أقلام فكرية

نقد تصوّف الاستعباد

عبد الجبار الرفاعيفي التصوّف قيمٌ إنسانيةٌ كونيةٌ أبدية، كالمحبّةِ والتراحم والشفقة والسلام، والصدق والأمانة، والخيرِ والحقّ والعدل والتكافل، وتذوّقِ التجليات الوجودية للجمال الإلهي. ‏هذه القيمُ الإنسانيةُ هي ما يبقى من تراث التصوّف وغيره في كلِّ زمان ومكان.كلُّ ما هو مرآةٌ للعصر الذي ظهر فيه من التراث، وما فرضته ضروراتٌ واحتياجاتٌ زمنية، وإكراهاتٌ وثقافاتٌ محلية، يظل محكومًا بمشروطياتِ عصره، لافتقاره لما يمدّه بالحياة في غير زمانه، لذلك لا يصحّ تعميمُه لكلِّ العصور.

تراثُ التصوّف بحرٌ عميق يضمُ عناصرَ غير متجانسة، ففي الوقت الذي نرى اللآلئ والجواهرَ النفيسةَ تعيشُ بباطنه، نراه يتسعُ بجوارها لأشياء غير ثمينة، وأحيانًا أشياء سامّة. اللآلئ والجواهر النفيسة في تراث التصوّف الواسع لا يصطادها إلا صيّادٌ متمرّس خبير.

وبغيةَ اصطفاء ما يصلح منطلقاتٍ أساسيةً لبناء رؤية اعتقادية تتحرّر من إكراهاتِ التاريخ وتناقضاتِه، ورؤيةٍ للعالم تواكب التحوّلات العظمى في نمط حضور الإنسان في العالم اليوم، تنبغي الإفادةُ من تراث التصوّف المعرفي، لكن لا بمعنى الضياع في مداراته الواسعة، بل بتوظيف ما هو حيّ من مقولاته ومفاهيمه، والتعاطي معها بوصفها مصباحًا ينير الطريقَ لاجتهاد ينشد صياغةَ رؤية للعالم، يتبصّر بها المسلمُ طريقَ خلاصه من المتاهات، ويهتدي لحضورٍ فاعل مؤثّر في العالم الذي يعيش فيه.

تظلّ الرؤيةُ التوحيديةُ للتصوّف المعرفي اجتهادًا في فهم التوحيد وتصورًا لبناء نمط الصلة بالله، وكلُّ اجتهاد لا ينفي اجتهادًا مغايرًا ينبثق في عصر لاحق. فشيءٌ من فهمِ محيي الدين بن عربي وغيرِه من العرفاء مرآةُ العصر الذي عاشوا فيه، ولا يمكن أن يتحرّر كلُّ فهمٍ للدين ونصوصِه من الأفق التاريخي الذي ينبثق فيه. لذلك ينبغي على المجتهد في هذا المضمار ألّا يقلّد ابنَ عربي أو غيرَه ولا يستنسخه كما هو، بل عليه أن يقدّم فهمًا للتوحيد يوظّف ما انتهت إليه رؤيته في سياق الواقع الذي يعيشه المسلمُ اليوم، وما يواجه وجودَه وحياتَه الروحية والأخلاقية من تحديات ومشكلات.

تشتدُّ الحاجةُ اليومَ لاستئنافِ النظر في تراث التصوّف المعرفي، والتوغّلِ في طبقاته المتراكمة وغربلتِها وتمحيصِها، واصطيادِ ما هو ضروري منها للعيش المشترك في إطار التنوع والاختلاف؛كالقولِ بالنجاة لكلِّ مَنْ كان اعتقادُه راسخًا بصورة الله في ضميره، والقولِ بالتعدّدية وتنوّع الطرق إلى الله، وتوظيفِ شيء من مفاهيمه في بناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية. تراثُ التصوّف ينتمي لعصره، ولم يتحرّر كلّيًا من إكراهاته وملابساته ورهاناته ومشكلاته، فقد تجد أحيانًا في آثار عارف كبير كمحيي الدين بن عربي مقولاتٍ ومفاهيمَ ومواقفَ متضادّة، يحيل بعضُها إلى مرجعيات كلامية وفقهية مغلقة، بموازاة المساحة الشاسعة والعميقة لمقولات ومفاهيم ومواقف التصوّف المعرفي المنفتحة الحرّة.

على الباحث في التصوّف أن ينتبه إلى أن تراثَ المتصوّفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالَمنا اليوم، لأنه كأيّ تراث آخر صنعه البشرُ ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوّن فيه، إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوال ذلك العصر ومختلفُ ملابساته وشجونه. وهو تراثٌ يتضمن كثيرًا من المقولاتِ المناهِضة للعقل، والمفاهيمِ التي تعطّلُ إرادةَ الإنسان وتشلّ فاعليتَه، وتسلبه حريةَ العودة إلى عقله واستعمال تفكيره النقدي.

لا تخلو آثارُ ابنِ عربي وبعضِ العرفاء من تناقضٍ ظاهري، كما أنَّ بعضَها مكتوبٌ بلغة رمزية، لا يتطابق ظاهرُ الألفاظ فيها أحيانًا مع مقاصد المؤلّف، وربما تعمّد ابنُ عربي الإبهامَ والغموضَ، لذلك حرص في بعض كتبه أن يتحدّث عن «عقيدة الخلاصة» في مواضع متفرّقة من كتاب واحد، فنجده يصرّح بذلك في الفتوحات المكية قائلًا: «وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، ولكن جئتُ بها مبدَّدَةً في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة مبينة، ولكنها كما ذكرنا متفرقة».

كذلك يرى القارئُ في كتاباته تداخُلًا بين أكثر من نظام معرفي، ومقولاتٍ كلاميةً لا تلتقي مع فهمِه للتَّوحيد، ويقرأ رؤىً له تستقي من منابع متضادة. عندما تقرأ عباراتِه تجده أحيانًا وكأنه باطنيٌّ مع الباطنيين، ظاهريٌّ مع الظاهريين، فقيهٌ مع فقهاء الظاهرية، متكلّمٌ مع متكلمي الأشعرية، فيلسوفٌ مع الفلاسفة الذين يتمسّكون بالبراهين العقلية ويدلّلون على مقولاتهم بحجج منطقية، عارفٌ يعتمد الإشراقَ والكشفَ والمشاهدةَ والذوقَ في تسويغ مقولاته، متصوّف مع متصوّفة الطرق الصوفية المنطوين على الذات في انسحابهم عن الحياة، ممن يرون أن الطريقَ إلى الله يمرّ عبر الهروب من متطلبات الجسد الأساسية وحاجاته الضرورية، ويسرفون في اعتزال الناس في خلواتهم وينشغلون بالصمت والجوع والبكاء والسهر، وينهمكون في ترديد الأذكار، وفي رياضات تنهك الجسد.

لا شك أن هذا الضربَ من الارتياض الذي يدعونا إليه هؤلاء لا يمكن أن يصبح وصفةً جاهزةً لبناءِ شخصيَّة روحية أخلاقية سليمة، وقد يفضي إلى بعض الأمراض النفسية وحتى الأخلاقية. وذلك ما يدعونا إلى التحذير من التورُّط في استحضار التراث وتبنّيه كما هو، سواء كان تراثًا روحيًا أو أخلاقيًا أو عقائديًا، حتى تراث العرفاء كمحيي الدين بن عربي يلزم التعاطي معه بيقظة ومهارة الخبير بتفاصيل منظومته المعرفية «المبدّدة» في مجموعةِ أعماله، وممن يعرف جيدًا متطلباتِ حياة المسلم اليوم، والقادر على استلهام شيء من هذا التراث الذي يصلح أن يكون منطلقًا لإغناء راهن الحياة الروحية والأخلاقية في عالَم الإسلام.

بعضُ أنماط التربية الروحية في التصوّف تتنكّرُ للطبيعة الإنسانية، فتسرف في ترويضِ الجسد، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض يكون الجسدُ فيها ضحيةَ الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، وممارسةِ بعض التمارين القاسية العنيفة لترويض الإنسان. هذه الأساليبُ من أهمّ أركان تربية السالك لدى أغلب الطرق الصوفية. لا يطيقُ الإنسانُ التقشفَ الشديد والتنازلَ عن معظم الاحتياجات الأساسية للجسد، ولا يتحمل الإكراهَ القسري لطبيعته على ما لا تُطيقُه. التنكرُ لهذه الاحتياجات أحدُ منزلقات التربية لدى كثيرٍ من المتصوّفة والرهبان في كلِّ الأديان، وقد كانت ومازالت سببًا لانشطار شخصية بعض هؤلاء واضطراب سلوكهم. الارتياضُ العنيف الذي يتنكر لاحتياجات الإنسان الجسدية والنفسية والعاطفية والعقلية، طالما فرضَ على المتصوّف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذات، وأحيانًا أنتج أمراضًا نفسية وأخلاقية مزمنة.

الأركانُ الأربعة المعتمَدة في الطريقة الأكبرية مثلًا، هي: (الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر). هذه الأركان تقودُ الإنسانَ للانطواء على الذات، والانسحاب من الحياة والعزلة، شاء أم أبى. ابنُ عربي يستغرق في تأويلات تفصيلية لكلِّ واحد منها، فهو يشترط مثلًا أن تكون الخلوةُ للسالك مختلفةً عن طريقة الرهبان المسيحيين والبراهمة، لكنا لا نفهم كيف يعتزل المتصوّف الناسَ في خلوته، وينشغل بالصمت والجوع والسهر، من دون أن تكون تلك رهبنة. أليس ذلك الاختلافُ شكليًا، ولا يعدو إلا أن يكون اختلافًا في التسمية فقط؟            يتحدّث أحمد بن سليمان النقشبندي عن سبع صيغ للأذكار في طريقة ابن عربي، وهي: "لا إله إلا الله" تكرر 1100 مرة، "الله" تكرر 100000 مرة، "هو" تكرر 90000 مرة، "حي" تكرر 70000 مرة، "قيّوم" تكرر 90000 مرة، "رحمن" تكرر 95000 مرة، "رحيم" تكرر 100000 مرة. يحتاجُ الإنسانُ إلى تفرغٍ ووقت وطاقة هائلة لتكرار الكلمات والعبارات نفسها آلاف المرات، بشكل أقرب للميكانيكي الذي قلّما يلامس القلب. تكرارُ هذا النوع من الذكر لا أظنه الطريقَ لوثبة الروح، ولا أخاله يعملُ على إيقاظ القلب. وثبةُ الروحِ وإيقاظُ القلبِ يتطلبان كثيرًا من التدبر الصامت والهدوء والطمأنينة، والتفكّرِ في خلق السماوات والأرض: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ". لا يُنكَر أن تكرارَ الكلماتِ والعبارات ذاتها بأنغام وألحان وإيقاع جماعي مثير؛ يمكن أن يُشعلَ المشاعر، ويوقدَ العواطف، ويُلهِب الحماس، وربما يبعثُ شيئًا من الانشراح. إلا أن ذلك لا يوازي ما تورثه هذه الفعاليةُ من إهدار لوقت الإنسان، واستنزاف لطاقته، وتعطيل لعقله، وإغراق تفكيره في حالة غَيْبُوبَة.

هذا النوعُ من الانصراف عن الحياة المجتمعية ينتهي إلى منفى اختياري، لا يتناسبُ إلا مع حياة رهبان يعيشون عزلةً عن الناس، لا يستمعون في عزلتهم إلّا لصدى أذكارهم. يستسلمون لتعاليم جاهزة تستنزفُ طاقتَهم، لا يفكرون في آثارها، ويغفلون عن ضياعهم في الانهماك فيها.  لا يتناسبُ هذا الانخراطُ في العزلة مع حياة الإنسان الذي يهمُهُ إعمارَ الأرض والعملَ والبناء والإنتاج، ويتعارضُ مع مَنْ ينشدُ العيشَ في الواقع الذي يضجّ بمختلف التحديات والمشاكل والآلام. ولا يتقبله مَنْ يتحملُ مسؤوليةً أخلاقية تجاه الإنسان وقضاياه العادلة، ولا يتخاذلُ أو يتهربُ من وظيفة الاستخلاف في الأرض، وتسخيرِ الطبيعة واستثمارِ مواردها فيما ينفعُ الناس.

التشديدُ على تقليد أقطاب التصوّف في سلوكهم، والحثُّ على تقمصِ حياتههم الخاصة، والوقوع في أسرِ تعاليمهم يمسخُ الإنسانَ فيصيّره كائنًا شبحيًا، يفتقد أيّةَ ملامح شخصية يختصُ بها ويتميزُ عن غيره. تصوّف الاستعباد يؤكدُ على الاستسلامِ والسمعِ والطاعة، والتخلي عن الإرادة الذاتية. الطاعةُ بهذا الفهم تعني انقيادَ الإنسان ورضوخَه وخضوعَه الكامل للشيخ، وتنازلَه عن ذاته وحقوقه وحرياته، وقد يصلُ ذلك إلى استعداده للتنازل عن كرامته. ربما يوصي بعضُ شيوخ التصوّف المريدَ بشيء من الممارسات المبتذَلة مما يستبشعها الذوقُ السليم. بعضُ الطرق الصوفية ترى التنكيلَ بالنفس ضرورة تربوية للسالك، حتى لو لجأ للتسوّل والتسكع في الطرقات.

شيوخُ التصوّف بشرٌ تورّطَ مريدوهم في تقديسِ آرائهم، وتوثينِ سلوكهم، وتحويلِ شخصياتهم إلى أصنام. تمادى المريدُ في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيةٍ لشيخه، وتعالتْ تعاليمُ الشيخ في وجدان الأتباع فصارت سجنًا لهم، بنحوٍ صار المريدُ يرضخُ لها حدّ محو شخصيته ونسيان ذاته، وانتهت إلى تكبيلِهم وعجزهم وشلِّ حركتهم. المشكلةُ العميقة في تصوّف الاستعباد أنه يبرع في نحت أوثان البشرية، بنحو صار جلالُ الدين الرومي المتخيَّل مثلًا في وجدان الكثير من أتباعه وثنًا. هنا انقلبت وظيفةُ التربية في التصوّف، فأضحت تنتج عُبّادًا لأوثان بشرية. الله يدعو إلى التوحيد، وألا نتخذ أحدًا من دون الله إلهًا، ولن نعبد سواه أبدا. "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ".

حتى عبادة الله يمكن أن تتحوّل إلى صنم يستعبدُ بعضَ المتصوّفة. سُئِل أبو يزيد البسطامي: "مالنا نعبدُ اللهَ ولا نجدُ لذةَ العبادة؟ قال: إنكم عبدتم العبادةَ، ولو عبدتم اللهَ لوجدتم لذةَ العبادة". ميكانيكيةُ العبادة، والإسرافُ في تكرار الأذكار باللسان، والولع بالكم، وانفصال القلب عن اللسان يعبث بروح الإنسان، وربما يكون أثرُه عكسيًا يُهشِّم الإنسان.

يتعاملُ المريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنمًا، لذلك تنطفئ شعلةُ أرواحهم، ويمسون رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم. يصادر مشايخُهم حرياتِهم، ويتسلطون على حياتهم الخاصة أحيانًا، ويحاولون التحكمَ بتفكيرهم وعواطفهم وسلوكهم. بمهارةٍ يبتكر شيوخُ بعض الطرق عملياتِ تدجينٍ للأتباع، يتنازل فيها المريدُ لهؤلاء عن حرياته طوعًا، ويسمح لهم بالتسلط على كلِّ شيء في حياته. هنا تنقلب وظيفةُ التصوّف، فبدلًا من أن يكون امتلاكًا للذات عبر وصالها بالحقّ، والاستغناء عن كلِّ شيء سواه، يتعرض المريدُ إلى انسحاق مُهين للكرامة أمام مشايخ الطرق.

تصوّف الاستعبادِ يعني أن يتطوّعَ الإنسانُ بوضعِ كلِّ شيء في حياته تحتَ وصايةِ شيخِه. هذه بدايةُ محوِ الذات الفرديَّة، وإنتاجِ نسخٍ متماثلة من المتصوّفة، تظهر متطابقةً في الخارج؛ تتشابهُ في كلِّ شيء كأنَّها روبوتات. نشأ تصوّف الاستعباد من إساءةِ فهمِ وتطبيقِ معاني القضاءِ والقدرِ، والتوكّل والتسليم لله، والصبر وتحمّل الألم، وغير ذلك من اعتقاداتٍ أنتجتْ تعطّيلَ إرادةِ المتصوّف، وشلَّ فاعليته وحركته، وغفلتَه عن استعمال عقله، وتقييدَ حرية تفكيره النَّقدي، وجعله إنسانًا مُسْتَلَبًا رَاضِخًا.

تضخّمُ الصورُ المتخيَّلة في ذهن المريد يعمل على تنازله عن كلِّ شيء في حياته لشيخ الطريقة، واذعانِه وانقياده وخضوعه له مختارًا. متخيَّلُ المريد لا يكفُّ عن ابتكارِ المواقف الخارقة والأحوالِ المدهشة والهالةِ المقدّسة للشخصية الروحية الاستثنائية. يظلُ المريدُ يراكمُ الصورَ المتخيَّلة بشغف، إلى أن تصلَ الصورُ المتخيَّلة حدًا تمحو فيه الطبيعةَ البشرية لهذه الشخصية، وتصيّرها في ذهن المريد كائنًا مجردًا من المادة وشؤونها، لا تشبه في عيشها وأحوالها حياةَ الناس في الأرض بشيء. الصورُ المتخيَّلة تتوالد باستمرار،كلُّ صورة تولِّد صورةً أوسع منها، تواصلُ هذه الصورُ تمدّدها وتوليدها لصورٍ أخرى بكثافة ‏حتى تستبدّ بالذهن، وتنتزع تلك الشخصية من عالَمها الأرضي وترفعها إلى العالَم الربوبي. ‏تفرضُ الصورُ المتخيَّلة حضورَها فتأسر ذهنَ المريد وتخفي عنه الواقع. إذا تضخّم متخيَّلُ المقدّس توارى العقلُ النقدي ‏واحتجبَ الواقع. لو لم يضع العقلُ النقدي حدًا لتضخّم هذا المتخيَّل يغرقُ الذهنُ في اللامعقول.‏

العقلُ هو المرجعيةُ في إصدار أي حكم ‏على أية قضية ‏في الدين والدنيا. الأديانُ والمقدسات تتضخّم في المتخيل باستمرار، لا يضع هذا التضخّمَ في حدوده إلا العقلُ. يظلُ العقلُ هو المرجعية الوحيدة في اكتشاف المتخيل وبيان حدوده وآثاره.

آثارُ العرفاءِ مكتوبةٌ بلغةٍ خاصة، يتطلبُ فهمُها الدقيق استيعابَ معجمها الاصطلاحي. أحيانًا يستعمل العرفاءُ الكلمةَ في معنى لا يرادفُ معناها المستعمَل عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين وغيرهم. لكلِّ علمٍ ومعرفة مصطلحاتُه ومعجمُه، ومَنْ لا يُتقِن ذلك المعجم لن يجدَ طريقًا لاكتشاف خارطته والوقوفِ على مدياته. الجهلُ بمصطلحات العلوم والمعارف ولغتها يغلقُ كلَّ الأبوابِ لفهمها.

من متاهاتِ التصوّف اعتمادُ النسبِ معيارًا محوريًا في توريث زعامة طرق التصوّف. مثلًا المولوية لم يتوقفوا عند جلال الدين الرومي الذي صار معبودَهم، بل انصاعوا لسلسلة من أحفاده وذريته، ممن أضحى بعضُهم لا ينتمي لجلال الدين إلا بالدم. تفشى هذا المرضُ الروحي والأخلاقي في حياة المريدين، إلى الحد الذي أضحى يصعبُ شفاءَ أكثرهم منه.

لم يكترث الأحفادُ كثيرًا بالتعليم الديني، ولم ينفقوا جهودَهم باستيعاب التراث والتوغلِ في حقوله المتنوعة الواسعة، ولم ينفقوا زمنًا لتعلّم مصطلحات ومعجم العرفاء كما فعلَ أسلافُهم. أهملوا دراسةَ آثار محيي الدين بن عربي، مثل كتاب فصوص الحكم وغيره من المؤلفات المعروفة في دراسة هذا الفن، ولم يهتموا بدراسة مثنوي جلال الدين الرومي، والنظرِ فيه بتفكير وتأمل دقيق. استبدلَ الأحفادُ تقاليدَ التعليم الديني الرصين بالانشغال بالتفاصيل الدقيقة للأنساب، وأصبحوا خبراء في مشجرات النسب وأمثالها، وانشغلوا بالإعلاءِ من مكانة الانتماء بالدم، والتشديد على ضرورة وراثة الأولاد والأحفاد والعوائل، بوصفها بديلًا مجانيًا عن العلم والعمل والتقوى، وعدم الاكتراث بوثبةِ الحياة الروحية ويقظةِ الضمير الأخلاقي. الأنسابُ وغيرها من موضوعات ربما تبدو شكلية، غير أنهم يدركون تأثيرَها السحري في إثراء رصيدهم الرمزي، وانقيادِ المريد الأعمى لهم، وتكريسِ سطوتهم على حياته

كما انشغل بعضُ أحفاد مؤسسي الطرق الصوفية ببناء التكايا والخانقاهات والزوايا؛ بدوافع في أغلبها ليست روحيةً ولا أخلاقية ولا إنسانية. دوافعُ تشبه بناءَ المساجد لدى أكثر الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدين، الذين يبحثون عن مشروعية دينية. الطاغيةُ صدام حسين انشغل ببناء المساجد المدهشة سنوات الحصار المريرة، وهو يتفرج على المشاهد المريعة لموت أطفال العراق، وانتهاك كرامة المواطنين وتجويعهم بسبب مغامراته وحروبه الطائشة.كلُّ سلطة تفتقرُ ‏لمشروعية الأرض تسعى لاستعارتها من السماء.

تصوّفُ الحرية قليلٌ جدًا وأحيانًا يكون نادرًا، مقارنةً بتصوّف الاستعباد الواسع الانتشار. استعدادُ الإنسانِ للعبودية أسهلُ عليه من مغامرةِ نيلِ الحرية. يجدُ تصوّفُ الاستعبادِ البيئةَ الملائمة لولادته في القهرِ والاكراهِ والاستبداد، الذي يتعرضُ له الفردُ في العائلة والمدرسة والمجتمع والسلطة.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

في المثقف اليوم