أقلام فكرية

جماليات النظام الصارم في نسبه وغائية الجمال الأخلاقي

محمد كريم الساعديعمل (ديمقراط) على النسب الرياضية، أي وضع الجمال في صورة النسب التي لا تقبل الخطأ كما في علم الأرقام والقياسات والنسب . وأعتقد في طريقة التشكيل الجمالي الذي يقوم على تشابه الأجزاء وتساويها، فالشيء الجميل " الرائع هو الشيء المتناسق المحدد من كل الوجوه . فالزيادة في الشيء، أو النقصان فيه أمر لا يعجبه، فالجمال يكمن في النظام الصارم، وفي التناسق والتناسب والانسجام بين الاجراء" (1). من هذه النظرة انطلق (ديمقراط) في البحث عن الهوية الجمالية ومفرداتها التي تقوم على نظام تناسق حال من الزيادة أو النقصان في النسب، فالشيء الجميل المتناسق المنسجم بين أجزائه التي لا تقبل الإضافة خارج هذه النسب .إنَّ النظرة الجمالية تكونت لديه من إحساسه المتناهي في مسألة التناسق البعيدة عن الأفراط والتفريط، وكأنها نظرة وسطية معتدلة في تشكيل نسب الأشياء حتى تكون جميلة ومتكاملة في الشكل عاكسة لمضمون متناسب معها . وكأنه يقول إذا أردنا أن نشاهد الجمال علينا أن نميز بين ما هو زائد عن القياسات والنسب في العمل الفني التي يجب أن تبعث السرور في المشاهدة نتيجة لهذه الانسجامات في شكل العمل الفني وحتى في المضمون الفكري لديه .

إنَّ النظرة الجمالية على وفق هذه النظرة عند (ديمقراط) تدخل في تقارب مع الرؤية عند كل من (هيراقليط وفيثاغورس) وتوصلنا " الى النتيجة التالية : إنه حتى ذلك الوقت ظهر علم الجمال كعلم يبحث في نواح معينة من الحياة والكون . وحاول الفلاسفة الذين بحثوا في علم الجمال أن يجدوا وأن يحددوا الأسس الموضوعية للشيء الرائع ذلك الشيء الذي شاهدوه أما في العلاقات الكمية المسيطرة على العالم، أو في الصفات المادية للوجود أو في النظام الصارم في التناسق والتناسب بين الأجزاء " (2).

وفي الانتقال الى فكر فلسفي جمالي آخر عند الفيلسوف (سقراط 470 ق.م – 399ق.م) الذي يعد من فلاسفة الإغريق، أنتج فلسفة خاصة ارتبطت بالسلوك والاخلاق في طريقة التعاطي مع المجتمعات الإغريقي، وتمرد أفكاره ضد المعتقدات الاخلاقية الأثينية التي أعتبرها لا تفيد في تشكيل الوعي والثقافة في هذه المجتمعات . كان يتواجد بين الناس وخاصة المجالس التي تحفل بالشباب من أجل بناء معرفة جديدة لديهم عن طريق أثارة الأسئلة التي يعمد لطرحها مع إخفاء ما يكتنز من حكمة حتى يدخل في مجال أنتاج معرفة جديدة ومغايرة عن السائد في أثينا، وكان يقدم " نفسه كالشخص الذي لا يعرف شيئاً طارحاً على أهل أثينا الأسئلة دوماً، ولا سيما الشباب منهم بغية تدمير المعرفة المكتسبة من دون تفكير وتحفيز التفكير الشخصي، مثبتاً مثلاً للبطل (آخيل) أنه لا يعرف ما الشجاعة، ولرجل السياسة أنهم لا يعرفون جوهر السياسة، هذا هو تهكم (سقراط) الذي لا يعني السخرية، بل الاستفهام والاستجواب (...) وكان هدفه إيقاظ، أو على حد تعبيره (توليد ) المعرفة المكونة سابقاً من الارواح التي تحملها : هذا هو التوليد السقراطي" (3)، من هذه الأسئلة والبحث عما هو خارج الإطار المجتمعي المتفق عليه وكأنه شيء بديهي يحاول (سقراط) بناء طريقة جديدة في تربية المجتمع الاثيني الذي ثار عليه وحكم عليه بالإعدام بسبب طريقته التي اعتبروها مخالفة للقيم الأثينية ومحرضة ضد النظام في اليونان .

إنَّ النظرة الجمالية السقراطية لم تختلف عن اسلوبه في البحث عن الأصيل وليس المزيف، فالجمالية لديه في الأشياء والأعمال الفنية تنبع من أصالتها وجودتها، فهو يرى ذلك من خلال الآتي: " لابدّ أن تكون الجودة في الأشياء هي التي تجعلها جميلة ونافعة (...) فالقبح والرديء هو الشيء الذي لا جدوى منه ولولا معرفة من يصنع الشيء لما أجاد في عمله،لذلك غاية التعليم كانت حاجة لازمة لقوة أثينا وسعادتها، وكانت آمال الفلاسفة ومنهم (سقراط) أن يتعهدوا الخير والجمال، والجمال سر ما آمن به الأثينيون من معان الخلود فقد آمنوا أن الخلود بالمجد، والمجد مما أبدع الإنسان من أثر، والآثار الخالدة لا تولد إلا في الجمال" (4) . وجودة الأشياء هي من تجعلها نافعة وجميلة، وهذه الجودة في جمالية الأشياء والبحث بما يجعلها أفضل في كونها غاية في حد ذاتها . فالجمال في الافعال غايته الخلود، والخلود سمة تعطي الباحث عن الجمال أصالة تستمر معه ما دامت في الحياة وكون هذه الأعمال خضعت للجودة والأصالة، حتى وأن كانت هذه الجودة في العمل الفني ليست للوقت الآني للعمل ذاته، بل من أجل بناء مجد يبحث عنه الكثير، وهذا المجد لا يأتي من أفعال كاذبة، أو أفكار غير سليمة لا يمكن أن تكون لها صدى في عقول الناس عامة والشباب خاصة، وهنا تكمن الغائية التاريخية، و (سقراط) بحث عن كل ما هو أصيل يؤدي للمجد والخلود حتى وأن كان على حساب التضحية بالنفس كما فعل هو عندما وافق على حكم الإعدام على أن لا ينكر الاصيل والجيد المتمثل في أفكاره لصالح الجميل الاثيني المتمثل بتنشئة الشباب على كل ما هو جيد من أفكار متمثلة بنماذج كان يؤمن بها في الشجاعة والبطولة والحوارات الاخلاقية ذات البعد التغييري في المجتمع بعدما أصاب المجتمع في أثينا الجمود حسب اعتقاده .

لقد عمل (سقراط) على تصنيف الأعمال الفنية والأدبية على وفق هذا المبدأ، وقدم تصوراً ناقداً للعديد من الأعمال الفنية والأدبية في مجتمعه، فكان تصوره الآتي عن الشعراء الذين يكتبون شعراً لا يمثل حقيقة المجد والجمال العقلي، وكذلك المشتغلين في المجالات النحتية والرسامين أيضا، فقد عد " الشعراء لا يعقلون ما يقولون، والمثالون والرسامون يكتفون بجمال المظهر، ولا يتعمقون الى بعث الجمال الباطني في انتاجهم، وفنانو العصر لم يعد يهمهم التعبير عن إنتاج الخير بقدر اهتمامهم ببعث اللذة في جمهور المتذوقين، وقد عارض (سقراط) فكرة جعل الفن غاية في ذاته لا وسيلة لتحقيق غاية أخرى، وخرج بنظرية أخرى ترى أن الفن ما كان منه صناعياً، أو جميلاً له وظيفة تخدم الإنسانية خاصة الأخلاقية منها. والجمال هو الهادف والذي يحقق الفائدة، أو الغاية الأخلاقية العليا . يعني (سقراط) بالجمال الذي يحدد النفع في تحقيق المفيد المحقق للخير" (5)، فالأخلاق غاية لديه، والخير هدف وكل هذه القيم لابدّ أن تتحقق على وفق المبدأ الجمالي الذي هو غاية أسمى لديه، فالجمال ليس خاصية حسية، أو لذة ما يحققه العمل الفني للمتذوقين، بل كل الفنون والآداب إذا لم تتعمق في التقصي عن الحقيقة التي تنقل الى الافراد والجماعات الى المجد، وإنَّ لم يفعل ذلك الفنان سيكون فنه خالي من المشاركة في خلق وجدان جمعي قادر على أن ينهض بحقيقة الامة وتطورها نحو التقدم والمجد، فالفنون لديه سواء أكانت رسماً أو نحتاً أو تمثيلاً أو شعراً ملحمياً أو وجدانياً لابدّ أن تلامس حياة الناس وخاصة الجوانب الأخلاقية منها، وعلى عكس ذلك ستكون خارج الجمال السقراطي الذي هدفه هو الأصالة والجودة والمجد الأخلاقي، وأن الفنون التي توصل المشتغل بها الى هذه المفاهيم ستكون ضمن وظيفة الفن الحقيقية.

***

ا. د. محمد كريم الساعدي

.................

الهوامش

1. م. أوفسيانيكوف، ز. سميرنوفا : موجز تاريخ النظريات الجمالية ، تعريب : باسم السقا، بيروت : دار الفارابي، 1975، ص15.

2. المصدر نفسه، ص 16.

3. ديديه جوليا: معجم الفلاسفة والمصطلحات الفلسفية،  ترجمة: فاديا قرعان، بيروت: دار المؤلف للنشر والطباعة والتوزيع، 2016، ص133، ص134.

4. د. غادة المقدم عذره : فلسفة النظريات الجمالية، بيروت :جروس برس، 1996، ص 44،ص45.

5. المصدر نفسه، ص19،ص20.

في المثقف اليوم