أقلام فكرية

الوعي القصدي والمعنى اللغوي- السلوكي

علي محمد اليوسفتمهيد: اشكالية الوعي الفلسفي يتفرع الى جملة اتجاهات معرفية فلسفية طيلة قرون عديدة من تاريخ الفلسفة المعاصرة الذي بلغ ذروة الاهتمام به في الفلسفة الوجودية والفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل . والوعي قبل ان يكون نهايات القرن العشرين الفسفة الاولى لدى الفلاسفة الاميركان بقي محتفظا باشكاليات مفهومية لعل من بينها الاجابة عن الاسئلة المدرجة التالية:

- هل الوعي تفكير استبطاني داخل جسم الانسان مجردا عن لغته في التعبير عن موضوعه الخارجي؟

- هل الوعي حلقة تعبيرضمن منظومة عقلية متكاملة ام تعبير لغوي ام كليهما معا ولمن الاسبقية في التعبير الادراكي؟

- هل الوعي ادراك حسي مباشر لمادة او موضوع ام الوعي تجريد معرفي؟

- هل الوعي تخليق عقلي ام تخليق ادراكي حسي منشؤه الحواس؟

- هل الوعي مادة ام شعور نفسي سلوكي مصدره العقل؟

- ما علاقة الوعي بالسلوك القصدي؟ وهل الوعي رد فعل معبّر عن مدركات الذهن والعقل ام هو تخليق لغوي لتفكير استبطاني تجريدي داخل الجسم؟

- هل توجد صلة تربط الوعي بالجسم هي غير ترابط العقل بالجسم؟

- ما علاقة الوعي بالفكر واللغة؟

معنى الوعي القصدي

هل يوجد وعي لا معنى قصدي له وما مصدر تخليق الوعي غير القصدي الذي حمولته معرفية افتراضية يحركها السلوك النفسي وليس تعبير اللغة.؟ علما ان تعبير اللغة عن الوعي القصدي وغير القصدي هو تعبير لغوي تجريدي. جواب التساؤل بداية هذا المقطع هل يوجد وعيا بلا معنى قصدي يحث السير نحو تحققه وبلوغه في تنفيذ ارادة انسانية له؟ لا يوجد وعي بلا معنى فالوعي يتحول من تجريد ادراكي الى تموضع شيئي يحتويه موضوع ادراك الوعي الذاتي المنفرد وحده.الوعي فعالية انفرادية لا يشترك بها اثنان في التعبير عن موضوع واحد.

اول اهتمام فلسفي عن هذا التساؤل هل الوعي حمولة موضوعية لمعنى؟ هو ماورد على لسان برينتانو بحقيقة الوعي حمولة موضوعية ليس لذاتها فقط بل لسلوك يمليه عليه تفكير اللغة الاستبطاني قبل تبلوره الى (وعي) تجريدي انفرادي. هنا الانفراد النوعي الواحدي لا تحركه قصدية توكيد الذات كينونة من التفكير كما فعل ديكارت في تحقيقه وجوده الانطولوجي وليس الوجود المعرفي كما هو ورد لاحقا في الفلسفتين الوجودية والظاهراتية.

مفهوم الوعي لا يمكن ان يكون جماعيا بسبب ان الوعي هو ادراك استبطاني لموضوع لا يتشابه وعيه لدى اثنين فلكل واحد تفكيره الخاص حتى لو كان التقائهما التفكيري وعيهما موضوعا واحدا بعينه يجمعهما.

اكد برينتانو ان الوعي هو موضوعه الذي يمثل محتوى الوعي داخليا. وقد بلور تلميذه هوسرل في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) هذا الفهم معتبرا (الوعي فعل قصدي يحمل موضوعه) نافيا ان يكون هنالك وعي بلا معنى وبلا مضمون.

اجمع اقطاب الفلسفة الوجودية من بينهم هوسرل على ذاتية الوعي اولا وعلى الوعي سلوك يسحب ذاتية الادراك نحو سلوك منفرد يقود الى تنفيذ موضوع الوعي.

ربما يفسر بعضنا هذا المعنى انه مطابقة لمفهوم ديكارت في كوجيتو انا افكر اذن انا موجود. والفرق بين الوعي الديكارتي والوعي الهوسرلي هو ان تاكيد الوجود عند ديكارت ياتي بدلالة وعي الذات لموجوديتها الفكرية المعزولة عن العالم اي الوعي هو توكيد فاعلية الذات بالوجود كينونة قائمة بنفسها. والفرق الثاني ان ديكارت لم يلزم الوعي ان يكون تنفيذا لموضوع ذي معنى محدد بائن. ديكارت حصر الوعي بين مطرقتين انه لا يحقق معرفة اضافية بل يحقق وجودا انفراديا. والفرق الثاني ديكارت لم يلزم الوعي ان يكون قصديا يسيرسلوكيا نحو تحقيق موضوعه في معناه وسط مجتمع يحتويه.

برينتانو بمفهومه الوعي القصدي ربط اولا الوعي القصدي بعلم النفس السلوكي التجريبي – هنا التجريب هو مختبر تفاعل الفرد بمجتمعه وليس التجريب العلمي في مختبر الطب - الشيء الثاني اعتبر برينتانو الوعي القصدي لا يخترع موضوعاته الادراكية بقواه الذاتية، بل الوعي حامل وظيفي لموضوع له معنى محدد.

قبل مغادرتنا فهم برينتانو للوعي القصدي لا بد من تاكيد انه كان له السبق الاول على هوسرل وهيدجر وسارتر وميرلوبونتي وصولا الى الفلاسفة الاميركان الذين نناقش بعض افكرهم حول الوعي لاحقا.

الوعي وجون سيرل

ينقل فيلسوف العقل واللغة جون سيرل 1932 عن الفيلسوف الامريكي (الفا نوي) في مقال لهذا الاخير بعنوان (تجربة من دون رأس) الى أن الوعي الادراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ، موضحا قوله (أن تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ - والجسم - والبيئة )(1).

منذ البداية يعتبر رأي جون سيرل هذا تطرفا ليس على مستوى احتواء الوعي القصدي اهدافه المنشودة التي يعبر عنها الفكر واللغة وينفذها السلوك النفسي.. الوعي لا يمثل شيئا في حال مغادرته لموضوعيته الهادفة.

الوعي القصدي سلوك معرفي وسيلته اللغة ومصدره الدماغ وهو ناتج تكامل وظائف كل من عمل الدماغ والجسم والبيئة وعوامل اخرى تدخل في سلسلة حلقات متصلة مع بعضها في تكوين المنظومة العقلية التفكيرية. ليس لأي حلقة من حلقات التفكير العقلي قدرة تخليق ان يشكل وعيا خاصا مستقلا بها. الادراك الحسي للشيء لا يستطيع خلق وعي خاص به. كذا نفس الحال مع الذهن، الذاكرة، اللغة وهكذا.

من المهم التذكير ان تفاعلات اقطاب حلقات تخليق الدماغ الخارجية لن تكون موجودة مدركة خارج فاعلية ادراكها العقلي . بمعنى المدركات الخارجية للجسم هي مواضيع استثارة تسبق الوعي بها وتحثّه تناولها لكنها لا تمتلك اهميتها منفصلة عن الوعي الادراكي للاشياء. بمعنى الوعي لا ينوب لا عن العقل ولا عن الذهن بل هو يتمثّلهما فقط كحلقتي توصيل ادراكي.

ويبقى الوعي تجريد سابق على لغة التعبير عنه ومتراجع عن عملية تخليقه بالدماغ التي تكون اللغة والفكر حاضران فيه. كل شيء مادي خارج جسم الانسان يساهم في بعث واستثارة الوعي به لكن تلازمه سلبية الاسهام في استرشاد الفكر تخليق تجريده الادراكي اللغوي الذي هو خاصية عقلية فقط .

الوعي القصدي عند جون سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي بها؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله ظاهرة بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية.. تعريفنا الوعي انه نتاج عملية بيولوجية تنتهي في التعبير عن تجريد مادي او موضوعا من الخيال. اعتبر رأي جون سيرل انضج تعبير عن الوعي لا يقاطع الفلسفة ولا العلم.

نلاحظ للمرة الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الادراك القصدي هو المتعّين وجودا أنطولوجيا في عالم الاشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة لهذه الورقة البحثية.. الادراك الشيئي سابق على الوعي به وكلاهما حلقتي تجريد تعبيري عن الاشياء المادية. لا يكون هناك وعي خارجي لم يتبلور ادراكه اللاحق على وجود موضوع مادي يسبقه. يوجد متعينات وموضوعات لا تحدها انطولوجيا الوجود لكنها مواضيع يدركها الوعي.

اللغة والعقل في الوعي القصدي

سعى سيرل الى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان الى أدراك الاشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع أستحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا، ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الاسبقية للعقل أم للغة؟ ويجيب عن تساؤله ان الاسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية ) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الاساسي القائم وراء تناوله لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل..(2) عبارة تؤكد صحتها الفلسفة ولا تقاطع منطق العلم.

ويطلق سيرل على أن الهلوسة الادراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان، وتعقيبنا أن هلاوس الادراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد مطالبتها أنها (واعية) في أمتلاكها مضمونا وهي في حقيقتها لا تمتلك موضوعا ولا وعيا قصديا مسؤولا، ويتعّذّر التفكير في وعي أدراكي لا يحمل موضوعه المتعيّن كمادة أدراكية ملازمة له، ولا يشترط في موضوع الادراك أن يكون متعينا أنطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية للمخيال، وبخلاف الهلاوس غير المنتجة تكون أدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها في ملازمة تخليق الادراكات المجردة في الذهن..

وحالة الادراكات الهلاوسية تكون حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغيرموضوع واحد محدد، وتجارب الهلوسات الادراكية التي لا تحمل موضوعها الادراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي.. فقدان الهلوسة لموضوعها تفقدها ان تكون تجربة ادراكية يعيها العقل المعرفي.

والا كيف لنا تعليل سلسلة الادراكات التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام في وعي الذات والعالم من حولنا الموزّع باكثر من موضوع تخييلي كما نجده في معظم الابداعات الفنية والادبية والتشكيلية وبالتحديد في الشعروالاجناس الادبية؟؟ ففي مثالنا هذا لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الادراكية المستمدة وبتطرف خيالي هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي تفتقد موضوعها المستمد خياليا لا انطولوجيا..بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة وأستحقاق من موضوعات الخيال التي هي ليست هلوسات تفتقد القيمة اللغوية الجمالية والعلمية في انتاجية عقلية – لغوية في تعبيرها عن موضوعاتها.

كل ما ليس له معنى ادراكي يقود الى سلوك سوّي هو هلوسة تقوم على اضطرابات اللاشعور مع تخيلات لا صلة لها لا بالواقع ولا بنظام الحياة. الهلوسة لغة استبطانية او صوتية لا يلازمها نظام معرفي ادراكي سليم فهي بالتالي عاجزة عن تخليق ما له معنى. لا اعرف بالضبط لماذا انحازجون سيرل ربط الوعي بعلم النفس حصرا. ربط الوعي في السلوك المجتمعي كفعالية ارتدادية مبعثها الدماغ لا غبار عليها. لكن بفرق جوهري هو وعي المختبر الطبي في علم النفس السلوكي لا يخضع للتجربة كون الوعي تجريد لا مادي.

تلخيص ختامي

1- يذهب سيرل أن الوعي الادراكي القصدي ظاهرة بيولوجية، أي أنه وعي شخصاني نوعي أنطولوجي وهو جزء من مجال وعي كلي شامل (3)

هنا بضوء هذا التعريف المنسوب لسيرل يجب التفريق بين موضوع الادراك المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون أشباعا بيولوجيا كما في مثال الاشباع الغريزي الجنس والجوع والعطش وغيرها داخل الجسم، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال المعرفة والسعي لاكتسابها خارج وداخل الجسم.. الوعي الذي يكون أدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الانسان كركن أساس تحديدا في أكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهوأدراك بيولوجي على مستوى الشخص المدرك للاشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع أدراكه..ومواضيع الادراك القصدي نوعين موضوع أدراك معرفي، وموضوع أدراك غريزي فطري..وكلاهما يشكلان هدفين متمايزين لتجربة الادراك في استثارة منظومة العقل أشباعهما كي يبقى الانسان حيّا متوفرة له ضرورات الحياة....

2. ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينامينالوجية في الادراك، تقوم على مرتكز محوري أن موضوع الادراك هو المتعيّن أنطولوجيا في عالم الاشياء المادية فقط، ويهمل الادراكات الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها ذهنيا، ولا يناقشها في صفحات كتابه الموسوم (رؤية الاشياء كما هي) كفعالية أدراكية لا يمكن أهمالها..وعنوان كتابه رؤية الاشياء.. أنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع فقط..علما أن مدركات مواضيع الادراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الابداع في الادب والفكر والثقافة والفنون وجميعها أدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..

3. يحدد سيرل أن محددات أي أدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه، أي موضوع الادراك، وثالثا حاسّة الابصار العين، التي تكون البداية منها في أستقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه، أي ضوء الموضوع المنبعث منه في تجربة الادراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الادراكات الناجمة عن بقية الحواس عند الانسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر مصادر الاحساسات الاولية في عمليات الادراكات لم يعرها سيرل أهتمامه..كما لم يعر أنتباها الى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في أتمام عمليات معنى الادراكات..ركّز كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الادراكي المادي..وعنونة الكتاب هو (رؤية) بمعنى الابصار في العين وعلاقتها بالوعي الادراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب كاملا... والكتاب من الصعوبة اللغوية الفلسفية بما يعطي الحق كاملا للمتلقي ان يحكم على جون سيرل انه لا يتفلسف بل يهذي ويمجد الهلوسة.

4. ورد على لسان سيرل (أن علاقة الادراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الادراك الحقيقي السليم) كون أدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وأن أمتلكت (وعيا) أدراكيا في مضمون متعيّن أدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي في أدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم أمتلاكه موضوعات أدراكية لا يشترط أن تكون مستمدة انطولوجيا من واقع الاشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الادراك الهلاوسي منطلقها تداعيات الفكر الصادرعن الذاكرة اللاشعورية الانفصامية المرضية...والوعي هو وعي بموضوع يتألف من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي ملازما له.. الوعي استجابة عقلية لما يرغب الذهن ان يكتسبه انطباعيا اوليا عنه. والفرق بين الذهن والوعي هو ان الذهن لايكون مصدر تفكير ينوب عن العقل في اعطائه الاحكام النهائية في التعبير اللغوي عنها.

5. لكي يقوم سيرل تأكيد رغبته أن أدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا) وقد تمتلك (مضمونا)، الى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الادراك الحقيقية والسيئة أي بين تجربة الادراك السليم وتجربة الهلوسة، وهذا التفريق لا يلغي ولا يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الاشكالية المفتعلة قوله (في التجربتين – يقصد الحقيقية والهلاوسية -  يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الاخرى)4

لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وأنعدامها في تجربة ألهلوسة حتى وأن أمتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي باشتراك التجربتين في أدراكهما موضوعا واحدا....كما لا يمكن أستساغة التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربة الادراك الخطأ الذي زرعته الفينامينالوجيا في تكريسها ثنائية أدراك الظاهراتية هذا وأستحالة أدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينامينالوجيا أدراك الاشياء في ظاهرياتها البائنة في الصفات الخارجية عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهياتها التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل..،

وفي العودة الى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى أستحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن أدراكه منفصلا غير متعالق بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل..وأدراك موضوع كشكل أنطولوجي لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر..ولا يمكننا تصورأدراك مضمون بلا شكل وموضوع يؤطرهما..ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة متكاملة شكلا ومحتوى والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..

6. يطرح سيرل تساؤلا أشكاليا صعبا، يذهب الى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا أدراكه هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع، فهل يمكننا تعميم حقيقة مدركاتنا على الجانب الأخر(مجموع الاخرين) (5).

لن نأخذ بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة أشكالية قوامها مرتكز حاسة البصر (العين) في التجربة الادراكية، وهناك أجماع على حقيقة ثابتة لا يمكننا العبور من فوقها هي لا تتمكن الحواس من أدراك الاشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة مصدرها الحواس فقط، وتبقى على الدوام أدراكاتنا ناقصة في معرفة العالم .. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره الى مضمار التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فينجشتين، وهذا ما لا يعتمده فلاسفة الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس أنتهاءا بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج مور وبراتراندرسل من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسرلا بالادراك ولا بتعبير اللغة في غياب تمام المعنى.... كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة الفردية كما تنسحب على تعبير الادراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف بخيانة اللغة...

التجربة الحقيقية بالادراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض أستنتاجاتها، من حيث أن مواضيع الادراك في غالبيتها تكون متعّينات أدراكية حسية أنطولوجيا تقريبا، بينما يكون الادراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الادراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك فالادراك الفردي لا يتوّصل الى حقائق علمية قاطعة بل الادراك قسمة مشاعة أمام الجميع في ممارستها ضمن الامكانيات المتعددة في تنوع ألادراكات الشخصانية في الاشباع القصدي، عليه تكون نتائج الاستدلال الادراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى..يوجد تفاوت أدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد تفاوت في أدراكنا حقيقة الوجود يسبق أدراكاتنا الفكرية عنه..مما يجعل أمكانية الخطأ الجمعي متراجعا في أدراك الموضوع الواحد..

6. ينسب للفيلسوف التحليلي جون اوستن في نظريته (الافعال الكلامية) ان القول نفسه نوع من الفعل. بمعنى تفكير العقل المتحقق داخل الجسم هو يوازي الفعل القصدي غير المتحقق خارجيا. كما اراد اوستن ان اللغة الناجزة تفكيريا سواء داخل الجسم او خارجه تحمل حمولتها القصدية الهادفة في تحقيق ما له معنى.والعقل الذي ماهيته الجوهرية هو التفكير الذي يزودنا بالمعرفة على حد تعبير ديكارت، حتى وإن جاء الفكر تراتيبيا بعد تحققه الفعلي خارج وداخل جسم الانسان فهو في كلتا الحالتين فعلا مضمرا إتخذ صيغة قطعية الحكم مع وقف التنفيذ بالحالتين انه لغة افصاح تجريدي. .

7. جون سيرل فيلسوف وعالم عقلي لغوي واقعي لا يكتفي بالتنظيرالفلسفي فقط. بل ينحى منحى السيسيولوجيا في تاكيده اهمية المجتمع قبل اهمية الفرد. وهي نزعة براجماتية تعود الى مؤسسها جون ديوي التي التزمها خارج اطار ايديولوجيا السياسة بل التزمها على صعيد الفلسفة والتربية والفن. جون سيرل هو احد فلاسفة النقدية التحليلية الامريكية الذي له آراء نقدية حادة لفلسفة وليم جيمس عراب البراجماتية او الذرائعية الاميريكية.

ويوضح سيرل هذا الفهم ان الفرد رغم امتلاكه كل مقومات تحقق ذاتيته الانفرادية الا انه يفكر تفكيرا مجتمعيا. فهو لا يفكر لحصوله على معنى يكفيه ذاتيا رغم غرائزية اشباع حاجات الذات الجسمية فلا ينسى الحصول على منفعة معرفية مجتمعية. جون سيرل في تعبيره القصدي السيسولوجي ادخل الفعل القصدي تتلخص بالافعال الكلامية في التنفيذ . وحسبما اورده الباحث محمد اسامة حين فسّر مصطلح سيرل (الافعال الكلامية) نوجزها دونما الاخلال بها في الاصل:

- الكلام تجريد وصف الواقع المادي.

- الكلام امر صادر لتنفيذ عمل متعيّن.

- الكلام كعهد ملزم للمتكلم.

- الكلام قسم بالوعد لا يمكن الحنث به او التنصل منه.

- الكلام اشهار امام الناس مثل الاعلان عن حدث هام مثل الزواج.

لا مجال التعليق الى ان التاثير السيسيولوجي في اقتصار مهام الكلام على هذه الفعاليات اللغوية – السلوكية هي سد حاجات فردية صرف ولا تعني المجتمع بقدر عناية الفرد تحقيق مصالحه. الكلام فعالية لغوية تشمل التعبير عن مجمل حياة الانسان وليس الخواص الخمسة للكلام المنسوبة لسيرل.

ما يحسب لسيرل في تناوله موضوعة الوعي انه لم يتنكر للواقع على حساب الايغال التجريدي اللغوي الراكض وراء فائض المعنى اللغوي لا خارج دلالة التعبير عن الاشياء ولا دلالة التعبير عنها داخل الجسم استشعارات غرائزية يتوجب اشباعها. واعطى سيرل بخلاف اسلوبه الفلسفي الغامض جدا في كتب اخرى له في عدم حكمه على الكلام وتعبير اللغة الصوتي معنى كاذبا حين لا يمثل صدور ذلك الكلام تحقيق معنى مراد تحققه بوعي قصدي سابق عليه.

لذا قاده هذا الحذر في تعليق الحكم على المعنى الى معارضته لجاك دريدا حينما وجده يعبث بالتفكيك اللغوي والتقويض والهدم بلا روية معيارية في نكران الثبات ولا هدف مقصدود ما جعل الكل يضيع في الجزء دونما معرفة فائض المعنى المنشود اين يكون بالنص بالاطراف ام بالاصل الملغي في اعتبارهما ميتفيزيقا عقلية مرفوضة في فلسفة جاك دريدا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

............................

* جون روجرز سيرل: فيلسوف امريكي ولد عام 1932 ويشغل ألآن درجة أستاذ فخري في فلسفة العقل واللغة، وأستاذ طلبة الدراسات العليا في جامعة بيركلي – كالفورنيا، معروف على نطاق واسع في مساهماته في فلسفة اللغة والعقل والفلسفة الاجتماعية، بدأ التدريس في جامعة بيركلي عام 1959..

الهوامش:

1- جون ر. سيرل/رؤية الاشياء كما هي/ سلسلة عالم المعرفة /ترجمة

ايهاب عبد الرحيم/ ص 163

2- المصدر اعلاه ص 34

3- المصدر السابق ص 58

4- المصدر السابق ص 59

5- المصدر نفسه ص63

في المثقف اليوم