أقلام فكرية

تناص فلسفي

علي محمد اليوسف1- المطلق والنسبي

يربط ارسطو 384 – 322 ق.م بين المطلق (الله) والنسبي (الانسان) بما فيه من جزء الهي هو العقل وذلك عن طريق التماس. بمعنى موجودات الطبيعة تتخذ من الله غاية لها في حياتها. فتعشقه وعشقها له هو الذي يدفعها الى التحرك نحوه او التشبه به1 .

لو نحن تحرينا التناص الفلسفي بين ارسطو، اسبينوزا، وفيورباخ حول اشكالية المطلق والنسبي فلسفيا وليس فيزيائيا لوجدناه في المشتركات المتداخلة التالية:

- ارسطو هنا يبيّن مذهب وحدة الوجود في تبادل ثنائي تخارجي بين الخالق وموجودات الطبيعة خلاف فهم وحدة الوجود الاحادي الجانب في سعي موجودات الطبيعة من ضمنها الانسان التحرك نحو الذات الالهية يدفعها العشق الصوفي له.

- اسبينوزا يعتبر "عقل" الانسان جوهرا بدلالته يفهم الانسان ذاته. والعقل الانساني تجسيد لما هو الهي إعجازي بنظام الطبيعة. من حيث ارسطو يعتبر عقل الانسان جزءا الهيا، وضعه الخالق فيه. لذا نجد اسبينوزا اعتبر البحث عن الخالق في موجودات الطبيعة كجوهر خالد مطلق لا يمكن للعقل الادراكي المحدود التحقق الانطولوجي منه لافي الطبيعة ولا في ما وراء الطبيعة وهو الحل الميتافيزيقي الامثل الذي يريح الانسان نفسيا.

-  واعتبر اسبينوزا امام مواجهة هذه الحقيقة الشائكة المستعصية التي لا حل لها في محاولة التحقق من وجود الذات الالهية في كل شيء. هي أكثر فاعلية وأنجع طريقة تفيد الانسان وتنقذه من حيرته  التفتيش عن وجوده الانساني بدلالة جوهر الاعجاز الطبيعي. لذا ابتكر اسبينوزا مذهب وحدة الوجود بنزعة ليست صوفية تماما بالمعنى الديني في البرهنة على وجود الخالق، لكنها نزعة روحانية تستمد عقلانيتها من ماديات جوهر كل شيء بالطبيعة. جوهر الخالق المطلق في ماهيته غير المدركة غير المتعين بابعاد فيزيائية ولا مادية يجعل منه غير مدرك بقابلية قدرة عقل الانسان المحدودة في ادراكها موضوعات الطبيعة فقط.

- التفريق الارسطي بين "المطلق" الالهي والنسبي الانساني الذي يسكنه عقل هو جزء من جوهر الهي، هو نفس المنحى في التناص الذي نجده لدى اسبينوزا وفيورباخ أن الانسان في تاملاته الطبيعة وادراكه لذاته والوجود من حوله، وجد نهاية بحثه المؤرق له عن اختلاق خياله صفات معبوده الذي وجد علة وجوده في الطبيعة ونظامها الاعجازي الذي لا يستوعبه عقل الانسان المحدود.

النظام الذي ادركه بنفس وسيلة اسبينوزا في صوفية متاملة مادية تلاحق الجوهر الالهي اللامدرك ليس في تحديق الانسان بالسماء في تذرّعها الاستجابة له.، بل تتأمل ما في الطبيعة من قوانين تحكم الانسان وجميع الكائنات التي تجد فيها روح الله . لذا حسب فيورباخ الانسان خلع كل الصفات الايجابية التي يرتاح لها ويفتقد قدرة تحقيقها  على معبود يقدسه حتى لو كان حجرا أصمّا. لذا تكون الطبيعة تعويضا لايمان ديني موجود في السماء في عجز الايمان الديني الارضي المستمد من الطبيعة التحقق الوجودي من معبوده.

- تجريد التفكير في ميتافيزيقا الخيال كما هو حال الاديان اليوم لم تكن في وارد البحث الانساني على معبود موجود في الطبيعة ولا يعلوعليها بالسماء. هذا الفهم الايماني التعبدي الموجود في السماء جاء لاحقا بعد عصور طويلة حين وصلت تطورات الافكار الدينية واستقرارها في التوحيد الالهي طريق بعث الوحي وتكليف الرسل والانبياء ومدونات الكتب السماوية مهمة هداية الانسان الى طريق الايمان الغيبي بالخالق لكل شيء كجوهر في كل شيء ولا يمكن غدراكه العقلي والتحقق منه.

- فيورباخ يقترب كثيرا من الفهم الارسطي حول دلالة المقصود بالمطلق الالهي الذي لا يدركه العقل باعتباره هو نتاج تخليق عقلي محدود للانسان الذي لا يدرك مطلقه المعبود خالقه خارج محدودية الادراك العقلي لنظام الطبيعة في علاقته تنظيم موجوداتها ذاتيا بقدرات لا تدركها الطبيعة كونها تبسط الاعجاز الالهي فيها من جهة، وتحجيم ادراك الانسان بممكنات لا تتجاوزاكتشاف الجزء الضئيل من تلك القوانين العامة التي تحكم الطبيعة والانسان معا من جهة اخرى.

- كما اشار ارسطو عشق الانسان لالهه "معبوده" هو في اضفاء الصفات النموذجية الخيرية التي تسكّن روعه وتخلصه من حيرته في خلعه الصفات التي يخاف منها والصفات المطمئنة التي يتمناها في معبوده. صفات يدركها حدسيا ويتعذر عليه ادراكها حسيّا. وهذا الفهم قاسم مشترك متناص مع فهم اسبينوزا عقل الانسان هو "جوهر" يكتسب ادراك وجوده بدلالة الجوهر المطلق الله، والعقل الجوهر الالهي الجزئي يضفي ويستمد من الطبيعة ما يرغبه بالهه المعبود المقدس من صفات الطبيعة التي يدركها هي فقط وليس البحث عن جوهر ازلي غير مدرك وبدلالته الطبيعية ندرك وجودنا كما يذهب له اسبينوزا..

-  وكذا نفس الحال مع فيورباخ حين يجد كل الصفات الالهية التي يصنعها خيال الانسان ويخلعها على معبوده الذي يعشقه حسب تعبير ارسطو التصوفي، هي صفات مصدرها الطبيعة وتفكير خيال العقل في محاولته حل الغاز ظواهر الحياة. يخلعها الانسان على معبوده ولا يخلعها الخالق عليه. بل الانسان يجهد نفسه ليجد في قدسية معبوده من صفات ما تعجزه ان  يتصورها متحققة في الطبيعة وفي كينونة نوعية متمايزة عن الطبيعة هو الانسان ذاته.

- اسبينوزا هو الفيلسوف الوحيد الذي قال ولاول مرة في تاريخ الفلسفة أن جوهر الانسان يسبق كينونته، وبدلالة الجوهر ندرك وجود الاشياء. العبارة كانت صادمة بحق في الخروج على الاجماع الفلسفي الذي يقول ليس في الفلسفة المادية فقط وانما في جميع الفلسفات المثالية ان الوجود يسبق الجوهر وبدلالة الوجود ندرك جوهر الاشياء.

- المفارقة الايمانية في مذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا حين يقفل قابلية عقل الانسان إدراك الجوهر الخالق غير المخلوق الذي تتوزعه موجودات الطبيعة. الجوهر الذي لا يدركه عقل الانسان ولكن بدلالته المطلقة نفهم الوجود. امام هذه المعضلة التي تقول أن موجودات الطبيعة مدركات عقلية انطولوجية، نستطيع الاستدلال الحسي عليها ليس بوسيلة الجوهرالمطلق الالهي غير المدرك، بل بدلالة الوجود المتعيّن ادراكه حسّيا. وهو ما ينافي فهم مذهب وحدة الوجود الاسبينوزي.

حينها تصبح مقولة اسبينوزا  ندرك الوجود بدلالة الجوهر وليس العكس تحمل من الشك الكثير الا باستثناء حالة التسليم أن اسبينوزا من حقه تفسير وجود الخالق ميتافيقيا بدلالة جوهر تتوزعه موجودات الطبيعة. أي كما يفعل أي متدين حينما يجعل من إعجاز نظام الطبيعة دلالة قطعية في وجود خالق أوجدها بهذا النظام. الوجودية بزعامة سارتر حاولت قبر مقولة اسبينوزا التاملية الصوفية في تاكيدها كينونة الانسان تسبق ماهيته التي اعتبرها سارتر تصنيع ذاتي. أي ذهب سارتر كل فرد يقوم بتصنيع جوهره الذاتي الخاص به والذي لا يدركه غيره.

2- الجدل الفلسفي المثالي في الفلسفة القديمة:

مارس السفسطائيون ومثلهم فعل سقراط وافلاطون ممارستهم الجدل(لغة الكلام) على مستوى التنظير الفكري المثالي، ولم يكن الجدل المادي على صعيد المادة والتاريخ كما هو في الماركسية معروفا. حيث جاء الجدل الماركسي الديالكتيكي بعد انصرام عصورا طويلة من تاريخ الفلسفة.  بقي الجدل يفهم على أنه حوار بين اثنين أو اكثر.

كان السفسطائيون يتقدمهم زينون يفهمون الجدل ممارسة حوارية فكرية تناظرية تجريدية على صعيد الفكر على انه حوار الافكار dialogue. ومارس زينون وسقراط جدلا على مستوى صيرورة الفكر بمعزل تام عن علاقته بالواقع المادي وفق مبدأ (الدحض والتوليد ) حيث تكون الافكار الخاطئة تتم مجاوزتها في إفحام الخصم الطرف الثاني في المحاججة الكلامية ليتخلق من هذا الحوار اللغوي توليد افكار جديدة اكثر ثباتا وصوابية عقلية هي نتيجة الحوار الجدلي على مستوى الفكر.. يلاحظ هنا كم كان اقتباس هيجل لهذه الآلية الجدلية الفكرة تواجه نقيضها ينتج عنهما الثالث المركب. ومن المسائل التي تناولها سقراط عن زينون هي (كل متعيّن سلب) وأخذ هذه المقولة هيجل ومن بعده كانط باهتمام كبير.

مفهوم السلب فلسفيا هو كل متعيّن انطولوجي يفقد صفاته الايجابية ضمن علاقته بغيره من الموجودات في تعيّنه المنقطع عن نسق الكلية التي تحتويه.. بمعنى  أن كل متعين يصبح سلبا يستقطب ما يمنحه الاخرون معنى حين يخرج عن نطاق نسقي يحتويه يعطينا معنى موحدا. وبذلك يفقد المتعيّن قيمة المعنى والدلالة عندما كان مؤثرا قبل تحديد التعيّن له الذي اخرجه من النسق الكلي ليصبح مفردة لا قيمة لها سواء على صعيد الفكر المجرد او على صعيد انطولوجيا الوجود.. هنا المقصود بالمتعين السلبي المنفرد عن سياقه ليس لفظة (لغوية) كونها لا تفقد معناه في التعيّن الانطولوجي.

اما افلاطون فهو مارس الجدل فكريا على الصعيد الفلسفي ومارسه بحياته العامة مع الناس. واعتبر افلاطون " عندما يقدم الفيلسوف بناءا نظريا وتصوريا لما يتمناه من  الواقع الذي يعيشه فأنه يخلق بذلك نقيضا دائميا يشد الواقع نحو هذا التصور." 2

واضح من تعبير افلاطون أن البناء النظري في محاولة تخليصه جدليا من ملازمة "السلب" له فهو اي الفكر في التصورات الجديدة يبقى يحمل دائما تناقض علاقته بالواقع. جوهر كل حركة داخل المادة أو الوجود هو تناقض. وبلا تناقض تنعدم حركة الاشياء ذاتيا. وبذلك ينعدم التطور.

هنا نجد افلاطون يقترب كثيرا من خلال التلميح الى ان الفكر يرتبط بعلاقة جدلية تناقضية مع الواقع كونهما محكومين بصيرورة تطورية لا يستطيعان الافلات منها. وهي نظرة وإن كانت لا تحمل توضيحا كافيا لدى افلاطون لكنها كانت محط اهتمام كبير لدى هيجل المثالي وماركس المادي.

علاقة الفكر بالواقع هي علاقة ادراك معرفي وليس علاقة ارتباط تجريدي، بمعنى آخر الواقع الذي لا يتناوله الفكر بعلاقة تخارج معرفي معه فالنتيجة تكون لا يبقى للواقع صفة تطورية، كما ولا يبقى للفكر بمعزل عن الواقع تاثيرا تخارجيا تطوريا ايضا. الفكر الذي يطوّر الواقع هو نفسه يتطور ايضا، ومن غير هذه العلاقة التكاملية القائمة على التناقض المتخارج لا يبقى معنى للفكر في ادراكه او عدم ادراكه الواقع. لكن افدح الاخطاء في هذا التوضيح هو في الانزلاق نحو خطأ الفكر التجريدي يخلق تناقض المادة داخليا. الفكر تجريد تعبيري عن الشيء ولا يدخل في تركيبة وتكوين ذلك الشيء الذي يتمثّله لغويا..

3- المشكلة الفلسفية:

ما مدى صحة المقولة الفلسفية " كل مشكلة فلسفية يراد حلها يكون في تخليصها من التراكيب والتصورات القبلية عنها، في وضعها ضمن سياق جديد من التفكير والتصورات التي تختلف عن المشكلة" ويكيبيديا الموسوعة.

نفهم من هذا أن حل مشكلة ما يكمن في نقيضها، ولو تطابقت تصوراتنا مع المشكلة المراد حلها انما نكون بذلك حالة اصبحت فيها تصوراتنا جزءا من المشكلة ذاتها وليس وسيلة حل لها. كل مشكلة مطلوب حل لها لا يقوم على توصيف تطابق افكارنا معها. هنا تصبح المشكلة معضلة يصعب حلها وهي التي تملي علينا التصورات عنها لا أن تستجيب لوضعها ضمن نسق معرفي جديد مناقض لها يخرجها من حالة السلب التي هي فيه.

تكامل تصوراتنا الذهنية مع المدركات الحسيّة في التطابق معها لا يخلق علاقة  تناقض جدلي، كما ولا يخلق داخلها ايضا جدلا ديالكتيكيا ذاتيا. الفكر حين يدرك الاشياء يبقى تجريدا منعزلا عنها لا يتداخل تكوينيا بها، ولا يستطيع التاثير في خلق تضاد جدلي داخلها.****

لماذا سبق لنا التسليم بالمقولة الفلسفية التي عمرها قرونا ان كل حركة سببها تضاد ذاتي داخلي؟ لا يوجد ثبات انطولوجي او فيزيائي لا يخضع لهذه المقولة، بمعنى الفكر لا يستطيع خلق التناقضات في الاشياء لتطويرها في تنشيط او بعث الحركة الذاتية داخلها، الفكر المجرد على مستوى الجدل المثالي كما في اقتباس هيجل له واستنساخه له عن فلاسفة اليونان يعيش التضاد الجدلي بمعزل عن التضاد الذاتي في المادة والواقع. إذا ما اعتبرنا الاجماع الفلسفي يشير لحقيقة كل جدل في المادة والتاريخ يكون محكوما بقوانين طبيعية تتم خارج ارادة الانسان وخارج تداخله معها ادراكيا.

كل تصوراتنا الفكرية عن الاشياء في وجودها الانطولوجي لا تخلو من ميزتين تلازمان ذلك الشيء:

- عدم امكانيتنا اعطاء تصورات واضحة يقينينة تقفل باب التغيير والتضاد الحركي داخل ذلك الشيء.

- كل موجود هو حركة تناقض ذاتي تعتمل داخليا وتعمل على تغييره بحضور عوامل مساعدة خارجية موائمة لتسريع تطوره الذاتي. وما يبدو لنا ثابتا من الاشياء لا نستطيع ادراك تناقضاته الداخلية، وسببه ثبات تصوراتنا القاصرة النهائية التي نطلقها على الشيء.... ثبات ما يبدو لنا موجودا انطولوجيا هو ثبات تصوراتنا التي لا يمكنها حدس التناقض التغييري بالشيء.

4- الانسان مقياس كل شيء... بروتوغوراس:

مقولة كانت انعطافة كبيرة في إخراجها الفلسفة من مركزية الدوران حول الوجود الى مركزية الدوران حول الانسان كينونة وجودية. وهذه اول بذرة فلسفية اخرجت الفلسفة من عنق زجاجة مركزية الدوران حول تفسير ماهية الوجود، وكيف تكوّن ؟ ومن اين جاء؟ وما مصير الانسان المتعالق بمصير هذا الوجود.؟

يذهب البعض من باحثين عربا تفسيرهم تخطئة هذه العبارة بمقياس ان الانسان ليس واحدا في نوعه بل هو كثرة داخل نوعه. اي الفروقات بين انسان وآخر داخل النوع البشري هي التي تجعل من الانسان معيارا خاطئا بارجاع كل ما هو صحيح بالحياة مقياسه الانسان كنوع وليس كفرد متمايز عن غيره. فمن البديهيات ان لا يكون كل انسان يمتلك قابلية ان يكون مقياسا لصحة كل شيء بالوجود من حولنا. وهذا التفسير خاطئ من زاوية أن تحقيق منفعة الانسان هي مقياس صحة كل شيء. هذا تلخيص تخطئة مقولة بروتوغوراس العبقرية التي سبقت عصرها بازمان طويلة.

لماذا لا يكون برتوغوراس في مقولته هو الباب الذي فتح الطريق نحو الفلسفة البراجماتية الامريكية ان مقياس صحة كل شيء بالحياة هي تحقق المنفعة للانسان واسعاده وزيادة رفاهيته؟ هنا في هذا المثال يكون الانسان معيار صواب كل شيء بالحياة. وما لا يخدم مصالح الانسان في حياته لا معنى له ولا يستحق التوقف عنده حسب الفلسفة الذرائعية الامريكية.

مثال ثان عندما جاء فرويد بنظريته الجنسية في سعي الانسان منذ الولادة وحتى الممات يبحث عن اللذة الجنسية ويرغب ممارستها حتى المكبوت المحرم منها المدفون في اللاشعور وبذا يكون معيار كل افعال الانسان تدور حول اللبيدو الذي يحقق للانسان اللذة الجنسية. ويمكن التعميم انه لا يختلف اليوم اثنان ان كل ما يسعى له الانسان تحقيقه يعتبر هو مقياس صحته النفعية بالحياة في تحقيق الوصول للذة الجنسية؟ كل افعال الانسان من قضاء الوقت بالعمل او ممارسة الرياضة والتنزه والسفر الخ جميعها تعبيرات ترجيء الرغبة الجنسية لمرحلة لاحقة. لكن يبقى الحضور الايروسي في كل لحظات ممارسة الحياة العادية مقياسها اشباع الرغبة الجنسية للانسان لاغيره.

5- فلسفة اللغة في التحليلية الانجليزية:

ذهب تطرف براتراند رسل ومعه جورج مور ووايتهيد نوعا ما، فيما أطلقوا عليه الواقعية التحليلية الجديدة الانجليزية حصرا، في أعلائهم من شأن معطيات ومدركات الحواس أهمية كبيرة وصلت براسل أعتباره تلك المعطيات الحسية هي العقل بمعناه  التجريبي العلمي، وليس اللوغوس(الخطاب) بمعناه الفلسفي الذي هو نتاج المعرفة بمختلف مباحثها وألوانها.

وأعتبررسل تكوين العقل العلمي يقوم على أولوية معطيات الحواس بخلاف أن المعرفة الفلسفية لا تنتج لنا سوى مناهج ونظريات في التفكير الذي لا يقود الوصول الى عقل تجريبي علمي.أنه من الواضح أن راسل اراد أن تكون الفلسفة علما تجريبيا يقودها العلم ولا تقوده هي.

في نفس المنحى الذي أشرنا له في الفقرة السابقة نجد أن ديفيد هيوم ذهب نحو علم النفس معتبرا أن ليس هناك معرفة مباشرة (للأنا)، بالمعنى الفلسفي الذي نفهمه أنه وعي الذات، وأنما الموجود هو النفس البشرية وليس الذات التي يشكك هيوم بوجودها، معتبرا النفس هي (حزمة من الافكار) المستمدة من معطيات الحواس، وقام بتطوير فكرته هذه في كتابه (تحليل العقل) الذي لم يكتف به نكرانه الذات الانسانية بل ذهب أبعد من ذلك قوله (لا يوجد شيء اسمه المادة كما ولا يوجد شيء اسمه العقل). وبتعبير فلسفي يعتبر هيوم (أن ما يمّيز ماهو نفسي هو ذاتيته، وهذه الذاتية تعني ماديا تجميع معطيات الحواس وتركزّها في مكان واحد هو الدماغ).

لكن من المهم أن راسل ينكر على هيوم (وجود نفسي على هيئة جوهر قائم بذاته،) ومع ذلك فهو يقر لهيوم (ان الظواهر النفسية اكثر حقيقية من المادة لأننا لا نتوصل للمادة بادراك مباشر لها مطلقا).

من وجهة نظر هيوم وراسل أنه لا يسبق الوجود الانساني ولا الوجود الطبيعي قاطبة الافكار المستمدة من معطيات الادراك الحسي للاشياء في وجودها المادي المستقل الذي ينكرأن ادراكنا له بغير الحواس فقط، كما لا يوجد هناك عقل مستقبل لمجموع معطيات الحواس بما اطلقا عليه حزمة الافكار وتنظيمها عقليا،وأنما الموجود هو حزمة الافكار ليست المستمدة عن وجود الاشياء السابق عليها في العالم الخارجي بل حزمة الافكار في الدماغ التي بضوئها نستدل على وجود الاشياء من عدمه.ضاربين عرض الحائط حقيقة أنه لا وجود لفكر لا يتقدم عليه ويسبقه وجود مادي أو موضوع خيالي.

من جهة ثانية نجد أن هيوم وراسل اللذين يدعوان أعتماد العقل الفلسفي تجريبيا كما في العلوم الطبيعية والرياضيات، يتوسلان اللوغوس الخطاب فلسفيا في تدعيم دعوتهم الى جعله مبحثا عقليا تحليليا علميا خارج مختبرات العلوم، وليس العكس المطلوب في أعتماد معطيات العلوم الطبيعية في الوصول الى قناعات فلسفية تأخذ من العلم تجريبيته التحليلية بما ينتشل مباحث الفلسفة من الدوران في فلك معرفة الوجود بوسائل تجريدية تستبعد العلم التحليلي والتجريبي. باختصار العبارة الموجزة أن محاولة جعل مباحث الفلسفة (علما) لا يتم الا بمنطق العلم الذي لا يلغي قدرات العقل العلمي البرهنة عليه فلسفيا.

الانسان كينونة وجودية تمتلك وجودها الظاهراتي والعقلي وماهيتها التي هي مجموع صفاتها وكيفياتها كانسان،  تجعل منه هوية جوهرية ماهوية مستقلة. وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من أجل ذاته، أي بين الخالق الالهي والمخلوق الانساني كما تدّعيه الصوفية في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها الانسان هي الخالق، والاخرى مادية تتمايز ذاتيا مع غيرها بقوانين الطبيعة زمكانيا وهي الانسان، ولا تلتقي كيفية الانسان المادية الا مع كيفيات مادية تتجانس معها في كل او بعض الصفات والماهيات.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..........................

الهوامش:

*** في مقالة لي منشورة على موقع الحوار المتمدن وغيره بعنوان (جدل الجدل والمجانسة النوعية) لم تعط الفلسفة الحديثة دراستها الديالكتيك المجانسة النوعية في التضاد الداخلي حقها من الاهتمام. ملخصها التضاد الجدلي لا يكون الا ضمن قطبين متعارضين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة في علاقة كلية ترابطية تتم داخل الشيء او الظاهرة الواحدة لا خارجها.

1- الحداثة وما بعد الحداثة / طلعت عبد الحميد / عصام الدين هلال/ محسن خضر ص 45

2-  نفسه اعلاه ص 44

في المثقف اليوم