أقلام فكرية

الأسس المنطقية لفلسفة التاريخ واستعادة الدور الحضاري للعرب

قاسم خضير عباسإنَّ فلسفة التاريخ تعتبر أحد أقسام الفلسفة، وتهتم بدراسة التاريخ برؤية فلسفية تستند إلى متبنيات علم المنطق؛ أو ما يعبر عنها بمنطق الكشف التاريخي. ويبحث علم فلسفة التاريخ في إمعان العقل لدراسة الأسس النظرية للممارسات والأحداث والتطبيقات والتغيرات الاجتماعية، التي حدثت في فترات زمنية متعددة، للتوصل إلى غائية وتفسير ما تمر به الشعوب.

هذا العلم الفلسفي مثله مثل باقي التخصصات الفلسفية الأخرى، كفلسفة القانون وفلسفة الاجتماع القانوني وفلسفة التربية وغيرها، لدراسة الغايات ومعرفة أهداف هذه التخصصات، من أجل كشف الخلل ووضع الحلول الفلسفية للمشاكل والأزمات.

ومن الفلاسفة الذين اهتموا بهذا المجال الفيلسوف الإسلامي ابن خلدون، الذي فهم منطق التاريخ من علو الأمم وسقوطها. فالتاريخ بمفهومه الفلسفي له وجهان ظاهر وباطن، فظاهره يخبر عن الأيّام والدول والسوابق من القرون الأولى، وتنشط فيه الأقوال والأمثال المضروبة، أمّا باطنه فالنظر والتدقيق وتعليل الكائنات والعلم بكيفيّة الوقائع وأسباب حدوثها. وبذلك يكون التاريخ عند ابن خلدون عريقاً وعميقاً وجديراً بأن يكون علماً، يوقفنا على أخبار الأمم الماضية وأخلاقها، ويدلنا على ماهية التصرفات والتغييرات والوقائع والأحداث التاريخية الآنية التي نعيشها.

 وفي عصر التنوير بأوروبا برز الفيلسوف الألماني هيجل، الذي يرى أنَّ التاريخ حركة منطقيّة يحكمها الجدل ويُهمينُ عليها المنطق، وأنَّ التاريخ نمو نحو الحرية وتطورها، لأنه في الأصل يُعبر عن التقدم من خلال الشعور بالحرية. فحركة التاريخ على وفق فلسفته تهيمن على الوقائع وتصوغها ضمن منطقها الداخلي، من خلال تفاعل الشخصيات التاريخية نفسها مع المقصد الخفي الذي يبلوره المنطق الباطني للتاريخ.

وينشط العقل المنطقي على وفق الفلسفة الهيجلية لتفسير الوقائع التاريخية، واستخراج القوانين والتنبؤات لما سيجرى، من غير تقيد بزمن معين يراد له أن يبسط قوانين وآلية جريان أحداثه على زمن آخر. أي أنَّ العقل في فلسفة هيجل هو جوهر التاريخ، وهو الذي يتحكم في أحداث العالم عن طريق التاريخ نفسه.

أما الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو فقد أعطى للذات دوراً فاعلاً في صنع الأحداث التاريخية، واعتبرها مصدراً لإنتاج الأفكار والإحساسات والمعاني والمركز الباطن في الإنسان، القادر على الفعل وصنع الحدث التاريخي في تفاعل مع الواقع الاجتماعي والطبيعي. بمعنى أنَّ الذات الإنسانية عند فوكو ليست منعزلة عن الواقع، وهي السبب والعلة والغاية في صنع الحدث التاريخي، والمؤثر في التطبيقات والتغييرات الاجتماعية الآنية واللاحقة.

وهكذا فإنَّ فلسفة التاريخ تدلنا بعقل منطقي عن العلة في تطور وتقدم الأمم في لحظات تأريخية معينة، وعن تقهقرها وتخلفها وانكسارها في لحظات أخرى، من خلال إدراك السنن التاريخية التي يتعامل معها الإنسان ويتفاعل معها في صنع تاريخه. 

وبناء على ما سبق فإنَّ الوقت مازال متسعاً لكي نلتمس أول طريق النهضة العربية، والخروج من أزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذا فهمنا منطق فلسفة التاريخ وتعاملنا معه بوعي، مثلما تعامل معه الفيلسوف اللاتيني أوغسطينوس عندما وضع مبادئه الإصلاحية، في وقت انحطاط دور روما الحضاري، حيث شكلت آراءه منطلقات فكرية وعملية للمستقبل. ومثلما تعامل معه الفيلسوف الإسلامي ابن خلدون في مقدمته، وأجاب على تساؤلات تاريخية بشأن تطور الأمم واضمحلالها، بعد فهمه للسنن التاريخية بصورة واقعية وصادقة.

 وهكذا فان واقعنا المرير وإحباطنا في مسارات التقدم وتراجعنا الحضاري، يحتم علينا فهم منطق فلسفة التاريخ، والتعرف على التراث والأصول والثوابت لكي نعي حقيقة وضعنا الآني، والانطلاق بثبات الى مستقبل نتحكم فيه بدلاً من تحكمه بنا.

 إنَّ المرحلة الراهنة تقتضي نقداً ذاتياً يشمل كل الأزمات والمشاكل والأوضاع والاحداث السلبية، والوقوف على أسباب التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومعرفة علة وماهية الانحطاط والتخلف والجهل والامية التي تعيشه مجتمعاتنا، من خلال العقل المنطقي وإدراك العلل الباعثة لهذا التخلف والجهل والتراجع الحضاري.

وهذا حتماً سيساعد في تخطي العقبات والمشاكل والأزمات، التي أثرت-بلا شك-على وضعنا المحلي والإقليمي والدولي وعلى قراراتنا السياسية. وأول دروس النقد الذاتي لما نمر به الآن الاعتراف بأننا ورثة عصر الانحطاط وليس ورثة عصر النهضة الإسلامية، لأنَّ كل إنسان هو نتاج ماضيه، ومن المستحيل أن نكون ورثة عظماء تأريخنا الإسلامي، لأننا ابتعدنا عنهم حضارياً مسافات شاسعة، وبيننا وبينهم حواجز كثيرة. ارتباطنا بهم اقتصر على الارتباط الوجداني الذهني المستغرق بالأحلام الوردية، بعيداً عن روح الإبداع والتطور المُهمين لبعث الحضارة من جديد.

والفرق واضح بين معرفة الماضي بدراسة واقعية ضمن منطق فلسفة التاريخ وبين الارتماء بأحضان الماضي، الذي يفرض نفسه على الأمة لترتمي فيه بنشوة عارمة، دون تبني منطلقات فكرية وعملية خلاقة تعتبر إحدى شروط الانبعاث الحضاري.

ولذا فإننا بمنطق فلسفة التاريخ نفهم بأننا بعيدون بعداً مكانياً عن التقدم الغربي، وبعداً زمانياً عن الحضارة الإسلامية، التي انفصلنا عنها حركياً فلم تعد تستلهم وجداننا بصور فنية حية، ومنطلقات إبداعية لشكل الحكم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.

والأخطر من ذلك أننا عندما أردنا حل إشكاليات مجتمعاتنا العربية استوردنا ظاهرة العلمانية، كنظرية جاهزة لتأطير الحكم السياسي، دون فهم لطبيعة المجتمع العربي المسلم. بلحاظ أنَّ مصطلح العلمانية أوروبي المنشأ، مأخوذ من كلمة (لاييك) الفرنسية، وهي تعني (لا ديني) معبرة عن الاتجاه السياسي، الذي قضى على سلطة الكنيسة غير المتفهمة لمنطق العلم آنذاك.

أما على صعيد النماذج الاشتراكية التنموية التي طبقت عندنا، فكانت بلا شك بعيدة كل البعد عن طبيعة مجتمعاتنا. فمثلاً اتجه ماركس إلى مقولات فلسفية قادته الى استنتاج الاشتراكية العلمية، المستندة إلى عدد من المقولات حول الكون والإنسان والتاريخ، وهي ترتكز بصورة خاصة إلى مقولاته التي جاءت نتيجة تحليله للنمط الرأسمالي الأوروبي للإنتاج، وما سينشأ في داخله من تناقض بين قوة الإنتاج وعلاقات الإنتاج (الملكية الرأسمالية). وقد أفاد ماركس في صياغة موضوعه (دكتاتورية البروليتاريا) وفي فلسفته للتاريخ من عدد من تجارب الانتفاضات الغربية فقط، التي حدثت في زمانه خصوصاً كمونة باريس 1871.

ويلاحظ الأمر نفسه عندما نراجع الحيثيات التي توصل إليها سان سيمون أوفورييه، أو الاشتراكيون الديمقراطيون الغربيون في طرح مشاريع المستقبل، فسوف نرى أنَّ هنالك حيثيات استندت إلى نمط اجتماعي غربي محدد، وإلى تجارب تاريخية محددة، وإلى مقولات فلسفية وايديولوجية وعلمية معينة.

وهذه الملاحظة العلمية لم تدركها تيارات التغرب عندنا الاشتراكية منها والرأسمالية، حيث دعا بعضهم إلى تطبيق النظام الاشتراكي على وفق الرؤية الغربية، والبعض الآخر دعا إلى تطبيق النظام الرأسمالي بعد تأهيله وتهذيبه وتطويره. لم تفهم هذه التيارات الفكرية العربية بعقل منطقي أنَّ اتجاهاتهم الفلسفية قد استخدمت منهجاً مختلفاً عن طبيعة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، لأنها استندت إلى مقولات أخلاقية تتناقض مع طبيعة مجتمعاتنا، وارتكزت إلى نموذج النمط الرأسمالي أو الاشتراكي الأوروبي للإنتاج وإلى تجارب تاريخية عرفها الغرب وحده. ويحضرني هنا قول جميل لابن خلدون عندما قال في مقدمته: (إنَّ المغلوب يتشبه بالغالب في كل شيء).                                                                                            

إنَّ منطق فلسفة التاريخ وإمعان العقل يجعلنا ندرك أنَّ كل ما طبق من مشاريع سياسية وتنموية واجتماعية عند العرب يقتضي المراجعة والنقد، بسبب وقوعنا بتناقضات حضارية لا مثيل لها جراء تطبيق مشاريع مستوردة زادت من تخلفنا وجهلنا وأميتنا الحضارية.                         

وكانت الطامة الكبرى نشوء أنظمة حكم سياسية ظالمة، يلفها تشتت حضاري واستلاب فكري مقيت، وتسودها دكتاتوريات فردية، تمنع الحريات الأساسية وتصادر الرأي الآخر، وتشرع القوانين لمصلحتها الضيقة بعيداً عن مصالح الوطن والشعب.

***

الدكتور قاسم خضير عباس

كاتب سياسي وخبير القانون  الجنائي الدولي والوطني

 

في المثقف اليوم