أقلام فكرية

مستقبل الإرهاب الديني

سامي عبد العال"إدارة الإرهاب أخطر من جذوره، فبإمكاننا تجفيف الجذور والمنابع، لكن الإدارة فائض قوة تستنبت الجذور وتقويها.."

هل للإرهاب الديني مستقبل؟!.. ربما ينزعج البعضُ (إنسانياً) من هذا السؤال بحكم التحدث عن الزمن الآتي المأمُول، وبحكم أنه يطرح موضوعاً كم سبَّبَ من كوارث وكم مزَّقَ من مجتمعاتٍ وكم قتل من أبرياءٍ. لكن السؤال الآخر: متى وأين استطاعت (الجوانب الإنسانية) أنْ تقلص مساحة الإرهاب أو تقويها؟! إنَّ الإرهاب ظاهرة غامضة ومتعددة الوجوه والأسباب، وفوق ذلك يعدُّ ظاهرةً غير منضبطةٍ بمعايير واضحة. كما أن الإرهاب لم يعترف بالإنسان كإنسان، حتى نأخذ ذلك الجانب بعين الاعتبار، إنما استباح وجوده وحريته وحياته.

وبطريقة استفهامية أخرى... هل هناك للإرهاب عموماً مستقبل إذا قطعنا علاقته بالدين، ومن ثمَّ يتحقق المستقبل دون اعتمادٍ متبادل بينهما؟! وذلك قد يكون مفترضاً لتجنب انحرافات الأصولية العنيفة والتقليل من حمأة الجهاد الدموي. وبالتالي هل علاقة كهذه بين (الإرهاب والزمن) قائمة ميتافيزيقياً أم بشروط الثقافة؟!

الكنز واللص

يجب علينا فهم قضايا الإرهاب الديني وتاريخها القريب على نحو دقيق حتى نراقب مستقبله من عدمه. ولاسيما أن المستقبل بهذا الوضع أمر مركب، إنْ أمسكته من طرفٍ أفلت منك الطرف الآخر وإن إستبعدت طرفاً له، سرعان ما تظهر له أطراف عديدة لم تكن في الحسبان. كما أنَّ معرفته السطحية (أي الإرهاب) في حد ذاتها قد لا تجدي إلاَّ بصدد أفعال فردية هنا أو هناك. فتنظيم القاعدة- على سبيل التوضيح - لم يكن مُعلقاً بمصيره الخاص ولا محددا بظروف وجوده النوعية، بل كان أشبه بـ(كرةٍ من المطاط) بين أقدام لاعبين عالميين ومحليين. لقد كان تنظيماً يماثل (ألعاباً أكروباتية- بهلوانية) تتحرك على خريطة العالم عن بعد. هو كذلك كان تنظيما شبحياً، وإنْ لم نستطع الإمساك بـ(الأيادي الغريبة والإقليمية) التي هي متورطة بمساعدته. تلك الأيادي التي كانت ترتديه كقفازات سياسية لأغراضها الخاصة أو تطرحه كبديل لممارسة الأدوار العنيفة لخدمة وجودها. أشار نعوم تشومسكي أن التنظيمات الجهادية مجرد (أوراق لاصقة) على حاشية القوة الأمريكية المترامية في أنحاء العالم، معتبراً أن الإرهاب صناعة ثقيلة، ربما توازي الصناعات الاستراتيجية والحيوية.

لقد لاحت هناك عدة أهداف وراء ذلك الوضع: أنَّ الإرهاب كان وما زال هو الشبح المرعب الذي يضمن لأمريكا وحلفائها تخويف القوى الأخرى منها. كما أنَّه سمح بتدخل ومراقبة أمريكا لكل المجتمعات العربية وغيرها دون استثناء. علاوة عن أنه كان يُنصّب من أمريكا شرطياً لملاحقة الجُناة بلا هوادة. وليس أقل من أنه كان سيوفر بالمثل(مناطق رخوة) سياسياً وعسكرياً كـ(حقول ألغام خفية) لالتهام ثروات الدول، وكذلك كان سيتيح للقوى الكبرى الظفر بالاستثمار العسكري فيها.

أيضاً ذلك الوضع الرخو للإرهاب ظل مرتبطاً بثنائية "الكنز واللص". فإذا كان صعباً الاستيلاء على " كنزٍ ثمين" بمكانٍ ما، فلماذا لا نأتي له بلص ماكرٍ يسكُّن بالجوار منه؟ واللص الماكر هو الإرهاب وتنظيماته التي تتهدد الحكومات الصديقة (أنظمة الدول العربية والاسلامية). وحينما لا تجد تلك الأنظمة حيلولةً دون استشرائه في باقي المجتمع، فبإمكان اللص الأصلي (أمريكا) أن يتدخل للمساعدة في هذا خلال أي وقت من الأوقات وذلك للزعم بمحاربة الإرهاب والقضاء على التهديدات المحتملة. وبالتالي تستطيع القوة الأكبر المتمثلة في أمريكا الاقتراب من الكنز وسرقته وقتما تشاء. وبالوقت ذاته لا يمنعها الارهاب من جوانب اللصوصية الناعمة تحت عنوان محاربة العدو المشترك.

إذن المستقبل لا يفترض أن الإرهاب منعزلٌ عن: تاريخه الديني وإدارته واستعماله واعادة إنتاجه سياسياً وعولمياً. وتلك القضايا الحرجة تحدد: ما إذا كان له معنى بالنسبة إلى خطاطة معارفنا أم لا؟، وهنا فإن السؤال حول وجوده معناه يعد استفهاماً مستقبلياً فيما هو آت. لأنَّ المعنى الذي يجسده الإرهاب بمستوياته الدلالية والمعرفية والاجتماعية يحضر في الغد. نحن نتساء حول أية ظاهرة من الظواهر لكونها تهمنا تداعياتها وتهمنا فيما ستؤول إليه. فالإرهاب ظاهرة لصيقة بظواهر أخرى لا نعرف حدودها الآن. كما أنه لا يعتبر إرهاباً مستقلاً عن عمليات وممارسات تالية بحال من الأحوال. لكنه مع جميع مراحله لا يكف عن الإيهام بأنه مستقبلي لأطول فترة ممكنة، كما يردد الارهابيون الأية القرآنية في غير سياقها (.. وإن عُدم عُدنا وجعلنا جهنمَ للكافرين حصيراً).

فالدواعش كانوا يطلقون وعوداً شبه مؤكدة بحكم العالم العربي والإسلامي إن لم تكن السيطرة على الكون قاطبة. وهم يعتقدون ذلك باستدعاء دولة الخلافة التي ستحل كافة المشكلات وستحقق الجنان الموعودة على الأرض. وكذلك اعتبرت الجماعات الجهادية السلفية والاخوانية أن غزواً قديماً لامبراطوريات (الفرس والروم) كانت بشارة مبكرةً لهؤلاء الخلَّف إذا ساروا على طريق السلف. وظلوا يرددون أقوالاً من قبيل " لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولوها".

مفارقة الدين

ينطوي الإرهاب الديني على مفارقة ضمنية، بيد أنها تحدد مساراته نشوءً وارتقاءً. المفارقة هي: إنه بالوقت الذي يتأصل فيه الفكر الإرهابي  يزعم كونه من (صحيح الدين). ذلك أن الدين ينطوي على نزوعين أحدهما يعوض الآخر ويطيل عمر وجوده على نطاق واسع: نزوع فردي خاص (سلوك المتدين المتشدد)... ونزوع عام يغطي المجال الاجتماعي والثقافي (تطبيق الشريعة – إقامة دولة الخلافة). وبذلك يستحيل فصل النصوص الدينية التي يشتم الإرهابي منها تحريضاً على العنف دون سواها من نصوص التسامح وقبول الآخر. فالآية التي تقول" اقتلوهم حيث ثقفتموهم" لا تنفصل – من وجهة نظره- عن بعض القرآن " وجادلهم بالتي هي أحسن". أيهما أقرب إلى الموقف تجاه الآخر إذا أردنا توضيحاً للأمر؟

إنَّ الوضع الاعتقادي للمسلم لدى الجماعات الدينية يكبل حركته بطبيعة الثقافة التي يتنفسها، فهي ثقافة مزدوجة (الفردي والجمعي). لأن اقتلوهم تنطبع في مخيلته على هيئة أشخاص يعتنقون ديانات ومذاهب ونحل أخرى. ولذلك يراهم فقط داخل حلبة الصراع الأيديولوجي الماثل فيها. لأن النقيض الأيديولوجي للإرهابي أكثر ظهوراً في الواقع المأزوم. وهذا الالتباس الفكري والحياتي يشكل منطقة عمياء سيتمدد فيها الإرهاب مستقبلاً مهما كان شكل المجتمعات. وفي تاريخ الاسلام السياسي كانت هذه المنطقة الرمادية سبباً مباشرة لظهور جماعات فرعية بديلة من التنظيمات الأم. كـجماعات "التكفير والهجرة" و"أنصار الشريعة" و"الجماعة المقاتلة" و" الناجون من النار" في علاقتها بالإخوان المسلمين. وحتى قبل ذلك لا أبالغ حين أقول إن الوهابية السياسية كانت تتغذى من تلك المساحة وتؤكدها.

هناك عدة ملاحظات:

1- التبادل وراد عادة بين الآيتين السابقتين(اقتلوهم-جادلهم) بحسب النزوع المتشدد للجماعات. ونادراً ما نرى (تسامحاً جذرياً يلغي) ما كان قبله. إنه يأتي جزئياً. وفي هذا يضرب المثال الشهير بمرور جنازة يهودي على نبي الإسلام الكريم. فيقال إنه مشي وراءها على اعتبار أن الميت روح إنساني: أليست نفساً كما قال النبي؟! بينما قد لا يُجدي- أو بالأدق لا يُبذل- هذا التسامح كما لو كان هو المستحيل بعينه. وتصبح الغلبة لـ " اقتلوهم" كفعل أمر يلتهم لغة النصوص الدينية وتأويلاتها. وليس هذا فقط، بل قد يضبط إيقاع العلاقة بين الأديان والمذاهب والمعتقدات. لأن الإسلام – كما قال نبيه الكريم أيضاً في سياق آخر- يجُب ما كان قبله.

2- النصوص الدينية نصوص تعويضية في إفراطها الدلالي. فلأنَّها غير واضحة على نحو تأويلي راهن، فلن يستطيع المسلم إلاَّ أخذاً لها بعين التشدد والإفراط. كما أنها تعمل على ربطه بأقرب معنى يراه ملتصقاً بنفسه (أيديولوجيته ونوازعه المتشددة). فلو قلنا لشخص يعيش في بيئة صحراوية آيات بها القتل والتشدد في الأمور، سيفهمها بأنها على هذا المنوال العنيف إجمالاً دون سواه.

3- المعتقدات الدينية العنيفة تشتغل على الغرائز الأولية للإنسان. لأنها لا تقبل تراكماً معرفياً أو حياتيا سواها. وكذلك تزيل الطقوس والشعائر في هذا الاتجاه يومياً كل العوالق الإنسانية بالجسد والخيال. فالصلاة مثلاً عبارة عن صلة رأسية بين المسلم وربه بلا وساطة ولا تزلف ولا تلون. وإذا كانت فيها وساطة لن تقبل بسهولة. والأمر نفسه في عملية الوضوء كجانب رمزي لتلك العملية. إذ يلامس الماء الجسد مباشرة وتمسحه كمادة خام لحضور المقدس. ولهذا يسمى الوضوء بالطهارة. وهي إزالة الأدران – كما يُتصور- بإخراج الجسد وإعادة تشكيله وفقاً للعلاقة الرأسية مع الله مباشرة.

ومضمون هذا أن المسلم كما يغتسل بالماء عليه أن يغسل ذاكرته ودماغه وعقله من كافة الأدران المعرفية والخيالية. بعض الفقهاء المعاصرين يحمدون الله ويكبرونه أنهم لم يقرأوا خلال حياتهم كلها سوى كتاب الله وسنة رسوله...!! أي أن مجمل التجارب الإنسانية على ثرائها ستظل محكومة بثقافة الجلد البشري (الإحساس) الخاص. هذا الذي ينتسب المسلم إليه كحصن ضد جلود بشرية أخرى يعتبرها مناوئة لديانته. والخطورة أن الاعتقاد يعيش حالة تجريف متواصل لأبعاده الإنسانية. فالإنسان لن يحصل على تلك الأبعاد غنية إلاَّ خلال تنوعات الحياة واختلاف تجارها. إذن كيف سيكسب أبعاداً ثرية وهو يتصور الدين كامنا في حواسه وكيانه المادي فقط؟! وههنا فعملية التفجير الذي يقدم عليها الإرهابي إنما هي تفجير لكيانه الجسدي (الحسي). فهو يراه كياناً هو الأنقى والأقذر باللحظة ذاتها. والتفجير الحاصل يعد لوناً من التضحية بالكيان الجسدي لتلك الفاصلة المزدوجة: الطهر- الدنس. وبالتالي فإن التفجير تحرير للتصورات من مستوى الجلود الحسية، كي تصعد إلى السماء دونما عودةٍ.

4- بهذا التأسيس لا يقبل الاعتقاد الديني اختلافاً ولا تنوعاً في الرؤى. فالتأسيس يعتمد – شئنا أم أبينا- على النقاء الذاتي. أي أن: كل متدين يتصوَّر نفسه المالك الوحيد للحقيقة المطلقة. وفي عين الوقت تضعه الثقافة الدينية فوق المُساءلة لمجرد انتمائه إلى الدين المهيمن. هذا إذا ما قورن بغيره من أديان أخرى.

5- ابطال مفعول العنف الديني لن يتم إلاَّ بوجود حياة كاملة انفتاحاً وتواصلاً. لا تنحصر في أخيلة ماضوية ولا تراثية إنما كيف يعيش المسلمون حيواتهم بزخمها المعاصر والمتغير. والدين في حد ذاته ليس بديلاً للحياة أيا كانت. فهو لا يستطيع أن يحل مشكلات العالم إلا عبر الحياة وقدراتها. وكم رأينا في المناطق التي تغص بالصراعات الدينية تتعقد المشكلات أكثر مما هي لو تم لجوء البشر إلى رجال الدين. وهذا يعني أن شرط وجود الدين ألاَّ يكون ديناً بمعناه التقليدي. لأن الحياة ستحدث تغيرات جوهرية في تصوراته ومفاهيمه. وسيصبح مطالباً بتغيير رؤاه للحياة ذاتها بحسب طبيعتها وقدراتها المتاحة.

6- الغريب في أمر الفرق والمذاهب الاسلامية أنها تحافظ على "ثباتها التاريخي" مقابل دوران الواقع حولها. وهذا يُقزم أية أحداث وظواهر ممكن أن تقابلها مهما جدت متغيرات أو ظروف مختلفة. لأن الفرق والمذاهب تتصور المشكلة في الواقع الذي لا يسير وفق منطقها. من ثمَّ كان العنف هو الأولوية لديها كرد فعل على الاغتراب الإنساني الدائم بالنسبة إليها. فلو ظهرت فرقة الآن فإنها ستكون مغتربة وماضوية حتى ولو جاءت في نهاية الزمان. نظراً لأن أسباب وجودها ليس وليدة العصر. بل كان وجودها سلاحاً مؤدلجا بالضروروة لمواجهة  مسارات العصر!!

وطالما أنَّ الإرهابي لا يعترف بالأديان الأخرى سيكون الدين حاضنة لتفريغ الذهنيات المغلقة. ومهما تكن درجات الاصلاح، فلن تجدي دونما كسر هذا الطوق الحديدي الذي يغطي التاريخ ويحكم الزمن. والفكر الإسلامي رغم محاولات معالجته إلا أنه مازال لم يكسر أي طوق منه ةتلك الزاوية. لا في الأسس التي يتعامل معها والتي هو مطالب بفهمها وإعادة تأويلها ولا في الصور النمطية للنصوص ولا في طرائق التفكير داخل الحياة المتجددة. كل ذلك ترسب على هيئة تراث لا نقوى على تصفيته ابداعياً. كما يقول أمين الخولي أول التجديد قتل الماضي بحثاً وفهماً ونقداً.

إدارة الإرهاب

عندما تغلغل تنظيم داعش في الأراضي السورية مع تمدده الجهادي، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباماً ذات تصريح: إننا نحتاج عشر سنوات للقضاء على هذا التنظيم الارهابي. وكان التصريح في وقته  ينبئ عن أن اللعبة أكبر من خريطة صانعيها وفاعليها المحليين. وهوليوود قدمت لنا أفلاماً عدة حول هذا التمثيل الخادع(السيمولاكر simulacrum). تعالج كيف يمكن صناعة الفيروس أو الكائنات الغريبة وكيف يتم التعامل معها.

صحيح أن البيئة العربية والاسلامية تنتج إرهاباً متواتراً إلاَّ أن القوى الكبرى تستثمر هذه البيئات المنتجة لصنف نادر من العنف. فهذا الذبح أو التفجير الحاصل باسم الله لم يعد موجوداً في المجتمعات المتحضرة. لان هناك اعترافاً كاملاً بالآخر المختلف دينياً وايديولوجياً داخل حدود الحياة المشتركة. ولئن كانت أنظمة العرب لديها احتياطي نفط(الذهب الأسود)، فلديها كذلك فائض الذقون السوداء(اللحى الذهبية). والذهبان يرتبطان معاً لإنجاز الغرض السياسي نفسه من السيطرة على الشعوب والاستئثار بالسلطة واغراء القوى الحارجية للدخول إليها.

ومن الخطأ اعتبار الجماعات الجهادية معادية لأمريكا وإسرائيل. حتى وإن اعلنت عن ذلك صراحة. ليس هذا حكماً تجاه قضية غير معروفة، بل لسبب منطقي وموضوعي. مؤداه: أنَّ الغاية من وراء الجماعات الآنفة أن تخدم تلك القوى وأذيالها إقليمياً ودولياً. تخدمها في تفتيت المجتمعات وانعاش الرأسمالية الحربية التي تمرح على خريطة العرب.

لم تكن أمريكا وروسيا معنيتين بمحاربة تنظيم داعش وملحقاته. هما كانا يفعلان ذلك، لأنَّ الخريطة التي يعيش فيها هذا التنظيم خريطة مهمة. كما أنها ساحة لألعاب عولمية من شأنها توظيف الإرهاب لخدمة المصالح الغربية المبتغاة. ولهذا حدث أنه مع تدخل القوى الكبرى في الوضع السوري اختفت القوى الصغيرة وتضخمت الخطوط الحربية التي تسلكها القوى الكبرى بين شد وجذب. وكأنَّ العالم كله قد اختزل في مساحة سوريا الحربية. وكأن الدولة السورية- وهي كانت كذلك بالفعل- لا تعنيهم في كثير ولا قليل.

لنتأمل حينذاك كيف تركت أمريكا(الفيروس الداعشي) يستفحل على طريقة هوليوود. ثم اضاعت الوقت وراء الوقت خلال سنوات في اجتماعات وتنسيقات دولية ومحلية للتعاون في محاربته. ثم كان السماح للتنظيم بالاستيلاء على مناطق شاسعة على الصعيد المحلي. وبعد ذلك اعتبرت أمريكا نظام الأسد عقبة كأداء في طريق محاربة الإرهاب المحلي. بل ربطت بينه وبين الإرهابيين كنوع من تبادل الشروط الوجودية التي تضمن بقاءهما(الأسد- داعش). ثم كانت قد وضعت التخلص من الأسد كمرحلة ضرورية للإجهاز على الدواعش.

ومع دخول روسيا بقوتها الحربية انكشف الأمر جلياً. اسرعت أمريكا وحلفاؤها للقضاء على تمدد التنظيم فقط. لكنها لم ترد الإجهاز عليه نهائياً زاعمة أنه لا مناص من القتال على الأرض. المهم أنها فسرت في وقته: لماذا كان الأمريكيون يتباطؤون في انجاز ذلك؟ ثم تدخلت أمريكا لحفظ ماء الوجه من جهة ولتمديد زمن الصراع العنيف من جهة أخرى. والأمريكيون لا يديرون المشاهد بسذاجة، لكنهم يضعون الأرض نصب اعينهم. فدعموا بعض القوى الميدانية مثل قوات سوريا الديمقراطية التي ستبقي على مواضع أقدامهم.

علماً بأن المصطلح غريب: كيف تكون هناك (سوريا ديمقراطية) ولو في المستقبل على حين مازال الصراع المسلح جارياً؟ وهل ستأتي الديمقراطية تحت الصواريخ وفوق الجثث؟ هذا يوضح ما معنى الديمقراطية في الأجندة الأمريكية. إنها إدارة الصراع الدموي بغايات وهمية وساخرة من الشعوب ومقدراتها. لأن الصراع لن يفرز إلاَّ مزيداً من الدمار والقتل. عندئذ لن يكون ثمة مجال لأية ديمقراطية مهما تكن.  وكذلك هناك سؤال وجيه: أية سوريا تلك التي ستبقى حاملة لوصف الديمقراطية؟ فإذا كانت قوة إقليمية ما تحمل هذا الاسم مدافعة عنه تحت مظلة ليست بريئة، فلن يكون هناك مستقبل لسوريا. فضلاً عن كونه كان مستقبلاً معدوماً بالنسبة لهذه القوة التي كان ينهشها الجميع على مرأى ومسمع من العالم. فالشوك لن ينبت إلا شوكاً. و هكذا ظل الوضع المتأرجح لم يحسم بعد. و وكان واضحاً أن القوى الميدانية ما هي إلاَّ دُمى بشرية سيتم التخلص منها عندما تحل محلها قوة أخرى.

الآلية الزمنية نفسها تعاملت بها أمريكا مع جماعات الإرهاب الديني. هذا هو الشرط المستقبلي لوجود الارهاب وسط الصراعات المسلحة وغير المسلحة. كيف يدار بمنطق "تنظيف الأرض" من الألغام السياسية التي تعترض أطماع الدولة الأمريكية؟ وبأية طريقة سيُجهز وظيفياً على نقيضة(الأنظمة الحاكمة) وكيف سيُجهز على نفسه أيضاً؟! إن المستقبل- خلال هذه الخريطة الشائكة- مرهون بخلق المضاد البيولوجي للقوى الفاعلة على الأرض العربية. ليس يهم العنوان... دينياً كان أم غير ذلك، لكن المهم وجود من يقدم قدرات وإمكانيات أكثر، ومن لديه فائض خدمات أكثر لأمريكا وحلفائها. وكيف سيتحول ميدان الصراع إلى سوق لتسليع القوى والأهداف باستعمال الإرهاب وصناعته في المدى القريب أو البعيد.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم