أقلام فكرية

الفلسفة العشق بين قلب فاني وعقل يقظان

عصمت نصارلا نكاد نلمح من بين المدافعين عن أصالة الفلسفة وأهمية دراستها للفرد والمجتمع من أفضل هذا المقال الذي حرّره الشاب "محمد مصطفى حلمي" (1904-1969م) - المُعيد والباحث بالماجستير بقسم الفلسفة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول آنذاك - عام 1933م في خاتمة العدد التذكاري عن الفلسفة الذي اضطلعنا بقرأته وتحليله في المقالات السابقة، في ذلك المقال الذي اسماه "الفلسفة والحياة" حيث عبّر فيه عن مدى تيمُمه ببنيتها، وفناء قلبه في حب دروسها، وتوقد ذهنه الناقد بفضل نهوجها، واعتدال مزاجه من فرط سعادته وأُنسه في معية أربابها الحكماء، وصحبة أساتذته الذين اصطفوه للسير في دربهم واقتفاء أثرهم.

نعم هذا المقال جديرٌ بأن يضطلع عليه من تهكم أو تجاهل قيمة الفلسفة واجترئ على المشتغلين بها والمهمومين بقضاياها، وهي المرآة الصادقة العاكسة لهموم المجتمع واهتماماته ومقاصده وطموحاته، وهي - لسانه وقلمه - الذي لا غنى لأمراء المنابر عنها، وهي الطبول والأجراس التي لا تنفك عن تنبيه الأذهان وإيقاظ العقول لضرورة التجديد والإصلاح والتهذيب في ساعات السُبات والجمود وسنوات التخلف وعصور الاضمحلال، وهي المُحرض للثورات والداعية للكفاح من أجل استرداد الحقوق، وهي الضامنة لسلامة الدساتير والمواثيق والعهود والمنقذة للشعوب من قهر المستبدين وأكاذيب المخادعين وأوهام المتاجرين بالكلمة.

وقد صدق المعلم السياسي الفرنسي "بارتلمي سانتهلير" (1805-1895م) - في مقدمة ترجمته لكتاب "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس" لأرسطو طاليس من اليونانية إلى الفرنسية - إذ قال: (إنِّ الفلسفة قبل أن تدخل إلى هذا السبيل حيث تصادف من الخذلان ومن الصعوبات التي لا سبيل إلى التغلب عليها، يجب أن تقول إنها إنْ لم تستطع أن تصلح من الأجيال، فإنها تستطيع دائماً أن تنجو بشرفها الخاص موفوراً. فخير لها في وسط الخذلان العام أن تحتفظ بشجاعتها وباعتقادها المتين الذي لا يتزعزع، فإنّه يوجد دائماً في هذا الفساد العام بعض نفوس تفهمها وتحتفظ بوديعتها القدسية، وحسبها ذلك. أن الفيلسوف حتى متى أضطر إلى التزام عزلته، لا تزال تقوّيه فكرة أنه بعدم خذلانه نفسه، يساعد في إقالة عصره من عثرته، وأنه لو نبذ الناس جميعاً الفضيلة، لكان واجبه الأكبر أن يعرف هو لها حقها ويبقى لها مخلصاً).

وقد صرح مفكرنا الشاب بتأثره بروح هذا المقال. فها هو "محمد مصطفى حلمي" يناقش تلاميذه وقرائه الذين طالما تسألوا عن أهمية الفلسفة، ومنفعتها، ومآل المجتمعات التي تهملها، والمثالب التي تنعكس على طرائق تفكير الأفراد وسلوكهم ومواقفهم تجاه انفسهم، والأغيار وأحكامهم على مشخصاتهم وانتماءاتهم وموروثاتهم الثقافية، ووعيهم بما يدور حولهم من مواقف وأحداث، ومدى قدرتهم على استشراف المستقبل، ناهيك عن تلك النظرة الوجوديّة التى تشعر الفيلسوف بأنه موجود (حي يقظ) في مرآة عصره بغض النظر عن قدر هذا التأثير والأثر فتكفيه صفة الوجود. 

أجل! فقد ذهب مفكرنا إلى أن النظرة النفعية المادية المباشرة التي يتبناها أصحاب الحرف والمواهب والمشتغلين بالعلم لتبرير إقبالهم على ما يفعلونه أو تبيان ما يسعون إلى تحقيقه من اهتمامهم بهذا العلم أو ذاك لا نجد لها مثيل عند أرباب الفلسفة أو المنتمين إليها والمهمومين بقضاياها والمعنيين بتطبيق مناهجها؛ فجميعهم لا يعرف علة انجذاب عقله وشغف ذهنه بأخبارها، وأُنس روحه بالتحاور والتثاقف والتناظر في كل ما يتعلق بها؛ شأنه شأن العاشق والفاني في من يحب والمتيم بمن يهوى.

فالفيلسوف أو المتفلسف حياته في التفلسف، والفلسفة هي حياته، ويقول في ذلك (إنّ أستاذ الفلسفة أو طالبها حين يوجه إليه سؤال ما هو النفع الذي يعود علينا من دراسة الفلسفة؟ يضطر إلى أن يجيب بلست أدري! أو ليس يعنيني هذا في شيء. على حين أنك إذا سألت عالماً من علماء النفس أو كاتباً من كُتاب القصص أو عالم وقف علمه في دراسة الكيمياء والطبيعة والميكانيكا مثلاً لم يتردد الأول في أن يجيبك ... واذا فماذا تؤدي لنا الفلسفة من منافع تشبه تلك؟).

نقول إذا كان هذا العصر سيطرت فيه المادة على كل شيء وأضحت معياراً للتقييم، وباتت دراسة العلوم النظرية والعقلية والروحيّة والآداب والفنون والتاريخ من المعارف التي لا تحظى بنفس القدر من اهتمام المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث المنكبة على دراسة علوم الكيمياء والذرة والطبيعة في أمريكيا وإنجلترا اعتقاداً من هذه المؤسسات بأن الحاضر لا يتسع من تصورات ومخيالات وأوهام ورؤى لا تتناسب مع الواقع المعيش؛ فحسبنا أن نبين تهافت هذا الاعتقاد وخطأ ذلك النهج ومآلات هذا السلوك على الفرد والمجتمع الإنساني. 

فإذا كانت مُعظم طعون أنصار الفكر الوضعي والعلم التجريبي على الفلسفة تتمثل في وصفهم إيّاها بأن آراء المشتغلين بها متباينة في القضية الواحدة كما أن العديد من الحلول الفلسفية للمشكلات الواقعية غير قابلة للتطبيق، فإن مفكرنا يعقب على ذلك بأن الكثير من النتائج التجريبية العلمية كانت وليدة عصر بعينه وسرعان ما تتبدل تلك النتائج لتطور المناهج وتقدّم العصر، كما أن تباين الرؤى والتصورات غير الممكنة التي تنتجها الفلسفة، تُعدُّ من أفضل التدريبات للعقل على تقبل أنتاج القراءات المتعددة لموقف أو حل أو تفسير أو تبرير لأمر واحد، كما أن الأفكار المُبدعة والتصورات الغير معقولة والنقود الجانحة هي بوابة التجديد والتحديث والتقدّم الحضاري، أضف إلى ذلك كله أن نهوج المحاججة والمنطق والإقناع لا تقف على سياق واحد أو تسير على نسق بعينه طول الوقت. ويقول (للفلسفة أثراً قوياً في رياضة العقل التي تبعث فينا اللذة العقليّة. ومن المتفق عليه أن الجسم يتطلب الرياضة التي تعمل على تقويته، وقد غالى طلاب المنفعة في لعب كرة القدم والملاكمة والألعاب الرياضية الأخرى إلى حد كادوا يعتبرون معه هذه الألعاب ضرورة خاصّة من ضرورات الحياة - والروح والجسم في حاجة إلى رياضة.

والفلسفة التي هي عبارة عن الألعاب الرياضية للروح هي فوق هذا العمل الذي يوقظ الروح ويحركها ويحفظها في تفكير منتظم متصل، وهي في إيقاظها للروح وتنظيم تفكيرها تعتمد على المحاججة والجدل والمنطق).

فعيون الفيلسوف أقرب إلى بصيرة الفنان المتأمل للأشياء بنظرات وأحاسيس ومدركات ملهمة تنقل الذهن من عالم لآخر، فتُوسع من آفاقه وتنير ذهنه على نحو يبدد كل المواضع المظلمة وتخترق الغيوم لتنجلي الصور المشوشة وتتجلى الحقائق الغامضة وما أكثر مصابيح الفلاسفة التي أضاءت سراديب العلم. 

ولعل ما يميز التأويلات الفلسفية عن غيرها من المعتقدات الموروثة أو الأوهام المسيطرة على الأذهان هو ميلها إلى الشك في القطعيِّ من الأحكام، والمستبد من الآراء، وتغليبها منطق الترجيح والاحتمالات وفلسفة الممكن مع ضبطها للحدود العقلية لهذه الرؤى حتى لا تسقط في لُجّة الأوهام وأشباح الخيال. ويقول مفكرنا (ومن هنا يمكننا أن نقول إن قيمة الفلسفة كامنة في عدم قدرتها على الوصول إلى معرفة يقينية قاطعة لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها).

فإذا كان العلم قطعي في نتائجه الجزئية المجربة، فإنّه يعترف أيضاً بجهله بباقي الأجزاء المجهولة التي تقع خارج نطاق تجربته، وذلك وفق منطق الفلاسفة. والكثير من تلك المجهولات لا يخلو من احتمال نقيض النتائج التي أنتهى إليها العلم في تجاربه. (ومن هنا يمكن أن نعرّف الفلسفة بقولنا إنها المجهود الذي به نفهم الكون ككل لا كما تتناول الطبيعيات أو علوم الحياة ناحية معينة منه، بل الفلسفة تتناول كل الظواهر الكونية التي تلعب فيها الإلهامات العقلية والمشاعر الدينية والإحساسات الجمالية دوراً ليس أقل في خطورته أو قيمته من الاستكشافات التي يصل إليها العالم الطبيعي أو عالم الحياة).

 فما أكثر النظريات العلمية التي كان يعتقد القدماء بأنها فصل الخطاب وعين الحقيقة فسرعان ما تتبدل الآليات وتتقدم الوسائل، فيتنكر العلم بما كان يثبته ويكفر بما كان يؤمن به. فالتباين سُنة كونية لا يمكن إنكارها في أحكامنا على المتغيرات أو تفسيرنا لها أو القطع بتبريرنا لحدوثها أو تعليلنا لوجودها، فالتجريب ليس في استطاعته الحكم على أشياء، أو الفصل في موضوعات لا تخضع لسلطان التجريب وآلياته، في حين أن آفاق التجريب أرحب وأعم؛ فلا غنى للإنسان للعيش في تلك الحياة عن التجريب والتجريد، فالفلسفة بوصفها الحكمة الكلية الشاملة تمكننا من ذلك. ويقول مفكرنا (إن الفلسفة لا تقتنع بجمع الوقائع وترتبها وتبويبها ولكنها تخترق هذه الوقائع وتوغل فيها بحيث تصل إلى تصرف ما انطوت عليه من حق يُقبل أو باطل يُرفض، وأنها حيث تفعل هذا تجدها أيضاً في جميع تجارب العالم والصوفي والفنان. ثم تنقد هذا كله وتدرس هذه التجارب وتفحصها فحصاً دقيقاً وينتهى بها إلى الوصول إلى ما في هذا كله من سلاح تتذرع به وتعتمد عليه في كشف الحقيقة .... والفلسفة في بحثها عن تعرف المعاني وتفهمها من ناحية وتقديرها وحكمها على طبيعة الأشياء من ناحية أخرى لا تخلُص في هذا كله من عامل الشخصية وأثر المزاج الفردي للعقل الذي يقدر هذه القيم ويصدر هذه الأحكام. ومن هنا يصبح انتخابنا تبعاً لما نراه أمامنا. ويصبح تقديرنا للقيم وفقاً لما نتصوره جميلاً وقبيحاً خيراً أو شراً).

ويأخذ أعداء الفلسفة عليها طابعها الذاتي في تقييم الأمور بوجه عام، ثم حكم أربابها عليها وقناعاتهم بها أو توجيه النقد لها ومجّها وجحدها وترغيب الناس عنها. ثم تأتي ثقافات أخرى تُعلي من شأن قناعات مناهضة لما نبذته سابقتها. ويعني ذلك غيبة المعيار أو الأحكام القاطعة التي يستند إليها المُتلقي في الحكم على الأشياء.

ويبرر مفكرنا هذه الحقيقة بتأكيده على أن قناعات الفيلسوف تختلف في بنيتها وآليتها عن قناعات العلماء الذين لا يسلّمون إلا بحصاد التجريب. ويتميزون عن العوام الذين يخضعون بأحكام الكثرة أو المشاهير أو المعتقدات الموروثة أو الشعارات الرنانة؛ فالفيلسوف لا تقنعه النتائج الظاهرية المباشرة، ولا ترضيه التحقق من الغايات القريبة، ولا يسكت شكوكه إلا اليقين الظاهر الجليّ؛ فبصيرة الفيلسوف ترى بلا أعين، ولا عجب في أن ترى في خير العوام شراً مستتراً تحت الجهالة وترضى بالاغتراب والمروق عما يُقبل عليه الجمهور أو الكثرة، وشتان بين الغاية والمقصد، وبين النظر والـتأمل، والتحليل والنقد. ومع ذلك كله؛ فإن مفكرنا يرى خطأ الذين يعتقدون بأن الفيلسوف هو المغترب عن عالمه أو المتمرد على واقعه؛ بل هو أقرب إلى دُعاة الحقيقة، والكمال الإنساني والمُثل العليا التي إذا ما اهتدى إليها الإنسان لسُرّة نفسه ونعم مجتمعه بالسعادة والأمن والسلام وهي من أعز مباهج الحياة. ويقول (إنّ الفلسفة ليست كما يتصور البعض دراسة عقيمة لا تشتغل إلا على أوهام وخيالات باطلة. وإنما هي على النقيض دراسة مجدية نافعة مثمرة لها قيمتها ومكانتها بين الدراسات الراقية ولها أثرها الفعّال في حياة الذين يتخصصون فيها وينقطعون لها. وإذا لم يكن للفلسفة نفع غير أنها تعيننا على معرفة الحق واكتشاف الخير والاستمتاع بالجمال لكفى. وإذا لم يكن للفيلسوف عمل سوى معرفته لأرقى ما فيه وهو نفسه واكتشافه لأسرار الحكمة لكان هذا أفضل خيراً وأبقى من حكم الدنيا بأسرها).

تلك كانت خاتمة عدد مجلة السياسة الأسبوعية الذي حرر مقالته أكابر المشتغلين بالفلسفة في كلية الآداب بجامعة الأم. ولم يبقى لنا إلا أن نتسأل عن ذلك العشق الذي أصيب به معظم المشتغلين بالفلسفة هل مازلنا عُشّاقاً، مُتيمين، محببين، مُخلصين أم خائنين، مجترئين على مكانتها العفيفة بقلوبنا والنابضة في عقولنا أو تمرغنا في الوحل، فتجارنا بها ورشحنا أفروديت لتنطق بلساننا عوضاً عن إيزيس وأثينا؟!

وللحديث بقيّة عن المسابقة الفلسفية التي أجرتها مجلة الرسالة عام 1950م، وقد وعدنا بتحليلها في مقالنا عن صحافة الرأي وتثقيف الرأي العام.

***

بقلم : د. عصت نصار

في المثقف اليوم