أقلام فكرية

الإسلام، التعددية الدينية، ووحدة المجتمع

يُعد لمصطلح التعددية جذابية في نظام عالمي تنوع فيه الثقافات وأنظمة المعتقدات والقيم ويلهم كلاً من البهجة للتعبير عن انفتاح الذات البشرية على الآخرى ولكن الرهبة من الصراع الذي لا يمكن التوفيق فيه ايضًا.إن الاعتراف بالتعددية الدينية داخل المجتمع من شأنه أن ينصح وينهض بالتوافق، وليس الصراع، بين الادعاءات المتنافسة حول الحقيقة الدينية في المجتمعات غير المتجانسة دينياً وثقافيًا.

إن هذه الحاجة الأخلاقية الملحة للاعتراف بالآخر هي نتيجة للتطورات التكنولوجية المتصاعدة في مجال النقل والاتصالات. فحتى وقت قريب، كانت تعيش الدول في عزلة نسبية عن بعضها البعض، ولم تكن المواجهات السابقة مع التنوع دائمًا ودية. وكما تشير العديد من النزاعات حول العالم، يمكن أن تصبح الصدامات بين الثقافات المتنوعة مصدرًا رئيسيًا لتجريد الآخر من إنسانيته. يسعى كل تقليد، مسلحًا ببراءة اختراعه  التي يمنحها لنفسه عن الوحي الإلهي، إلى السيادة بدلاً من التكيف عند مواجهة عقيدة غريبة.

كيف يمكن للمجتمع توفير الأدوات اللازمة للاندماج والشرعية دون حرمان الجماعات الدينية امن حصتها المستحقة في الهوية الدينية ؟ هل يمكنها بناء نموذجها المثالي، كنظام عام عادل، دون خلق لاهوت جامع للتعامل مع مجموعة واسعة من المشاكل الناشئة عن اللقاءات بين الأديان، المسلمون والأخرين من الديانات الأخرى  نموذجا؟

لقد فُهم الإسلام من قبل اتباعه بوصفه يمتلك برنامجا  لتنظيم الحياة الخاصة للمؤنيين وكذلك النظام العام من خلال  البعد الأخلاقي في العلاقات الاجتماعية باشكالها العديدة. ولكن فًهم أيضًا إنه يطلب من أتباعه تكريس أنفسهم حصريًا لرفاهية جماعة المؤمنين والدفاع عن نظام اجتماعي. كان مثل هذا الولاء المتواصل مصدرًا لعدم التسامح تجاه أولئك الذين لا يشاركونهم في مطالبهم الحصرية بالحقيقة والسلوك الصحيح. يكشف سجل الإسلام، كدين وحضارة، عن توتر كبير: من ناحية، هناك اعتراف قرآني بالاستجابات التعددية للإرشاد الإلهي وحرية الضمير الإنساني للتفاوض على الفضاء الروحي الخاص به؛ ومن ناحية أخرى، هناك نظام اجتماعي سياسي ناشئ جديد مبني على ولاء لا يرقى إليه الشك والحصري للتقاليد.

لقد كان الإسلام واعياً منذ نشأته التاريخية أو منذ بدايات التجربة التاريخية للأمة الاسلامية بأجندته الأرضية  أكثر من من الديانات الإبراهيمية القائمة على روح العهد القديم. لقد وُصف الأسلام بأنه اسس لعقيدة ونظام أخلاقي  لها تاثير ودور في المجال العام. اشير في هذا السياق الكتاب الذي نال استحسانًا كبيرًا للعالم اليهودي الفرنسي بات يئور، "انحدار المسيحية الشرقية في ظل الإسلام: من الجهاد إلى الذمة "،

 Bat Ye'or, The Decline of Eastern Christianity under Islam: From Jihad to Dhimmitude, trans. M. Kochan and D. Littman (Madison, NJ: Fairleigh Dickinson University Press, 1996)

حيث يقوم بصوغ "لاهوت الذمة" الذي يبرره القرآن. لكن الكتاب وبغض النظر عن المشاكل المنهجية المرتبطة باستخدام "الوثائق" التي أنتجها "ضحايا" الجهاد الإسلامي، فإن الكتاب بأكمله يعاني من مقاربة تتكأ على نظرة مهيمنة لدراسة الآخر الثقافي والديني، حيث يشيطن الآخر ويُجر من إنسانيته. أما مارك كوهين في كتابه، تحت الهلال والصليب: اليهود في العصور الوسطى

) Mark R. Cohen, Under Crescent and Cross: The Jews in the Middle Ages (Princeton: Princeton University Press, 1997(

فأنه يعتمد بقوة على وثائق ولكن بدون الشيطنة التي تقوم بها دراسة يئور. وللحصول على معاملة عادلة لكامل مسألة نزع المسيحية عن الأراضي المحتلة تحت حكم المسلمين،أنظر: يوسف كوربج وفيليب فارجيس، مسيحيون ويهود في ظل الإسلام:

 Youssef Courbage and Philippe Fargues, Christians andJews under Islam, trans. Judy Mabro (London: I. B. Tauris, 1997(.

أريد أن أميًز هنا بين معنى العلمانية الذي يشير إلى "حالة تقييد الدولة لذاتها ومبدأ فصل الدولة عن المؤسسات الدينية وبين معنى للعلمانية الذي يشير الى "رفاهية الجنس البشري في الحياة والعلاقات العامة، مع استبعاد جميع الاعتبارات المستمدة من الإيمان بالله . وبعبارة أخر، تنظم العلمانية الأمور المتعلقة بهذا العالم، دون إنكار أو مضايقة الشؤون غير الدنيوية أو الروحية. العقيدة الشخصية هي مسألة خاصة وبالتالي لا يمكن وضعها تحت  ب المراقبة العامة. بينما أداء الواجبات، وخاصة في الجماعة، يجعل الالتزام الديني الخاص للفرد في متناول الآخرين في المجتمع بشكل موضوعي. تشكل المبادئ الأساسية للدين الوجه الخاص للتعبير الديني للشخص وبالتالي فهي ذاتية، في حين أن فروع الدين (الممارسات الدينية المستمدة من معتقد المرء) تشكل الوجه العام للحياة الدينية للفرد، فرديًا وجماعيًا، وبالتالي فهي موضوعية. يتم، في النطاق الكامل لطريقة الحياة الإسلامية، فحص الجانب الخاص من الدين بشكل غير مباشر من خلال تجسيده في النظام العام.

تنظم الشريعة الممارسة الدينية بهدف الحفاظ على رفاهية الفرد من خلال رفاهه الاجتماعي. ومن ثم، فإن نظامها الشامل يتعامل مع الالتزامات التي يؤديها البشر كجزء من علاقتهم بالله، العبادة، والواجبات التي يؤدونها كجزء من مسؤوليتهم الشخصية، المعاملات. يجب الحفاظ على النظام العام في العبادة ، في السوق، وفي جميع ميادين التفاعل البشري الأخرى. تتعامل المعاملات الاجتماعية (الأمور الحسبية) القائمة على المعيار الأخلاقي للسلوك في الشريعة مع تطبيق القانون من خلال الأخذ في الاعتبار ما يظهر في المجال العام للتفاعل البشري فقط. فعلى الرغم من أن أوامر الشريعة تغطي حتى أكثر الأفعال خصوصية، إلا أنه لا يجوز القضاء في المحاكم الإسلامية أن يحكم إلا على ما يوجه إليه انتباهه، أو يحصل التعدي على حقوق طرف بريء.

لم تكن التعددية الدينية للشريعة مجرد مسألة استيعاب الادعاءات المتنافسة للحقيقة الدينية في المجال الخاص للعقيدة الفردية. لقد كانت ولا تزال في جوهرها مسألة تتعلق بالسياسة العامة حيث يجب على الحكومة المسلمة أن تقر وتحمي الحق الإلهي لكل شخص في تقرير مصيره أو مصيره الروحي دون إكراه. إن الاعتراف بحرية الضمير في مسائل العقيدة هو حجر الزاوية للمفهوم القرآني للتعددية الدينية، سواء بين الأديان وداخل الأديان (أنظر عن سبيل المثال  العمل المقروء على نطاق واسع: الأعمال الكاملة للقاضي الشهيد عبد القادر عودة ، القاهرة ، المختار الاسلامي، 1994). من المهم أن نضع في اعتبارنا أنه بدون المصادقة القرآنية على المبدأ التوجيهي الأساس لمجتمع تعددي دينيًا، أي الاعتراف بالقيمة الخلاصية في الأديان الأخرى، لما كانت قصة معاملة الإسلام للأقليات الدينية على مر التاريخ تختلف عن معاملة أوروبا لغير المسيحيين. يحتاج المرء فقط إلى النظر في الأشكال العنيفة التي اتخذتها معاداة السامية التي ولّدها اللاهوت الديموحي المسيحي في أوروبا. تنعكس سياسات الدولة المحكومة من سلالة من الحكام بالوراثة المختلفة في القرارات القانونية التي أصدرها الفقهاء المسلمون والتي سمحت بأقصى قدر من الاستقلال الفردي والجماعي في التمسك بتقاليد دينية معينة.

ومع ذلك ، فقد أدى الوضع السياسي للمجتمعات الإسلامية إلى قدر كبير من الالتفاف على التعاليم القرآنية من أجل السيطرة على الشعوب التي فُتحت بلدانها. يشير الانخراط الفعال للقادة الأصوليين المعاصرين مع السوابق العنيفة من اللحظات المظلمة في التاريخ الإسلامي إلى التوتر بين المبادئ القرآنية للعدالة ومتطلبات الحفاظ على الرؤية الكلاسيكية لدار الإسلام الآخذ في التوسع (المنطقة التي حكم عليها المسلمون). إن العالم الإسلامي منقسم بشدة حول شكل الثقافة العامة، وأسلوب الحياة الظاهر في الميادين المدنية. إن المبدأ الأساسي المطروح في هذا الجدل هو احترام الآخر، وهو أساس التعايش بين الشعوب من مختلف الأديان والثقافات.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

في المثقف اليوم