أقلام فكرية

الكبت Repression والتفريغ" التنفيس".. شيء من التحليل النفسي

اسعد شريف الامارةلدينا الكثير من الرغبات" الأمنيات" المكبوتة ليس على مستوى الحلم فحسب، بل على مستوى الوعي – الشعور أيضًا، نكبتها دون أن ندري، تذهب في عمق القارة غير المكتشفة في أنفسنا تترسخ في اللاشعور، أنه عالم عميق ومن العمق لا نجد له حدود في دواخلنا، ويقول: صلاح مخيمر" لا يتاح لها بعد أن تخرج إلى أرض الواقع وعقلانية الشعور، ويضيف "مخيمر" قوله لم تعد الأهمية للجنبات اللاشعورية وحدها، لعالم الاعماق بمفرده، بل أنتقل الاهتمام وبكل تركيزه على التأثيرات المتبادلة بين ما هو شعوري وما هو لاشعوري، من منظمات الجهاز النفسي وما يتمخض عنه ذلك من محصلات بالمعنى الدينامي للكلمة، تمتد صورها من السلوك العادي في واقع الحياة اليومية إلى أقصى الاعراض الذهانية" مخيمر، ص10" ولنحاول تعريف الكبت والتفريغ" التنفيس" على وفق رؤية التحليل النفسي.

يعرف الكبت Repression بأنها حيلة تلجا إليها النفس البشرية ويقوم بها الانا في الشخصية، وتتم بشكل لاشعوري، إذ لا يحس الفرد أنه يقوم بعملية الكبت ولا يعي بها، وفي هذه الحيلة يقوم الفرد" أو الأنا أو الشخصية أو النفس البشرية" باستبعاد الدافع النفسي كلية أو باستبعاد الذكريات أو الافكار أو المشاعر من منطقة الشعور- الوعي Conscious بالنفس البشرية إلى منطقة اللاشعور Unconscious وعند ذاك فإن الدوافع أو الذكريات أو الافكار أو المشاعر لا يعود يحس بها الإنسان أو يدركها أو يعلم عنها شيئا بل تصبح لاشعورية، ويضيف "طه" أن الكبت هو الذي يقوم بالدور الرئيس في نسياننا لأفكارنا وذكرياتنا ومعلوماتنا ورغباتنا ومشاعرنا فلا نعود نحس بها أو نتذكرها حتى لا تسبب لنا ضيقًا أو قلقًا أو ضررًا.

أما "التنفيس" كما يرى "حسين عبد القادر" في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بانه هو تفريغ وإطلاق عقال التوترات الناجمه الشحنات الانفعالية وموضوعاتها من ذكريات أو مركبات تسبب الألم والتي غالبًا ما تكون لاشعورية، ويضيف"عبد القادر" قوله عَدل "فرويد" عن هذه الطريقة التي يعد التطهير وسيلتها الأساسية- التحليل النفسي القائم على التداعي الطليق والطرح، وإن كان ذلك لا ينفي أن الموقف العلاجي قد يتضمن نوعًا من التنفيس لا يعتبره المحلل النفسي هدفه الأول، وإن ظلت بعض المدارس العلاجية موثقة إليه لا تتجاوزه إلى إعادة البناء والذي نعتبره الهدف الاساس في ظننا لأي علاج، ومن الجدير بالذكر ان نشير إلى أن التنفيس قد يكون ظاهرة تلقائية لدى الكبار بقدر ما نجده لدى الأطفال على سبيل المثال عندما يصوغون في العابهم تلك المواقف التي تسبب لهم الألم، وذلك بهدف السيطرة عليها في مستوى رمزي وإزالة التوتر الناشئ، ويرى "فرويد" أن الفن والجمال بعامة يسهم في تفريغ مثل هذه التوترات الناجمة عن الخبرات المؤلمة أو عالم المكبوت بعامة" عبد القادر، ص255"

ونود أن ننوه بأن ميكانيزمات "آليات "-إواليات- الدفاع هي عديدة في التحليل النفسي منها: الاسقاط Projection، الاستدخال، الإنكار Denial، التوحد" التقمص" التماهي، التعيين والتعيين الذاتي Identification، التكوين العكسي Reaction formation، التسامي Sublimation، التكثيف Condensation، التحويل Transference، النقل Displacement، النكوص Regression، العزل "الإقصاء" Exclusion، الإلغاء، التبرير Rationlisation، التعويض Expiation، سقوط قيد الاب "في اللغة الالمانية Verwerfung ويعني الرفض"

ونحن بصدد البحث في هذه السطور يقودنا الحديث إلى رأي " فوجن Vaughn" قوله إن الكبت بالرغم من أنه قد يحقق راحة وقتية للفرد، إلا أنه يعمل على تاجيل الاضطرابات الإنفعالية عن طريق إخفاقها، وترى "كارن هورني" أن كبت المشاعر العدوانية مثلًا هو السبب الرئيس في القلق ومن ثم العصاب "الاضطرابات النفسية" " الشرقاوي، ص 263" وهذا الأمر ينطبق على كل ميكانيزمات "آليات" الدفاع وتسمى أحيانا الحيل الدفاعية.

يرى "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي أن من الممكن أن نلاحظ أثناء هذا الكفاح قيام "الأنا" بعمليتين من عمليات نشوء الاعراض، وهما عمليتان تستحقان ان نهتم بهما اهتمامًا خاصًا لأنهما تمثلان الكبت، ولهذا السبب فهما جديرتان بان تبينا لنا غرضه وطريقته، ومن الممكن أيضا ان يعد ظهور مثل هذه الوسائل المساعدة والبديلة كدليل على أن الكبت Repression الحقيقي قد لاقى بعض الصعوبات، وإذا عرفنا أن " الانا" في حالة العصاب القهري يكون عرضة لنشوء العرض إلى درجة تفوق جدًا ما يحدث في حالة الهستيريا، وأنه يتمسك في إصرار بالغ بعلاقاته مع الواقع ومع الشعور، وإنه يستخدم لتحقيق هذه الغاية جميع قدراته العقلية – إلى درجة أن عملية التفكير ذاتها تصبح مشبعة حدًا بالطاقة النفسية وبالطاقة الجنسية- فمن المحتمل إذن إذا عرفنا ذلك أن تكون لأنفسنا فكرة صحيحة عن أهمية هاتين الوسيلتين الناشئتين عن الكبت" فرويد، ص 91"

إن الكبت يقود صاحبه إلى راحة نفسية مؤقتة يهدأ، يستكين، يتقبل نفسه ولو لفترة قصيرة حتى ليبدو انه تكيف مع الحدث، لكن المكبوت يعود مرة أخرى بعدة صور، صور لاشعورية، وأولها الحلم، إن لم يكن الفعل المكبوت شيء عظيم وله عمق في النفس ويسبب شعور عظيم بالذنب وقول العلامة"مصطفى زيور" أن الأخطاء تنجم أكثر ما تنجم من الجبن عن مواجهة الحقائق" وكثير من عودة المكبوت بصور اخرى يلمح لها اللاشعور- اللاوعي مثل زلات اللسان والفلتات. ويعرف من يدرس التحليل النفسي ويتعمق في آليات الدفاع يجد نفسه قد وضع أصبعه على خريطة النفس من خلال معرفة هذه الآليات الدفاعية وأولها وأعظمها الكبت ولذا فإن الكبت ينشأ من الصراع بين قوتين تحت شعوريتين: الـ "هو" والـ " الانا الاعلى" صراع شرس أحيانا يؤدي إلى أسوأ النزاعات الداخلية، إنها نزاعات تزداد قسوة بمقدار ما يشعر الشخص بانه ممزق بين ميول كثيرة دون أن يعلم ما يجري في ذاته" داكو، ص 181" يمكننا القول بأن تلك النزاعات التي تنشا في النفس مصدرها الرغبات المتضاربة التي تلح بالطلبات على التحقيق إلا إنها تصدم بالعديد من الموانع والمصدات الإجتماعية والدينية والقيم وسلطة الأب والأم والقبيلة فتلجأ النفس إلى الكبت، ويقول العلامة" مصطفى صفوان" أن إشباع متطلبات الرغبات مُستحيل وهو الاكثر مأساوية" صفوان، ص 139" ولذا فإن الكبت أزاء ذلك يكون بالمرصاد بفعل مكتب الكمارك النفسي وهو الأنا الاعلى، ونجد أن المرأة في المجتمعات الشرقية مُعرضة أكثر من الرجل للإضطرابات النفسية - نظرًا لأن دواعي الكبت عندها هي أكبر بكثير مما عند الرجل"صفوان وحب الله، ص 266" ويناقش فيلسوف التحليل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" بناءً على رؤية "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي ولكنه عمق الرؤية بعد أن وضع فرويد نقطة النهاية لحالة "شريبر" حيث يقول "لاكان" المكبوت في حالة الأعصبة" الاضطرابات النفسية" يعاود تمظهره في مكان الكبت نفسه، في المكان الذي تم كبته فيه، أي في وسط الرموز، ولكون الإنسان يندمج في هذا الوسط ويتعامل معه كفاعل وناشط، فإن المكبوت يتمظهر في المكان نفسه مُقتَنعًا. أما المكبوت في الذهان، إذا ما كنا نفقه قراءة فرويد، يعاود الظهور في مكان مغاير، في مستوى الخيالي ومن دون قناع. إن هذا لواضح جدًا وليس بجديد ولا بمبتدع وإنما يلزم الإدراك بانه نقطة الأساس" لاكان، ص 123"

أما التفريغ أو " التنفيس" فالهدف منه هو خفض التوترات والقضاء على التفكك، او بعبارة اخرى هو التكامل وبفضل مرونة الاهداف الغريزية، يلعب "الأنا" عادة دورًا رئيسًا في تحديد الاهداف مع تقرير الواقع الخارجي والداخل جميعًا كما رأى ذلك "دانييل لاجاش" ويضيف أيضا درست أنا فرويد "1936" حيل الدفاع كما درسها فينكل"1944" والتأثير العام لهذه الحيل هو الكبت في اللاشعور، ويدل " الكبت" أيضا حصره في الميل اللاشعوري إلى تجاهل أو نسيان النزعات أو الأحداث التي تمثل بصفة عامة أنواع الإغراء أو العقوبات أو الاشارات المتعلقة بالمطالب الغريزية التي لا يمكن قولها مثال ذلك نسيان النيات، أو أسم، أو مناسبة انفعال أو معناه، وقول "لاجاش" أن التفريغ لا يعاق ومن امثلة ذلك: تصعيد حوافز الجنسية المثلية في الصداقة والعلاقات الإجتماعية، وتصعيد الحوافز السادية عند الجراح، وتصعيد الحوافز الفمية عند المغني والخطيب" لاجاش، ص78) ونستطيع القول أنه يستخدم اللغة والكلام بأعذب الالحان واعذب الكلمات بلسان يوصل ما يريد بكل سلاسة وشفافية، لا سيما أن "سوسير" طرح تمييزه بين اللغة والكلام واللسان ليؤكد بان اللسان هو موضوعها الحقيقي، وهو ما يمكن التلاعب فيه والتاثير على المستمع بما ينطق به حيث يقول وجود علاقات اللغة بالمجتمع وبعلاقات اللغة بالمحاكاة الصوتية" مونان، ص14"

نلاحظ في أساليب اللجوء إلى التفريغ المقبول إجتماعيًا هي النكتة الهزلية، والنكات ذات الطابع الجنسي، والنكتة السياسية، وفي ثقافتنا العربية من الاعلان عنه بغير النكتة تزداد النكتة المروية على ألسنة الفكهِين الضاحكين، وإن أكثر النكات العربية إثارة عند العربي هي النكتة الجنسية، ويوضح هذا لنا آلية" الإسقاط والإزاحة" التي يعتدها العربي كطريقةٍ للتنفيس عما يخجلُ من الإعلان عنه بغير النكتة، وكثيرًا ما ترتبط النكتة الجنسية بالجريمة لأن الجنس عند العربي لا يزال يحمل رمزية (الفاعل والمفعول به) فيروي صفة الفاعل "المذكر" بصيغة المعتدي المتُهور ويروي صفة المفعول به " الأنثى" بصيغة المعتدى عليه المستُغل، وحينما يكون السادي متُلذذًا برؤية ضحيته تعاني من أذاه فإنه يَعمد إلى إنطاق المرأة في النكتة بصيغة المُعرف رغمًا عنه بحاجته التي أخفاها حياءً وخجلا، وترتبط المرويات السياسية عند العربي بنكتة الجنس والجريمة" إبراهيم، ص 116" ويرى "مصطفى زيور" أن عمليات التكثيف والإزاحة الرمزية تتكشف آثارها في حياتنا اليومية في فلتات اللسان وفلتات القلم أو النكتة، ومن الجلي أن النكتة لا تكون إلا "تكثيفًا" أو " إبدالا" مقصودًا لذا أن الافراد الذين يتخذون الهزل مهنة يغلب أن يكونوا غير متزنين نفسيًا، فينفسون أثناء هزلهم عن الحبيس من الميول المحظورة التي لم يفلحوا في ضبطها والتحكم فيها جيدًا، وبعبارة أخرى فإن مواهبهم الفكاهية تزودهم بما يمكن لهم من الظفر بقدر كاف من الإتزان ما كانوا ليحصلوا عليه بغير موهبة الهزل" زيور، ص 139"

ولو استعرنا من "لاكان فكرة الدال والمدلول في النكتة وقائلها فهو يرى"لاكان" إن القول يدل على شيء وبان هناك شخصًا ما يستعمل الدال للدلالة على شيء هو ما يسمى Signatura rerum ويضيف "لاكان" قوله تعلمنا في تحليلنا للصلة بين الدال والمدلول أن نركز على السانكرونية والدياكرونية معًا"لاكان، ص 210، (السانكرونية وتعني "التزامنية" اللسان بغض النظر عن فعل الزمن فيه، وتهتم أيضا بالعلاقات النفسية والمنطقية الرابطة بين أطراف متعايشة تُكون نسقًا فيما بينها من خلال إدراكها من طرف وعي جماعي واحد، أما الدياكرونية وتعني"التعاقبية"، فهي التي أنيطت بها مهمة دراسة اللسان على محور المتتاليات، مونان، ص 55") وإذا ذهبنا أبعد من ذلك وعلى ضوء فكر لاكان أن اللغة عندما تتكون لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل "أو بعبارة أحسن، حمل " الرغبة البشرية، ولما كانت الرغبة مكبوتة فهي تظهر بطرق عدة تتحايل على الذي قام بالكبت الفردي والجمعي، أو بفعل قوة السياسة أو الدين، أو القيم، أو التقاليد، أو كل ما يتيح لها التعبير عن ما يجول بين ثنايا النفس لذلك فإن ميل الذات إلى ترميز ما لا يستطيع الإحساس به بإعتباره تمزقًا ودراما، أو فكاهة وإلى تكراره إلى ما لا نهاية له، والخلاصة يمكننا القول إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى" شملا، ص14" والتفريغ سيد الموقف في ذلك لدى جميع البشر وبمختلف انواعه ومساربه.

***

د. اسعد شريف الامارة

..........................

المصادر:

- إبراهيم، ريكان(2010) مقدمة في علم نفس العرب، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان.

- داكو، بيير(2007) الانتصارات المذهلة في علم النفس الحديث، ترجمة وجيه أسعد، الدار المتحدة، دمشق.

- زيور، مصطفى (1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.

- الشرقاوي، مصطفى خليل (ب.ت) علم الصحة النفسية، دار النهضة العربية، بيروت.

- شملا، فيليب (2006) اللغة الخيالي والرمزي، اشراف مصطفى المنساوي، منشورات الاختلاف، الجزائر.

- صفوان، مصطفى (2019) ما بعد الحضارة الأوديبية، ترجمة علي نجيب إبراهيم، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت.

- صفوان وحب الله، مصطفى و عدنان(2008) إشكاليات المجتمع العربي، قراءة من منظور التحليل النفسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت.

- طه وعبد القادر وآخرون، فرج، حسين(1993) موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، دار سعاد الصباح، الكويت.

- فرويد، سيجموند (ب.ت) الكَف وَالعَرض وَالقَلَق، ترجمة محمد عثمان نجاتي، دار الشروق، بيروت.

- لاجاش، دانييل(ب.ت) المجمل في التحليل النفسي، ترجمة مصطفى زيور وعبد السلام القفاش، مطبعة عين شمس، القاهرة.

- لاكان، جاك (2017) الذهانات، ترجمة عبد الهادي الفقير، دار التنوير للطباعة، تونس بيروت، القاهرة.

- مخيمر، صلاح(1978) في التناقض الوجداني، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

- مونان، جورج(2016) سوسير أو أصول البنيوية، ترجمة جواد بنيس، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت.

في المثقف اليوم