أقلام فكرية

الخيرات والطبيعة البشرية.. جون فينيس

يمكننا الوصول طبقًا  لفهمنا للعقل العملي  إلى مجموعة من الخيرات الموضوعية. ونظرًا لأن هذه الخيرات تمثل "أشكالًا من ازدهار الإنسان"، فيمكن القول إنها ترقى إلى مفهوم الطبيعة البشرية. تحاول إحدى الصور التقليدية لنظرية القانون الطبيعي أستنتاج  خلاصة توجيهية (حول ما يجب علينا فعله) من مقدمات واقعية حول الطبيعة البشرية. تتعارض مثل هذه الحجة مع تمييز هيوم بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، ووفقًا لهذا التمييز، لا يمكن للمرء أن ينتقل بشكل صحيح من مقدمات وصفية بحتة إلى نتيجة إلزامية. وبالتالي، لا يمكن أن يستنتج من فرضية "جميع الناس اجتماعيون الى أن الفرد يسعى الى أن يكون عضو في مجتمع. ولا يوجد وصف للوقائع حول الطبيعة البشرية سيبرر في حد ذاته الاستنتاجات حول الصواب والخطأ، الخير والشر، أو ما يجب على المرء فعله.

يؤكد فينيس أن حجته لا تنتهك تمييز ماهو كائن / وما  يجب ان يكون . وإنه لا يستنتج خيراته الموضوعية من أيً اعتبار وصفي للطبيعة البشرية؛ وإن حجته مختلفة تمامًا، وهي أكثر دقة. ويرى: نحن أصلا منخرطين بالفعل في ممارسة العقل العملي، أي، في عمل توجيه وأرشاد وتفسير للفعل بالرجوع إلى الأسباب. ويمكننا  أن نرى، من خلال فهمنا البدهي المباشر لمثل هذه الأسباب، أن بعض "أشكال الازدهار البشر تحتل موقعًا أساسيًا في لجوئنا الى العقل العملي. وبالتالي، فإن الاستنتاجات الوصفية المسبقة لا تُستخلص من الافتراضات الواقعية، ولكنها تتعلق بالوعي في شيء نفهمه بالفعل بمعنى ما.

تتضمن نظرية فينيس فهمًا للطبيعة البشرية؛ ويتوصل إلى استنتاجات توجيهية حول الخيرات التي يجب أن نسعى اليها، وفهم طبيعتنا البشرية المشتركة، من خلال التفكير في ارتباطاتنا بالعقل العملي.

الحكمة والأخلاق

لا تعني كلمة "خير" في نظرية فينيس "خيرًا أخلاقيًا"، بل تعني شيئًا مثل "الرفاهية" أو "الازدهار". وهو ينحو الى اثبات أن الأخلاق ترتكز على الاهتمام بالخيرات الموضوعية في نهاية  المطاف. لكن كيف يتم هذا الانتقال من "الخير" إلى الأخلاق؟

حتى إذا قبلنا ادعاء فينيس بأن بعض الخيرات الموضوعية يجب أن تشكل أساسًا لمفاهيمنا عن العقل العملي، فربما نظل نرفض اعتبار الخيرات الموضوعية أساسًا للأخلاق. لنفترض أن المعرفة واللعب والتجربة الجمالية هي بالفعل أشياء خيرة نسعى اليها  ونشاركة فيها. لكن، قد نقول، لا يوجد سبب يجعلني مهتمًا بتمتع الآخرين بهذه الخيرات: نعم، لدينا سبب للسعي وراء هذه الخيرات لأنفسنا، ولكن ليس للآخرين. ومع ذلك، تتميز الأخلاق عن مجرد الحكمة والحصافة بحقيقة أنها لا تقتصر على الاهتمام بالمصلحة الذاتية، بل تقوم على الاهتمام العام بالآخرين. فكيف يمكن للخيرات الموضوعية لدى فينيس أن توفر الأساس لنظرية الأخلاق؟

تعتمد إحدى الحجج التي قدمها فينيس عن فكرة أن الصداقة خير موضوعي بحد ذاتها هي: من الخير أن يكون لديك أصدقاء وتكون حياة المرء فقيرة إذا لم يكن لديه أصدقاء. وأن لديك صديق ليس مجرد الاستمتاع برفقة شخص ما أو إيجاد شخص مسلي. إن الصداقة تتضمن الاهتمام برفاهية الشخص الآخر لمصلحته. وبالتالي، فإنها خير موضوعي يقودنا إلى ما وراء الاهتمام الحصري بأنفسنا. سيحيا الأناني الكامل الذي يعتبر جميع الأشخاص الآخرين مصادر أو وسائل لأرضاءه حياة فقيرة لأنه لن يكون قادرًا على الصداقة.

ليس المجتمع السياسي علاقة بين الأصدقاء، ولكنه يماثل الصداقة في بعض النواحي: تمثل كل من الصداقة والمجتمع السياسي شكلان من الخير الموضوعي للتواصل والأختلاط. وبالتالي يقودنا تحقيق هذا الخير الموضوعي إلى ما وراء الاهتمام الحصري بأنفسنا وإلى الاهتمام بالمجتمع أو "الصالح العام". فالحياة ضمن المجتمع هي نفسها من مكونات الحياة الخيرة (وليست مجرد وسيلة لتحقيق هذه الغاية) التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال اهتمامنا بالصالح العام.

يبدو هذا الخط من المحاججة جذاب ومعقول. يشير فينيس إلى أن الحياة المزدهرة تتطلب درجة معينة من الاهتمام بالآخرين بدلاً من التناقض الدرامي بين الاهتمام الأخلاقي والاهتمام برفاهية الفرد الخاصة. قد يقارن بعض الفلاسفة (مثل كانط) بين اهتمام الفرد برفاهيته والاهتمام الأخلاقي بالآخرين؛ لكنهم يواجهون صعوبة بعد ذلك في تفسير لماذا يجب أن نكون أخلاقيين: لماذا لا نتصرف بأنانية؟ ومن ناحية أخرى، يؤسس التقليد الكلاسيكي لأفلاطون وأرسطو اهتمامنا الأخلاقي بالآخرين في إطار اهتمامنا بازدهار حياتنا: فالشخص غير الأخلاقي، وفقًا لهذه النظرة، يعيش حياة فقيرة ويفشل في تأمين هدف حياة مزدهرة. وبالتالي يعتبر التناقض بين  الحكمة أوالحصافة والأخلاق غير جوهري في نهاية المطاف، فبقدر ما يشمل اهتمام  الفرد بازدهار ذاته سيشمل اهتمامه برفاهية الآخرين كواجب.

لكن هل تنجح هذه الحجة الكلاسيكية بما يكفي؟ هل يمكن أن تفسر لماذا يجب أن نشعر بالاهتمام الأخلاقي تجاه المحتاجين المجهولين في مكان بعيد، على سبيل المثال؟ قد يعرّف بعض الكانطيين والنفعيين  الأخلاق على أنها اهتمام محايد بالإنسانية جمعاء (أو بجميع الكائنات الحية). لا تقودنا حجة فينيس القائمة على مفاهيم "الصداقة" و"المجتمع" والتي تمييز بين "الأصدقاء" و"غير الأصدقاء"، وأعضاء مجتمع واحد، وغير الأعضاء في هذا المجتمع إلى الاهتمام الأخلاقي المحايد. فهل يعتبرهذا خلل في الحجة؟

لا يلتزم فينيس بالرأي الكلاسيكي؛ ويلجأ الى الخير الناتج عن المعقولية العملية في محاولة لاستيعاب بعض عناصر مفهوم الحياد الأخلاقي. تُشكِّل المعقولية العملية سعينا وراء الخيرات الأساسية الأخرى، مما يتطلب منا صياغة خطة متماسكة للحياة تسعى إلى هذه الخيرات، أو مجموعة منها. أحد متطلبات المعقولية العملية، كما يخبرنا فينيس، هي: لا ينبغي أن يكون هناك "تفضيلات عشوائية أو تعسفية بين الأشخاص". ينطوي هذا على قبول أن الخيرات الأساسية يمكن متابعتها والتمتع بها من قبل أي إنسان، أيً يتمتع بها ايً شخص آخر كما لو كنت أستمتع بها.

يواجه فينيس هنا مشكلة تجابه عددًا من النظريات الأخلاقية الأخرى، كالنفعية مثلا. إذا كانت  مصلحة الآخرين تهمني تمامًا مثل مصلحتي الشخصية، ألا يجب أن  يكون لديً الاهتمام الأخلاقي بالآخرين؟ ألا يجب أن أعمل باستمرار لتحسين أوضاع الفقراء والمرضى والجياع والمحرومين؟ لكن هل يمكن أن تكون الصفات الأخلاقية مطلوبة أو ملحة إلى هذا الحد فعلا؟ أحد الإجابات هو نعم ، بالطبع الأخلاق تتطلب ذلك. علينا حقًا أن نعيش هكذا. بالطبع نحن جميعًا مقصرون عن هذا المعيار المثالي، لكن مع ذلك يمثل  هذا ما يجب علينا القيام به. لكن، تجسد هذه الاستجابة، تحت مظهرها الأخلاقي الصارم موقفًا متهاونًا تجاه الأخلاق؛ لأنها تقبل بسهولة وبارتياح شديد فكرة التقصير في تحقيق ما تتطلبه الأخلاق. بالاستناد إلى أن الأخلاق تقول إنه يجب علينا القيام بكل أنواع الأشياء التي لم نفعلها أو كان سنقوم بها من قبل، فإن الاستجابة تقوض في الواقع جدية الأخلاق نفسها. ويقدم النفعيون ردًا آخرًا يقول: على الرغم من أن رفاهية الآخرين تهمك تمامًا مثل رفاهيتك الخاصة، ألأً أنه قد تظل لديك أسباب معقولة في أن تكون مهتمًا في رفاهيتك بشكل أساس. وهذا لأن الاعتناء برفاهيتك قد يكون الطريقة الأكثر فاعلية لرعاية الرفاهية بشكل عام

يستبعد فينيس  التفكير "العواقبي" الذي يستدعيه المنفعي هنا: فالخيرات غير قابلة للقياس، كما يدعي فينيس، وبالتالي لا يمكن موازنتها أو تعظيمها. ومع ذلك، فهو يرى أن سعادتي الشخصية هي أول مطلب لسلوكي وبالتالي فلدينا أسباب معقولة لتفضيل الذات.

كيف يكون هذا ممكنا؟ كيف يمكن أن احسب الخير للجميع بالقدر الذي يكون لي، ويكون لديً أسباب معقولة للتركيز على خيري الخاص؟ يبدو أن جزءًا من الإجابة عن هذا، في رأي فينيس هو في مفهومه عن  عدم القابلية للقياس الذي يستبعد المنطق العواقبي: فإذا كانت الخيرات غير قابلة للقياس، فربما لا يكون من المنطقي أن اقول بإمكاني تقديم مساعدة " أفضل" للعالم الثالث بدلاً من دراسة  فلسفة القانون في جامعة أبيردين البريطانية. يبدو أن الاعتماد غير المشروط على هذه الحجة يقوض أي أساس للحيادية. يريد فينيس أن يؤكد على أن هناك حدودًا معقولة لتفضيل الذات، أيً أن  درجة من الحياد مطلوبة منا. لقد تناول فينيس هذا الموضوع  في كتابه (Natural Law and Natural Rights) في الصفحات  107-109؛ وص177، وص 304-305، ص 406) حيث هي من اكثر الصفحات المثيرة  بخصوص الفكرة. وهذا ، بلا شك ، لأنه يحاول توجيه شيء من المسار المتوسط بين وجهات النظر الكلاسيكية والكانطية فيما يتعلق بالعلاقة بين الحكمة والأخلاق.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيً

...........................

مراجع الدراسة:

Finnis, J. Aquinas (Oxford: Oxford University Press, 1998).

Finnis, J. Fundamentals of Ethics (Oxford: Clarendon Press, 1983).

Finnis, J. Natural Law and Natural Rights (Oxford: Oxford University Press, 1980).

George, R. In Defense of Natural Law (Oxford: Oxford University Press, 1999).

George, R. Making Men Moral (Oxford: Oxford University Press, 1993).

Murphy, M.C. Natural Law and Practical Rationality (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).

Murphy, M.C. Natural Law in Jurisprudence and Politics (Cambridge: Cambridge University Press, 2006).

في المثقف اليوم