أقلام فكرية

محمود محمد علي: فلسفة النوماخيا عند ألكسندر دوغين

عندما تولي الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" السلطة في روسيا، بدأت مرحلة جديدة في نشاط "دوغين" السياسي حين انتقل من معسكر المعارضة الراديكالية إلى معسكر الموالاة للسلطة. وفي مطلع الألفية كان دوغين يدافع عن أفكار "النزعة الأوراسية المحافظة" التي عرضها على السلطة بصفتها قاعدة أيديولوجية للسلطة الروسية الجديدة. وتولى إدارة مذهب جديد، وهو مذهب الأوراسية الجديدة، وألف كتاباً تحت عنوان "الطريق الأوراسي كفكر وطني". ومع استقرار الوضع في روسيا عاد "دوغين" إلى الممارسة العلمية، حيث ألقى محاضرات في جامعة موسكو الحكومية تحت عنوان ” مذاهب ما بعد الفلسفة” صدرت فيما بعد في كتاب. وانتقد فيها المفاهيم الفلسفية الرئيسية في إطار ثلاث تشكيلات تاريخية وهي: تشكيلة ما قبل الحداثة وتشكيلة الحداثة، وتشكيلة ما بعد الحداثة. ولدى حديثه عن مرحلة ما قبل الحداثة، أشار إلى أن فكر الحداثة الذي ولد في أوروبا الغربية، لم يستطع الاستقرار على الأرضية الروسية، حتى في أوساط النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. فيما يعيش المجتمع الروسي بجملته مرحلة ما قبل الحداثة.

وألقى دوغين في ديسمبر/كانون الأول عام 2007 محاضرة في موضوع “ النوماخيا "، وهي تمثل النواة الصلبة التي ترتكز عليها النظرية السياسية الرابعة، وهنا في هذه الورقة نشرح فلسفة النوماخيا من وجهة نظر ألكسندر دوغين، وذلك من خلال الترجمة العربية التي قدمتها قناة الميادين في هذا الصدد.

وننطلق للحديث عن النوماخيا nomachia وهي في الأصلب كلمة روسية وتعني حرفيا " حرب العقل"، والتي يمكن اعتبارها أيضا حربا داخل العقل أو حربا ضد العقل، وهو مشروع يعتمد على دراسة معمقة لمختلف الثقافات، والأنظمة الفلسفية، والفنون، والأديان، والسمات النفسية، وخصائص الحضارات الإنسانية، والنوماخية تقوم على تشريح الشعوب القديمة والحديثة والمتطورة للغاية والبدائية كالمتقدمة تقنيا وتلك التي تفتقر إلى لغة مكتوبة، فالهدف النهائي من النوماخية هو الإظهار والإثبات القاطع أنه لا يمكن مقاربة وتقييم أي ثقافة بطريقة هرمية ؛ أي متطورة، أو متخلفة، من الأعلى إلى الأدنى، حديثة سابقة للحداثة، حضارية، أو متوحشة.. وما إلى ذلك، بل إن التقييم المسؤولة والدقيقة لأي ثقافة بشرية يجب أن يكون من الداخل، ومن قبل من ينتمون إليها، ومن دون فرض ثمة تحيزات خارجية في تأويل تلك الثقافات..

والبروفيسور والمنظر وعالم الاجتماع والمؤرخ الروسي ألكسندر دوغين، وبحثه الأخير والأحدث عن الحضارات، يتحدث فيه عن النوماخية، والتي تعني كما قلنا حرب العقل، والتي بالإمكان أيضا تصورها بكونها حربا ضمن العقل، أو حرب العقول، أو حتي حربا ضد العقل، فما الذي يعنيه تحديدا بالنوماخية، وكيف استخلص اسمها، وما هي أهداف النوماخية ؟.. ووظائفها؟.. ومادئها؟

وهنا يجيبنا المفكر الروسي الكبير " ألكسندر دوغين"، فيقول:" الفكرة الرئيسية هي أن كل ما يتعامل معه الإنسان ليس الأشياء أو العالم المحيط بل أفكاره وحسب، وبالتالي فإننا نعيش في الأفكار، لذا نحن أنفسنا عبارة عن أفكار، ونعيش في داخل الأفكار، وكل المواجهات والمشكلات والتحالفات والمصادفات واللقاءات، وكل المجريات الدرامية، كل شئ موجود في عالم العقل، بالتالي ربما تكون هذه رؤية فلسفية قريبة من الصوفية والفلسفة الأفلاطونية.. إننا نعيش في عالم من الأفكار، وعندما نقول إننا سنحارب أحدهم، أو أننا سنبني هذا النوع من الحضارات، أو نقوم بإصلاح ديني ما،فإننا دوما نتعامل مع أفكار،إذاً، فإن " نوماخيا" إنها مفهوم صراع الأفكار، لأن كل شئ يتكون من أفكار، أي إن هذا عن كل شئ.

إذن الفكرة الرئيسية كما يقول ألكسندر دوغين هي أننا بحاجة إلى تقليص جميع الظواهر إلى أفكار، وبعد ذلك نقرأها، لذا فإن الأفكار مختلفة.. يقول دوغين:" مفهومي يقول إنه ما من فكرة واحدة، أو روح واحدة، فكرة مقدسة واحدة، بل إن كل ثقافة لديها كوكبة من الأفكار، وأحيانا تكون شديدة التناقض والتعقيد، وبالتالي فإن الحوار ما بين الحضارات المختلفة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الثراء لجدلية كل مجتمع.. لا يمكننا القول مثلا، إنه في حقبة معينة في الغرب الحديث.. نقول " حقوق الإنسان".. ما الذي قد يعنيه هذا بالنسبة إلى الغربيين الذين عاشوا في العصور الوسطي ؟.. ما الذي تعنيه " حقوق الإنسان" بالنسبة إلى الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية ؟.. وما الذي تعنيه لقرية إسلامية إندونيسية مثلا ؟.. ما الذي تعنيه بالنسبة إلى قبيلة هندية أمازونية ؟.. ما الذي تعنيه " حقوق الإنسان" بالنسبة إلى الأفريقي والبوذي والصيني؟.. عندما نفهم مدي اختلاف وقع كل تلك التعابير باللغات المختلفة ومقدار اختلاف مفهوم الإنسان والحق والقانون والأخلاق والسياسة والثقافة –عندما يمكننا الوصول.. الفنون والأديان.. مصطلح " حقوق الإنسان" ليس فيه أي شئ عالمي، لأن الإنسان العصري الليبرالي الغربي يفهم ذلك على أنه " فرد"، وفي العصور الوسطي مثلا، كانت هنالك " الروح"، وهي مفهوم مختلف تماما للكلمة بفهمنا الثقافي الليبرالي الغربي، فإن "الروح" مسألة خيار، يمكنك أن تؤمني بالروح أولا أو لا تؤمني، لكنك تبقين فردا.. في العصور الوسطي، إن قلت إن هذا الرجل ليس لديه روح، أو تعتقدين بأنه لا يمتلك روحا فسيُنبذ من المجتمع – سيجري التخلص منه – تماما ! – ليس يُعترف به كإنسان – لقد فقد روحه، كما نقول.. لقد فقد روحه وحقوقه مع روحه.. الأمر ذاته باعتقادي، ولكن على نحو أكثر تعقيدا في الثقافة الإسلامية، لا يمكن تصور الإنسان في الثقافة الإسلامية من دون علاقته مع الله.. ليس المُسلم وحسب، بل الإنسان، من دون تلك العلاقة الشخصية مع الله، مثل العلاقة ما بين الأرض والسماء – بالتأكيد، تماما – لا بد أن توجد.. محور الإنسان وقلبه والله.. هذا هو تعريف الإنسان.. ليس الجسد المادي المتحرك، ليس الجسد الحيواني.. إن اعتبرنا علي سبيل المثال نظرية " حقوق الإنسان" في السياق الإسلامي، فعلينا أن نضع الله في المركز، أو علاقة الإنسان بالله، والأمر يختلف أيضا في " الصين" و" روسيا".. هذا مثال على مدي اختلاف الحضارات.. مدي اختلاف تعريفاتهم للمادة نفسها.. المادة نفسها، أو العالم، أو الموت، أو الروح، أو الجسد،، أو العلاقة ما بين الأجناس.. كل شئ يجري تعريفه من قبل " الحضارة".. لا من قبل قاعدة عالمية، لكن عندما تحدثنا عن القاعدة العالمية، فإننا نتعامل فقط مع الغرب الليبرالي الحديث – الذي تبغضه – إنني أبغضه بالتأكيد.

وهنا يريد دوغين العودة إلى القيم التقليدية – ليس فقط العودة ولهذا نراه يقول لنا:" التقاليد ليست الماضي.. التقاليد هي الأبدية تماما".. وهنا يريد دوغين أن يجعل إمكانية الوصول إليها ممكنة مجددا بعيدا عن الأسلوب الليبرالي، وهنا يقول دوغين:" اعتقد بأن الليبرالية نوع من البلاء، بلاء عالمي يدمر كل أنواع الحضارات، ومن ثم فإنها تدنيس إنه تحد حقيقي لكل الإنسانية.. إنها شئ غير إنساني تماما وشيطاني، الحداثة السياسية الغربية، لذا أتقبل كل شئ.. المجتمع القديم والمجتمع المتدين، وكل أنواع المجتمعات.. المجتمع اللاهوتي البوذي، لكنني لا أتقبل ذريعة العالمية للغرب الحديث.. اعتقد بأن كل شئ صحيح باستثناء الغرب الليبرالي الحديث.. هذا ما هو خاطئ فعليا، لأنه سام، ومؤذ، وعداواني، وأنا أدعو ببساطة إلى العودة للتقاليد.. اعتقد بأن علينا إعادة التفكير في التقاليد.. والتقاليد المقدسة، والدينية مستندة إلى الأبدية، لكن الأبدية ليست هي الماضي وحسب، بل هي الآن ستكون في المستقبل، ومن ثم فإن الأبدية مختلفة، ومتمددة في الزمن في الزمان، والمكان داخل الأبدية، وكل التقاليد المقدسة، وكل الحضارات بما فيها الحضارات الأوربية الكلاسيكية القديمة، كانت وما زالت مستندة إلى الأبدية، لذا فإن الأبدية هي فكرة، لذا لا يجدر بنا العودة إلى الماضي.. علينا أن نوجه أنفسنا نحو تلك الأبدية، إلى ما نحن عليه إلى ما يوجد في جوهرنا، في مركز الثقافة الروسية، أو الإسلامية، أو اللبنانية، أو الشيعية، أو السنية، أو الصوفية.. الثقافة الهندية، أو الصينية.. علينا العودة إلى أنفسنا لا إلى ماضي ما، وعلينا الذهاب ربما الذهاب إلى المستقبل، لكن المستقبل ممكن عندما تكون هناك أبدية، علينا أن نأخذ من الأبدية مسارها، وتحقيق ذلك وعيشه في المستقبل، وسيكون هذا مستقلا وجوديا.

هذه هي المبادئ التوجيهية للنوماخيا في نظر دوغين، وهي التي تجعل بإمكاننا خلق ثلاثة أنواع كما يقول دوغين لعملية تنظيم العقل.. الأبولونيان، والديونيسيان، والكوبيلي، - هذه شكل واحد.. هذا ما لم أفهمه.. هناك بعض التطوير في نظرية " نيتشه"، فقد اقترح " نيتشه " أن هناك نوعان من التفكير، أو الفن.. الأبولونيان الذي يعد عموديا تماما وأبويا، وهو مستمد من أفلاطون، والديونيسيان وهو يمثل نوعا من التوازن ما بين الأبوي والأمومي، والكوبيلي هو الأمومي.. كان هناك ثلاثة أنواع من الفلسفة في " اليونان" القديمة.. مبادئ علم اللاهوت لدي الأفلاطونية كانت " أبوللو".. " الديونيسيان تلك كانت فلسفة أرسطو، وكان هناك " ديمقريطيس" الذي كان ذريا، وهو فيلسوف حديث جدا، لأننا إن قرأنا اليوم " ديمقريطيس" أو " أبيقور" يتنابنا شعور بأننا نقرا نصا فلسفيا عصريا، وتلك كانت فلسفة أمومية – مادية- ذرية.. كانت تكون مبادئ علم اللاهوت الثالثة في العقلية، واعتقد أن ذلك كله كان في بداية حضارة البحر الأبيض المتوسط.. أما الآن فقد عادت مجددا مبادئ علم اللاهوت الثالثة المادية.. إننا نعيش في عصر " كوبيلي" الأم الآلهة العظيمة، وهذا يفسر النسوية والمادية، وكذلك إضفاء الصفات الأنثوية على أنماط الذكور، لأنهم كانوا نوعا من الكهنة لدي " كوبيلي"، وكانوا مخصيين.. تلك أصبحت معيارية الثقافة الغربية.. اعتقد أنه يُطبق على هذا في الإنجيل العاهرة الأُرجوانية، أو " عاهرة بابل"،وهذه صورة شيطانية جدا،تلك العودة إلى عبادة الأم الآلهة العظيمة، تعد علامات الأخروية، لذا علينا استعادة مبدائ علم اللاهوت الأبولينيانية والديونيسيانية، ومحاربة تلك، ولذا علينا استعادة وجود الثلاثة في حياتنا، لأن كلا منهما يكمل الآخر.

وأما فيما يخص أهداف النوماخيا فيقول دوغين:" اعتقد بأنه الأساس الفلسفي، أو ربما الغيبي لتعددية الأقطاب، لأنه وفي هذا المحتمل، وهذا الوصف الكثيف للحضارات 24 مجلدا نعم، كثيف، أعني أنني لا أحاول وصفها بمعايير رسمية.. نعم، كثيف أعني أنني لا أحاول وصفها بمعايير رسمية، بل الخوض عميقا فيها – علي سبيل المثال – في عمق المسألة – هنري كوربان – أستاذ الفلسفة بجامعة السوربون – كوربان الفيلسوف الفرنسي، كان بروتستانتيا قال مرة بدراسة الثقافة الشيعية " نحن شيعة"، بيد أنه كان لا يزال بروتستانتيا، هذا مثير للاهتمام !.. لذا بهدف فهم الثقافة الأخرى، علينا الذهاب إليها – علينا الخوض بها – تماما!، وبعد ذلك يمكننا العودة إلى هويتنا، ولكن من دون تلك الرحلة إلى الثقافة الأخرى، لن نتمكن من فهمها.. علينا إسقاط أفكارنا على الآخر، ومشروع النوماخيا هذا، يعد وصفا لحضارة مختلفة، وكيفية رؤيتها للعالم.. لا كيف نراهم نحن الروس أو الغربيين.

وهنا تكمن مشكلة الأمريكيين كما يري دوغين حيث إنهم يمثلون رأس حربة أحادية القطب، فهم يفتقرون الانفتاح على الآخر، ويفتقرون إلى التعاطف مع الآخرين، مثل الصينيين، والروس، والمسلمين، وغيرهم، وهذه تحديدا في نظر دوغين هي المشكلة، حيث كل كتبهم، وكل وصفهم للحضارة، وكل ما يسمي " القوانين العالمية " أو القيم التي يروجون لها، إنها قيم غربية، قيمهم، لذا فإنهم كما يقول دوغين لا يمتلكون أدني فكرة عن ماهية الآخر، وبالنسبة لهم، فإن الآخر، إما أن تكون مثلهم، أو أسوا منهم، لا شئ غير ذلك.. لذا لا يمكنهم ان يتصوروا وجودا للآخر الذي لا يمكنه أن يكون مثلهم، أو أسوأ منهم، وهذا موقف عنصري، وهذه المجلدات الأربع والعشرون، هي نوع من هجومات ضد العنصرية الثقافية للغرب.. إنها ليست جدالات.. إنها مجرد وصف، ولكن عندما أصف مثلا القبائل الأفريقية ومعتقداتها، فإنني أكون بالكامل منحازا لمصلحتهم.. لا أطلق الأحكام عليهم، كما يفعل الباحثون العصريون اليوم، بمن فيهم الباحثون الروس بحق الإسلام.. أحاول أن أكون معهم، وأن أري العالم بأعينهم، وأحاول بناء مبادئ علم لاهوتهم تماما كما هو الوضع في ثقافتهم، لذا فإن هذا نوع من تعددية الأقطاب، التي تبين مدي التعقيد والتركيب الذي يكون العالم، بهدف التوصل إلى قيمة عالمية ما.. نحتاج لأن نسأل كل تلك الثقافات الكبيرة منها والصغيرة، وأن نأخذ بعين الاعتبار كل خصوصيات المعني للأفكار والمفاهيم الرئيسية – خصوصياتهم- تماما، ومن دون هذا، لا يمكننا القول إن هناك ما هو " عالمي"، وغن نسينا أن نسأل قبائل ضائعة ما رأيها عن الإنسان أو الحق، أو التعذيب، أو الموت، أو الحياة، أو الروح، أو الرب، أو الجسد، أو الأرض، إن نسينا أن نسأل أصغر الشعوب، أو أصغر القبائل، فإننا لن نصل إلى العالمية، سوف نُسقط عليهم شيئا آخر، لذا فإن هذا نوع من الموسوعة الهائلة، ليس انتقادا للغرب، إنما تأكيد على البقية، وقد كرست الكثير من الكتب لتاريخ هوية الشعوب الغربية – وهذا أيضا مثير جدا للاهتمام – بالتأكيد !.. لأن الحداثة الليبرالية الغربية ليست سوي جزء من هويتهم، لقد ارتكبوا جريمة قتل في بداية عصر التنوير بحق ثقافتهم.. لقد قطعوا جذورهم، والآن يحاولون قطع جذور الآخرين، لذا هذه هي المشكلة الحقيقية لحداثة وتنوير وعالمية وتقديمة الحضارة الغربية.. لسنا في حاجة إلى استعادة الماضي، وإنما علينا تقبل الاختلافات الموجودة.. اختلافات المجتمعات المختلفة.. ربما لو لم تفقد كلمة " ديمقراطية" صدقيتها بسبب الديمقراطية الليبرالية.. كنت سأقدم طلبا لأن تكون المجلدات الأربع والعشرين، لأن تكون مرجعا لديمقراطية حقيقية بين الحضارات، لكنني اعتقد بأن الكلمة أصبحت محرفة تماما، وقد فقدناها – إنها خالية من معناها – بالتأكيد – لقد جري استهلاكها ضد كل شئ نبيل -أسيئ استخدام معناها الصحيح.

وحول المنهيجة المتضمنة في الفلسفة النوماخية فيقول دوغين:" أولا، أبدا بأنه لا يمكننا القول منذ البداية " هذه هي الثقافة " – الثقافة الهندية مثلا هي مبادئ علم لا هوت " أبوللو"، أو لاهوت " ديونيسيوس"، أو " كوبيلي"، علينا أن اولا أن نجري بحوثنا، وان نستكشف، وعندما نستكشف ذلك فإننا نجد في جميع الحضارات مبادئ علم اللاهوت الثلاثة كلها، هذا مدهش، فيها كلها.. ما الذي قد نفكر فيه، الثقافات الما تحت أرضية لأفريقيا السوداء.. الأمر ليس مشابها.. فقد كانت للقبائل والمجموعات المختلفة مزيج مختلف تماما لذلك اللاهوت، والأكثر من هذا إبان تاريخ كل شعب كان بإمكان ميزان اللاهوت أن يتغير، وهذا أضاف بعدا ديناميكيا.

والسؤال الان: ماذا يعني إمكانية تغير هذا الميزان ؟.. ويجيبنا دوغين:" هذا يعني الصراع ما بين مبادئ اللاهوت تلك في كل ثقافة، ففي كل ثقافة هناك " أبوللو" و" ديونيسيوس"، أو " كوبيلي"، وهي في صراع دائم، والميزان أي النسب فيما بينها، الميزان هو اللحظة عنما نحيا، وهذا مثير للاهتمام، ولا يمكننا تعريف قاعدة عامة ما، لأن وفي أي حضارة فإن كل هذه النسب وتلك الدينامية مختلفة، وهذا نظام معقد جدا، وهذا ربما يكون فطنة لنوع جديد من الفيزياء، أو لعلم رياضيات جديد مستند إلى التعقيد.. إنه ليس خطيا.. لا يمكننا تطبيق بعض القواعد البسيطة لهذا التي بإمكانها تعريف الكيفية التي قد تتطور عبرها هذه المبادئ اللاهوتية – وتتجلي وتتفاعل – تتفاعل في أي حضارة، وهذه هي النتيجة الأهم برأيي، ففي كل حضارة هناك تاريخ مختلف، ومن ثم نسب مختلفة.. هذا مثير جدا للاهتمام، ولذا فإن الإنسانية ثرية جدا، الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني، والسياسة الإنسانية، والمنهجية الإنسانية، والأديان السماوية، والروح الإنسانية ثرية جدا، ودينامية جدا بحيث أنها تعيش في عالم الأفكار.. إنها بعيدة جدا عن محاولة إرضاء الجسد بالحاجات المادية، كما هو المفهوم الغربي الأنجلو ساكسوني في الغالب لمفهوم الإنسان.. برأيي، فإن الأنثروبولوجيا العصرية الليبرالية تعد إهانة للبشرية، لذا فإن الإنسان ثري جدا بتاريخه الإنساني الثري، بحيث إننا نحتاج إلا دراسة كل حضارة عن كثب، فهي تمثل نوعا ما القصر الروحي الذي اكتشفناه في الأدغال ولدي القبائل المنسية في الحضارة العريقة كما الصينية والهندية، في كل مكان أينما وجد الإنسان فإن أنماط ثرية جدا ومفتوحا لكل الفطنة في العالم، ومن ثم فإن الكفر هو الإنسان، والإنسان هو الفكر، وكل إنسان وليس فقط الغربي أو المتحضر، وأي نوع من البشر لهو جزء من التركيبة الشاملة والثرية جدا.

ومن كل ما سبق يتضح لنا بأن دوغين ليس مجرد “منشئ” لأيديولوجيا بسيطة محايدة، بل هو يسعى إلى “إضفاء الطابع الروسي” على المذاهب التي تلهمه، وتكييفها مع ما يسميه المفاهيم التقليدية للعالم الروسي، والتي ترتكز بشكل أساسي على النزعة القومية والمعتقد الأرثوذكسي، ومناهضة الحداثة ورفض القيم الأمريكية.

ويبدو موقفه العدائي للمنظور الليبرالي الغربي من المفهوم الذي أطلق عليه اسم “النوماخيا Nomachia” أو حرب العقول، والذي يعني رفضه لنظرة التسلسل الحضاري (حضارة أعلى، وحضارة أدنى)، فالحكم على الحضارات والثقافات هي مهمة أصحاب هذه الثقافات وليست مهمة من هو خارجها، وهذا التعدد الحضاري والثقافي يتسق في رأيه مع دعوته إلى التعددية القطبية في النظام الدولي، فالتعددية الثقافية والقومية تبرر التعددية القطبية.

وفي إطار نظرته للنظام الدولي المعاصر يرى “أن روسيا تعيد تأكيد نفسها ليس على أنها القطب الثاني في النظام ثنائي القطب الجديد، ولكن كواحد من الأقطاب القليلة في سياق نظام متعدد الأقطاب تقف فيه روسيا (عسكرياً، وعلى مستوى الجغرافيا والموارد الطبيعية) مع الصين (اقتصادياً) كطرفين يشكلا مع الغرب شيئاً يشبه النظام الثلاثي الأقطاب. لكن الهند والعالم الإسلامي وأمريكا اللاتينية وإفريقيا يمكن أن تشكّل يوماً ما أقطاباً أخرى مكتفية ذاتياً. لذا، فإن الجغرافيا السياسية الروسية للدولة العظمى تتطور الآن في سياق جديد للتعددية القطبية. وكالعادة، ما تزال روسيا “القوة البرية” التي تعارض “القوة البحرية”، لكن الصين هي كذلك القوة البرية التي لها الخصم العالمي نفسه تماماً، أي الغرب الليبرالي. ومن هنا يبدو تبرير التعاون العربي الإسلامي مع روسيا والصين لا على أساس أيديولوجي أو منظومة قيمية، ولكن على أساس أن لهم جميعاً العدو نفسه، وهو الغرب الليبرالي.[8] وهو ما يعني أن نقطة التلاقي بين روسيا والصين مع العرب والمسلمين هي العداء الاستراتيجي للمنظور الغربي المعاصر.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

المراجع:

1- قناة الميادين: من الداخل | 2019-10-27 | النوماخيا ما هي…مشروع ألكسندر دوغين .. يوتيوب.

2- ألكسندر دوغين: «الخلاص من الغرب لإلكسندر دوغين بترجمة للعراقى على بدر علي بدر. 

في المثقف اليوم