أقلام فكرية

معنى التطرف.. رؤية ابو نصر الفارابي

حاتم حميد محسنماهو الشيء الخاطئ في العقائد المتطرفة وماذا نعني بالضبط في الشخص المتطرف؟ في الحقيقة، لم تتوفر الكثير من المعرفة في الفلسفة الغربية لمعالجة مثل هذه الأسئلة. ومن حسن الحظ اننا يمكننا الإستفادة من أعمال الفيلسوف المسلم في القرون الوسطى ابو نصر الفارابي الذي يمكن ان نجد لديه الأجوبة على تلك الأسئلة.

انموذجان للتطرف

هناك انموذجان في فهم العقيدة المتطرفة، الاول و يسمى "انموذج العقيدة المعيبة" defective belief model الذي اصبح يشكل ضمنا رؤية الإجماع في الغرب المعاصر. الانموذج الثاني هو المبالغة في الايمان over-belief model الذي تبنّاه الفيلسوف الفارابي، أحد ابرز مفكري العصر الذهبي الاسلامي الذي عاش في بغداد في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. عُرف الفارابي بمساهماته في المنطق حيث استحق لقب "المعلم الثاني" بعد ارسطو لبراعته المنطقية. في اوربا، هو كان يُعرف بالفارابي او Alfarabius.

لننظر في فكرة العقيدة المعيبة. وفق صيغة هذا الإنموذج فان شخص ما تكون لديه عقيدة متطرفة اذا اعتقد بافتراضات يُعتبر الإيمان بها معيب أخلاقيا، مثل، السماح بالعنصرية، او اعتبار استهداف المدنيين أمر جائز اثناء الحرب. ان المشكلة في هذه الرؤية هي اننا لا نملك نفس ذلك النوع من السيطرة على معتقداتنا كما نمتلك السيطرة على أفعالنا .عندما يعرض علينا شخص ما مكافأة كبيرة لقاء القيام بعمل ما ذلك أسهل من قبول مكافأة مقابل الإعتقاد بشيء ما. سيتضح لنا ان لا وجود لمعتقدات معيبة اخلاقيا،  ذلك لأننا نكون مسؤولين أخلاقيا فقط عن الاشياء التي تحت سيطرتنا. مثال على ذلك انني لا استطيع توجيه اللوم لأحد على الزلازل او الامطار الموسمية الاخيرة في الهند بسبب عدم سيطرة أي شخص على حدوثها. لذلك يمكن القول ان الخلل في التطرف  ليس له علاقة بالأخلاق، وانما له علاقة بعقيدة المتطرف عندما تكون في تضاد صارخ مع الدليل. يمكننا الاعتقاد ان الشخص الذي لا يؤمن بتقلبات المناخ او الذي يعتقد ان الارض مسطحة  هو متطرف بنفس القدر الذي يؤمن به شخص ما ان المدنيين في الحرب هم أهداف مشروعة. بعض الناس ربما لديهم رؤى متطرفة لأنهم تعرضوا لغسيل دماغ .

درجات التطرف

لتوضيح انموذج الغلو في العقيدة؟ نفرض ان المعتقدات تأتي على شكل درجات . وباعتماد الرياضيات يمكننا تخصيص عدد من القيم تبدأ من 0.1 الى 1.0 في محاولة لنمذجة مختلف درجات العقيدة. ربما السؤال هو ما الذي يشكل العقيدة "التامة"؟. الجواب هو التأكيد المطلق او 1.0. طبقا لإنموذج الغلو في التطرف، التأكيد المطلق هو اكثر من 0.8. نحن يجب دائما ان نسمح على الأقل باحتمال صغير في كوننا مخطئين – التأكيد المطلق هو دائما مثير للاشكالية قياسا بالدليل. لكي نؤمن ايمانا مطلقا، يعني امتلاك عقيدة متطرفة. هذه الطريقة من التفكير تتجنب مشكلة ربط المسؤولية الاخلاقية بالعقيدة. العقائد المتطرفة هي مثيرة للاشكال من حيث علاقتها بالدليل وليس بسبب المعيار الاخلاقي. انها ايضا تحدد شيئا ما متميزا تمتلكه كل العقائد المتطرفة، وبهذا تميزها عن العقائد غير المتطرفة . هذه الرؤية يمكن العثور عليها في كتابات الفارابي. في احدى مقالاته هو يحدد حالة وسطية من المعرفة بين التأكيد الكامل ونوع من العدمية المشككة. هو يجادل انه فقط النبي في موقع يؤهله للحصول على تأكيد كامل اما البقية من الناس كبشر سيحتاجون ان يتعلموا العيش مع حالة من المعرفة أقل كمالا. الفارابي عُرف بمساهماته بالمنطق، لكنه ايضا مشهور جدا في العالم الاسلامي بالفلسفة السياسية وربطه المشاكل الفلسفية بالافكار التطبيقية. جامعة الفارابي الكازاخية الوطنية في كازاخستان،مثلا، شرعت مؤخرا بمشروع صُمم لإستعمال تعاليم الفارابي في المدينة المثالية كمخطط لحوكمة الجامعة. تعاليمه تحمل معها الكثير من القبول في سياسة العالم الاسلامي المعاصر . يرى الفارابي ان الايمان بتأكيد مطلق يعني حيازة المرء لمعرفة متوفرة فقط  للأنبياء والآلهة. لكي تكون متطرفا يعني ان تعتنق الوثنية وربما حتى التعدد في الآلهة، بينما الدعوة الرئيسية للنبي كانت هي تطهير مكة والعالم من الوثنية و الأصنام .

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم