائل العلم التجريبي يجب ان تستفيد من كل من الاستنتاجات التجريبية وان تجد جوابها من خلال المنطق وإشكالات اللغة وافتراضاتها المسبقة، النقاش ينقسم بين اولئك  العلماء، الذين ينكرون وجود الرغبة الحرة تماما، واولئك التوافقيون الذين يعتقدون بان القدرية والرغبة الحرة منسجمان لمدى معين. بالنسبة لهم، ان نوع الضرورة الذي يقرر اختياري لعصير معين على اخر ليس بالضبط نفس الشيء الحاصل لو ان النادل يعلن عدم وجود مقادير كافية لإعداد المشروب الآخر بعد طلبي له، وبما يجبرني للذهاب الى المشروب الاول .

هذه الامثلة تبيّن حجم الاضطراب في الإشكال اللغوي والمنطقي للنقاش بالكامل، وان الرؤية بان كل المشكلة ليست الا اضطرابا فكريا مع انها في الحقيقة صوت أقل شيوعا في الفلسفة المعاصرة، لكنها ربما  يقف ورائها الفلاسفة المؤيدون للتقليد الكلاسيكي المسيحي الذين يثقون كثيرا بميتافيزيقا ارسطو. من هذا الافتراض – ان نقاش الرغبة الحرة يميل للاضطراب – نجد ان مفكرين اثنين ذُكرا سلفا ،سبينوزا ونيتشة، قد يساعدنا باعادة النظر بالمشكلة ككل. هناك اختلافات هامة بين هذين المفكرين، ولكن مع ذلك هما يوضحان صورة منسجمة للحرية التي يمكن حقا فهمها كقوة، او قوة الفعل.

الخطوة التمهيدية بالنسبة لسبينوزا هي ان ننسى الرغبة الحرة: " لا ارادة هناك  في الذهن"(الاخلاق 2،ص49). سبينوزا ذاته يبدأ بصورة ميكانيكية للعالم: بعيدا عن لا ابراهيميته، فقط الله الانطولوجي الذي هو حر في التصرف من ضرورة طبيعته، جميع الظواهر الفيزيقية والذهنية هي غير حرة كونها مقررة بأسباب اخرى للتصرف بطريقة معينة لكي تنتج نتائج جديدة. هنا المنهجية الخاصة لسبينوزا والتوضيح العقلاني يستلزمان قوة الله المنتجة (او الجزء الفعال من الطبيعة): لاشيء في الكون مشروط، لكن كل الأشياء مشروطة لتوجد وتعمل باسلوب معين بفعل ضرورة الطبيعة الالهية.

البرهان – مهما يكن الوجود، الوجود في الله (فرضية 15).لكن الله لا يمكن ان يسمى شيئا احتماليا او مشروطا لأنه حسب (الفرضية 11) هو يوجد بالضرورة وليس بالاحتمال. كذلك،وسائط الطبيعة الدينية هي ضرورية وليست احتمالية (فرضية 16). الله ليس فقط سبب هذه الوسائط بمقدار ما انها توجد ببساطة (فرضية 24) وانما ايضا بمقدار ما تُعتبر مشروطة للعمل باسلوب معين (فرضية 26)، انه من المستحيل، وليس محتملا، انها يجب ان تشترط ذاتها، على عكس ذلك، لو انها اشتُرطت بواسطة الله، سيكون من المستحيل، وليس محتملا ان تجعل نفسها غير مشروطة. لذلك فان كل الاشياء هي مشروطة بضرورة الطبيعة الالهية، ليس فقط لكي توجد، وانما ايضا لكي توجد وتعمل بطريقة معينة، وان لاشيء هناك احتمالي الحدوث" (الاخلاق 1،ص29D).

في هذا الكون المعقد من الأسباب المصممة والنتائج قد نجد الانسان مجرد حلقة اخرى في الشبكة السببية المعقدة. الكائن البشري الذي تتضائل علاقته السلبية بالأسباب الاخرى – اي بالنتائج، الافكار، والعواطف – ليس افضل من التفاحة التي يتقرر وجودها بشجرتها، وسقوطها جزئيا بكونها خاضعة للجاذبية. في الحقيقة، العواطف هي بالضبط شيء ما نحن نباشره سلبيا. هنا مثال فيه يطرح سبينوزا اختلافا:

"نحن يجب ان نرى بسهولة الفرق بين الانسان الذي يُقاد فقط بالعواطف والآراء، والانسان الذي يُقاد بالعقل. الاول،سواء كان راغبا ام لا، يؤدي الأفعال وهو جاهل تماما، الآخر هو سيد نفسه ويؤدي فقط هذه الافعال، عندما يعرف انها ذات أهمية رئيسية في الحياة، ولذلك يرغبها بشكل رئيسي،ولهذا نسمي الاول عبدا، والثاني انسان حر".

درجة كبيرة من الحرية تُنسب لاولئك الذين يمتلكون قوة سببية أكبر: اولئك هم قادرين على تقرير الكثير من النتائج قياسا باولئك الذين يعيدون باستمرار انتاج نتائج اسباب اخرى. المعرفة تلعب جزءاً كبيرا في قوة سبينوزا السببية: انها اولئك الذين يفهمون بما يكفي عمل القوى الخارجية التي هي قادرة بشكل افضل للتعبير عن القوة السببية. وبكلمة اخرى، الحرية المحدودة من الضروري ان تُبنى على محدوديتنا وسط القوى السببية الاخرى.

بالنسبة لسبينوزا، الفرد الذي أنجز معرفة كبيرة في القوى الخارجية هو في الحقيقة اكثر قوة، ولديه قوة اكبر في الفعل قياسا بمن هو مقيّد بالرأي او الجهل او العواطف المدمرة. المعرفة تزيد قوة أذهاننا وبالنهاية تطور كل من استمراريتنا ومتعتنا، "لهذا نحن نرى، ان الذهن يمكنه المباشرة بعدة تغيرات، والانتقال احيانا الى حالة من الكمال الأكبر، واحيانا الى حالة أقل كمالا. هذه الحالات من التحول توضح لنا مشاعر البهجة والألم". لا وجود هناك للرغبة الحرة سوى ان مقدار معين من الاستقلالية مثل تقرير المصير هو ممكن من خلال زيادة كمالنا المعرفي.هذه الصورة لضرورة الحرية المحدودة والتي تمثل الحرية كقوة للفعل السببي من خلال زيادة المعرفة، يشترك بها نيتشة ايضا. واذا كان الأخير ينبذ كامل الصرح من الأسباب والنتائج ككلمات ميتافيزيقية اسطورية (العلم المرح،109،ما وراء الخير والشر 21، شفق الاصنام"اخطاء"،3-4)،فهو يتفق اساسا مع سبينوزا بان الرغبة الحرة هي خطأ وان الحرية يمكن ممارستها في استقلالية محدودة. الفرد "السيادي"، بالنسبة لنيتشة ينطوي على درجة من السيادة و الاستقلالية  عن الآراء والعادات او الأخلاق، انه "يمارس ذاته كمقرر للقيم" (ما وراء الخير والشر،260) مثل انسان سبينوزا المعرفي ، الذي يسعى لفهم القوى الخارجية سواء كانت فيزيائية او بايولوجية او تاريخية او لغوية ويجد في هذه المعرفة مصدر استقلاليته الذاتية. هذا يوضح لماذا كتب نيتشة مرة في رسالة لصديق، ان "النزعة الكلية لسبينوزا هي مثلي – أعني، لجعل المعرفة النتيجة الأكثر قوة": المعرفة تساوي القوة، انها، قوة الفعل والاستقلال الذاتي.

لذا من الواضح للفيلسوفين ان المشكلة من الأفضل ان تُعرض بلغة من قوة الفعل بدلا من لغة الرغبة الحرة، التي دخلت معاجمنا عرضيا وسمّمت الكثير من حقول النقاش الفلسفي. هذا ما يجب ان يبدأ به العلماء المعاصرون والفلاسفة في دراسة المشكلة، مع الانتباه لتمييز وسائط القوة التي ذاتها ترتبط بالاستقبال السلبي للقيم السائدة او عمل العواطف المدمرة – الدكتاتور العطوف قد يعبّر عن "القوة" بهذه الطريقة - ،مما يعرّفه سبينوزا او نيتشة كتعبير حقيقي عن القوة المفهومة كمعرفة كافية للقوى الخارجية التي تُترجم الى قوة الفعل والاستقلالية الذاتية.

الاعتبار الاخير وربما المحزن الذي يستحق انتباهنا هو ان نوع قوة الفعل الذي يذكره نيتشة هو، في بعض التفسيرات، حتمي بالضرورة او موروث: حتى أعرافنا هي فقط علامات للمشكلة التي نحن بها - ... لمصيرنا الروحي، لما هو غير قابل للتعلّم (وراء الخير والشر،231). مقدار قوة الفعل والاستقلال الذاتي التي نحن قادرين على انتاجها ليسا جاهزين لأنفسنا، وهو ما يفسر لماذا مشكلة الحرية هي في الاساس ليس لها دور في الموقف وان ما نبحث عنه حقا هو القوة كما تُعطى من الطبيعة. هذا يوضح إعجاب نيتشة بالأفراد السياديين "العظام" مثل نابليون وبيتهوفن وغوتة،الذين ادّى التنسيق المذهل للحوافز والمؤثرات فيهم الى جعلهم افراد استثنائيين. اذا تم ادراك قوة الفعل كشيء محتوم عندئذ تصبح حتى "الرغبة غير الحرة" هي ميثولوجيا: في الحياة الواقعية هي تكون مسألة رغبات قوية وضعيفة"(وراء الخير والشر،21).

بالنسبة لنيتشة،ان الحرية الوحيدة التي يستطيع المرء استخلاصها من هكذا ظروف محتومة هي الاعتراف بالطبيعة الضرورية لكل الاشياء او حب القدر amor fati. بالنسبة لسبينوزا يراها انحياز رغبتنا وذهننا مع النظام الالهي والضروري للاشياء. وفي الجانب الأكثر كآبة للأشياء، اذا كانت قوة الفعل بطبيعتها حتمية (او مشروطة سببيا وموروثة جينيا)، فان هذا يسير بالضد مما هو اكثر شيوعا لتجاربنا اليومية في الرغبة الحرة وذائقتنا الأخلاقية الحديثة التي تؤكد بان كل شخص يمكنه ان يكون مسؤول شخصيا عن التقدم والنجاح في الحياة، شرط وجود ظروف اساسية. الى هذه الفجوة السحيقة بين الذوق الليبرالي الحديث وقدرية نيتشة (وربما سبينوزا ايضا)، التي تؤكدها الكثير من البحوث التجريبية الحديثة في علم النفس، يستطيع المرء فقط القول مع الفيلسوف الألماني ان:"الحقيقة مفزعة".

***

حاتم حميد محسن 

في المثقف اليوم