أقلام فكرية

مداولة مع النفس.. شيء من التحليل النفسي

كتب  "جمال حسين علي" في مدونته على الفيس بوك هذه الكلمات التاريخ ليس التربة التي تنمو فيها السعادة، فالفترات السعيدة، كما رأها "هيغل": هي صفحات فارغة من التأريخ. نتحدث بهذا المنحى،  منحًا نفسيًا تحليليًا من إتجاهاته العميقة وقول العلامة "مصطفى زيور" أن النفس هي هي في كل ما يصدر عنها، أي أن ما يصدق عليها من صفات وقواعد أساسية في مظهر من مظاهرها يصدق عليها أيضا في غير ذلك من المظاهر، إذ لا يعقل أن تتغير طبيعة النفس تبعًا لتغير ما تعالجه من المواقف( زيور، ص127)  من هنا يكون مدخلنا إلى ما يَعتملُ في داخل النفس من صراعات، سعادة، إنتماء للجماعة، للأرض، للوطن، وكلاهما هو رمز الأم والتعلق بها، الاغتراب، التخيل، لحظات حاسمة بين الصمت والانفجار في النفس، الأنا والانت، الآخرية والمثلية ولو على مستوى المتخيل، آنين غير مسموع، تأليف الخرافة والإيمان بها، الَجد الصارم لحد نبذ البعض لهذا السلوك والإنسحاب من مصاحبته أو التعامل معه، وربما تصل العلاقة بين الزوجين إلى الانفصال"الطلاق"، وهناك الكثير من هذه التي يشعر بها إنساننا المعاصر اليوم، ليست هي عادات أختلف فيها مع آخر، بل هي ترسخت وتعمقت حتى شكلت إضطرابًا أو إبتعادًا عن المتوسط العام للسلوك، أو لنقل حالة غير مألوفة، ولا نغالي إذا قلنا انها شحنات انفعالية ناتجه عن خبرات لم يتح لها التفريغ المناسب وخزنت في مخزن ذاكرة الإنسان وظلت منعزلة عن باقي الحياة النفسية حتى تراكمت عليها إضافات جديدة مع تقدم العمر عند الفرد من الطفولة إلى مرحلة العواصف وهي المراهقة ثم مرحلة البلوغ، دعونا نحاول ان نكشف ما يمكن كشفه عما يدور بدواخلنا ونحن ندركه، نشعر به في حالتين، الأولى: نعترف به ونطلب العون، والثانية نرفضه اطلاقًا ولا نعترف بوجوده فينا" بين العصابية والذهانية يكون الرفض في معظم الاحيان"

يتسائل البعض عن موضوع في غاية الحساسية عبر مراحل العمر من البلوغ في المراهقة وما بعدها أي في منتصف العشرينات وحتى مرحلة التدهور الطبيعي في منتصف الثلاثينات أو في مرحلة منتصف العمر وأزمتها الشهيرة وحتى في الخمسينات أو الستينات ولا أدري هل سيراود البعض ممن هم في العقد السابع من العمر، من أنا ؟ كيف أكون أنا ولم أستكين يومًا إلى ذاتي؟

هل أعترف إني أدرك ما أفكر به وهو يقودني إلى تصرفات لا أستطيع تبديلها وهي اعراض وساوس أو قلق شديد حد المرض، أو تشنجات عضلية أو التواءات في المعدة بسبب شدة التفكير، أنني أدرك ذلك لكنني لا أستطيع التغلب عليه، انه يصرعني ويغلبني بسيطرة هواجسي وأفكاري .. هل هو عصاب؟ أم إني أرفض ما أنا عليه فألغي ذاتي ووجودي مع الجماعة، لا بل مع نفسي، أنني أرفض كل ما يقال عني حتى من أقرب الناس لي، هل أنا أهلوس، هل تنتابني نوبة حزن تخرجني من وجودي المادي مع الجماعة والمحيطين بي، ها إني أشعر بالخواء؟ هل أشعر بالفراغ بوجودي بالحياة، هل أذهب بعيدًا حتى لا أدري بما أفكر، واشعر بأن الكل يلاحقني أو يحاول أن يسرق أفكاري، خططي، ما أريد أن أفكر به، هل أنا تحت رحمة قوى خارجية تلاحقني ؟ هل أنا والذهان متعانقان وأنا لا أدري؟ أنه الذهان حقًا. يقول "جاك لاكان" شيخ فلاسفة التحليل النفسي في كتابه الذهانات ص14 فإذا حزن شخص مثلا فمرد ذلك إلى انه لم يحصل على ما رغبت فيه نفسه، إلا أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، ذلك لأن هناك أشخاصًا ملكت أيمانهم كل ما تصبو إليه قلوبهم إلا أنهم مع ذلك يبقون في حزن شديد، فالحزن إذًا هو شغف من طبيعة مغايرة تماما. وقوله أيضا "لاكان" فكل ما هو سيكولوجي في السلوك الإنساني يخضع لإضطرابات جد عميقه، ويتضمن مفارقات جد واضحة، إلى حد تستحيل فيه معرفة ما يمكن فعله بشأنه كي يتسنى التفريق في مجاله بين الخيط الأبيض والخيط الأسود. (لاكان، ص14)

أن حضارتنا هي مأساتنا، طموحاتنا أكبر من قدراتنا، وأنواع الأرهاق الإنفعالي والافكار الدوجماطيقية الثابتة حد الجمود والوساوس والدماغ الذي يدور حول فكرة واحدة، وضروب الإجترار النفسي هي أكثر خطرًا من الدخول في عمق الإضطراب نفسه، لأنك قبلها تدرك ما يحيط بك ولكنك ترفض أو تقبل ولا تستطيع قبول مجاهدة النفس ودحرها عن غيها ويقول "محمد شعلان" ان تفضيل شيء على ضده ليس إلا إسقاطًا لإحساسه بتناقض ذاته مع واقعه، وإذا أنتهى هذا التناقض بين الذات والواقع، فإن الصراعات الخارجية تبدو وهمية (شعلان، ص18)

ونحن نتداول في ما يدور (فينا) عن أنفسنا يقدم لنا فيلسوف التحليل النفسي "جاك لاكان" رؤيته عن نظرية النظم التي دونها في طروحاته حيث يميل "لاكان" إلى ان يربط" وإن لم يكن حصريًا" "الخيالي" بمجالات مقيدة مختصة بالوعي والوعي الذاتي، وهو النظام الأكثر ارتباطًا بما يحس به في واقعهم اليومي الروتيني الذي لا يتصل بالتحليل النفسي. ويرى "لاكان" أن "يتخيل" أحدٌ أشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم أو من يكونون، يعني من حيث ما " يتخيله" هو عن نفسه عما هي صفاته، أو من يكون هو، وذلك عند التواصل والتفاعل، ويندرج هذا النظام الزوايا المتُخيلة التي من خلالها ينظر إلى الآخرين، وما يتصل بذلك، ويشير هذا الوصف إلى السبل التي يتصل" الخيالي" بها مع الأفكار التحليلية الأساسية مثل الانتقال والوهم "الهُوام- الفنتازيا" والانا، ومن ثم فإن الخيالي أمر أساس في وصف "لاكان" لعملية تشكل الأنا( جونستون، 2020)

أن الحديث عن المداولة  مع النفس هو حديث عن ما يدور في إنفسنا وعن أنفسنا وفي ذلك يطرح الكاتب "جمال حسين علي" ما يلي: عليك أن تكون شجاعًا ، في مواجهة اتهامات الناس، وإذا نعتوك بالجنون، فاخبرهم إنهم على حقّ، فالمجانين أفضل من يصنع الخيال، وإذا سخروا منك، فلا تأخذ ذلك على محمل الجدّ

فالمرحين أفضل من يتذوّق نعيم الدنيا، واتركهم في تعاستهم وجحيم خياراتهم البائسة. ونقول بناء على ذلك فانت كما ترى نفسك وتطلع عليها وتعرفها معرفة حقه، إلا اللهم أنك تشكك فيها، وهذا يتفق مع الرأي القائل أن معرفة  الشيء بالموجب لا ينفصل ضمنيًا عن نفي نقيضه، فمعرفتنا في إنفسنا لا تدعنا أن نيتعد كثيرًا عن شجون الجنون، فشجون الجنون هي رحلة وإن كانت رحلة هروب من الواقع، إلى واقع آخر، ربما عالم في الخيال ولكنه ينتمي للواقع، وقول الكاتب الانكليزي "شسترتون" المجنون هو شخص فقد كل شيء باستثناء العقل، وفي ذلك يقول "جاك لاكان" الهو يتكلم ، لكن لماذا يتكلم الهو؟ لماذا يتكلم الهو مقابل المريض ذاته؟ ولماذا يتمظهر على شاكلة كلام ويكون هذا الكلام بمثابة الهو وليس هو؟ (لاكان، ص333)  

التداول مع النفس هو المتخيل:

التداول مع النفس هو عالم المتخيل، وعالم المتخيل ليس له حدود كما يقول "مصطفى صفوان" ولأن الاستمتاع هو من نتاج المتخيل ولذلك فهو حرية واسعه وشاسعة الحدود ونتفق مع القول بأن نتجه نحو التحرر بدافع من ألم وصراع بين الغالب والمغلوب في داخلنا وهذا يجعلنا نهدف إلى تحقيق خطوات نحو تقريب المسافة بما نفكر به في داخلنا عن انفسنا، ونستمر في المداولة مع النفس، وأظن أن هذه المداولة لا تنتهي في عمر ولكننا نعلم انها تبدا بهذاءات الطفل الصغير وهو يحاول أن يتعلم الكلمات الجديدة في بداية حياته وينطقها بنصف معناها، أو يتمتم لوحده وهو يحاول أن يمارس أولى خطوات الاعتماد على الذات بالمشي، أو ما بعده خلال فترة اللعب، أو ما دَونهُ "جاك لاكان" في مرحلة المرآة حيث يقول:  كان يجادل أن الرضيع يٌشجَع على التماهي "التوحد – التعيين والتعيين الذاتي" مع صورة المرآة على أنها "أنا" من خلال الحث اللفظي، أو اللإيمائي ( يقول لاكان حتى الإيماءة يمكن أن تكون دالة) الذي يصدره الآخر الكبير" أو الآخرون الكبار" عندما يحملونه أمام سطح يعكس ( صورته) على سبيل المثال القول بإشارة وابتسامة( جونستون، 2020) ويمكننا أن ننهي هذا الجدل النفسي مع انفسنا وفي انفسنا في المداولة النفسية قول "لاكان" أن الإدراك في مرحلة المرآة يصل إلى حد الخطأ" زيف الإدراك" هذا بالمثل شأن كافة التجارب المؤكدة طوال العمر التي تتعرف على النفس باعتبارها نوعًا معينًا، أي اعتبار النفس – بحسب ما هي متخيلة- نوعا معينا موجودًا على مستوى – الأنا بحد ذاتها (بحسب التحليل النفسي الفرويدي – اللاكاني)  ثمة دوما إشارة لتذكر مقولة وليام وردزورث " الطفل هو أبو الإنسان" وفي الأخير ان الأنا ليست موضوعا جامدا لا متجانسًا فهي مستودع للرغبات والخيالات "الهُوام" التي يسقطها الآخرون الأكبر عليها، ولكننا نتداول مع انفسنا بما تركه فينا  الأخ الأكبر،  قَبلنا أو لم نقبل، وأزاء ذلك يقول "مصطفى صفوان" الأب هو النقطة التي من خلالها يَحكُم الشخص على نفسه: كي يُقيم الفرد نفسه يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه. نتسائل ولا ندري أننا، بأن الاعتراف بالأنا على أنه "أناي" باعتبارها تجسد وتمثل النفس الاصيلة الفريدة والخاصة، بكونها لي بكل أصالة هو بمثابة إدراك خاطئ، فالأنا في الاساس هي مزيج أجنبي مغترب، من خلالها أكون مغويًا وهدفا لرغبات وآليات الوعي واللاوعي"الشعور واللاشعور" الآخرين، وقول "جاك لاكان" في ندوته الحادية عشرة، هناك شيء في أكثر من نفسي إلى حد أن هذا "ألأناي" هو في الأساس عبارة عن مزيج خائر تَولَد من تاثيرات غريبة من داخل الذات وخارجها، وفي خلاصة قولنا لا اعتقد ان تتغير العلاقة من فاعل ومفعول به بين أنا ونفسي لأن طبيعة الحياة تفرض علينا الصراع المستمر غير المنته بداخلنا وفي الخارج، مع ما تراكم من خزين نفسي يحرك السلوك من خلال ما يصدر منا من لغة وكلام وإيماءات وإشارات فإن صمتت الشفاه ثرثر أطراف أصابعه، وتنضح النميمة من كل مسامه.  

***

د. اسعد شريف الامارة

........................

المصادر:

- جونستون، أدريان( 2020) لاكان فلسفته الكاملة" موسوعة ستانفورد الفلسفية، ترجمة سليمان السلطان،

 https://hekmah.org/

- زيور، مصطفى ( 1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.

- شعلان، محمد( 1979) الاضطرابات النفسية في الاطفال ج1، الجهاز المركزي للكتب الجامعية، القاهرة. 

- صفوان، مصطفى ( 2008) إشكاليات المجتمع العربي، المركز الثقافي العربي،  الدار البيضاء، بيروت.

- لاكان، جاك ( 2017) الذهانات، ترجمة عبد الهادي الفقير، التنوير للطباعة والنشر، تونس، بيروت، القاهرة.

في المثقف اليوم