أقلام فكرية

باثولوجيا الثقافة: حالةُ كذبٍ

سامي عبد العالما معنى أنْ يكذبُ شَخصٌ، ثمَّ كأنَّ شيئاً لم يكُّن؟.. للإجابة عن هذا السؤال نفترض مبدئياً إنَّه شخص لا يأبه باستخدام الأكاذيب على أنها الحقيقة أو بوصفها أمراً من أمور الواقع. ولكن ما جوهر هذا السلوك لدى (شخص أو  مجموعة) ربما تراها بمواقع المسئولية أو خلال الحياة إجمالاً؟ بل وكيف يُضيف هذا الإنسانُ رصيدَ الكذب إلى توازنه النفسي والمنطقي؟ ...

ذلك بالفعل ما يتطلب (فهماً فلسفياً- ثقافياً) واسع النطاق بناء على طبيعة الكذب وآثاره ضمن تلك الحالة. وهنا قد يقول القارئُ لننتظر قليلاً، وأَعِدْ ثانيةً ما تسأل عنه: أَأنْتَ قلت توازناً منطقياً مع الكذب؟ إذن ما علاقة المنطق (الذي يُفترض بُعده عن الكذب) بحالة الكذب هذه؟ وأصلاً: هل لحالة الكذب منطق يحكم أساليبها وعلاقتها بالكلام؟!

إنَّ أعتى أنواع الكذب هو الكذب الذي يتعامل معه صاحبُه كأنَّه اللاشيء مهما كَبُر. وهو الكذب المحير حين يعتبره الكاذب مجرد مرحلة لكذبة جديدة أو  تبريراً مختلّقاً للكذبة التالية ... وهكذا دواليك. وذلك من غير أنْ يشعر هذا الإنسان بخطورة ما يفعل ولا بإمكانه تقدير النتائج السلبية بين المحيطين. إنه الكذب الذي يتحصَّن بآلية النسيان والاستغراق في سياق الكلام دون مراجعةٍ متوهماً أنَّ المتلقي غارق في الحالة ذاتها. وهنا ربما يمتلك صاحب الكذب من وافر (الايهام والاحتيال)، حتى على نفسه ما يجعله (حالة) تحتاج إلى تعريةٍ دائمة.

فعل الكذب

ليست حالة الكذب هذه حالة سيكولوجية خالصة وإنْ كانت مليئة بالاشارات والإيحاءات النفسية، لكنها ذات جذور وطبيعة ثقافية بالدرجة الأولى. قل ما شئت عما يعتمل في نفس الكاذب من دوافع وأهواء وعمليات معقدة، غير أن استعمال الأكاذيب يجسد جوانب معرفية وتواصلية، ويشكل لدينا موضوعاً لإعمال أدوات الفكر النقدي وكشف الصورة المنطقية التي تحققها. لأن كل حالة كذب نوع من التعامل الواعي مع عناصر معرفية وثقافية في الواقع، ولا تخلو من بنية ممتدة الإيقاع والتكوين.

هكذا توجد جوانب أخرى لهذه (الحالة الفريدة)، ستؤول دلالتها وتكشف خط سيرها كالتالي:

1- هناك عدم إنكار(تجاهل) من الشخص الكاذب لما يُمارس من أفعال وأحاديث غير صحيحةٍ. وحتى عندما يكذب كذباً بائناً أمام الناس، فلا يَسيرُ إلاَّ بوضعية التبجُح.

2- الخلط بين الواقع والزيف، لأنَّ الكاذب يقول الكلام مُصدَّقاً لديه فقط ما يزعم، ثم سرعان ما يُسقطه على الواقع بصرف النظر عن المرجعية أو الحقيقة.

3- المكابرة اللزجة التي تفرض حالةَ كذب الشخص على الآخرين نهباً للفُرص واستثماراً لتناقضات الواقع والحياة.

4- استعمال الآخر كأنَّه (وسيلة رديئة) لأغراض الكاذب الخاصة دون النظر لإنسانية الإنسان، ولا حتى لإحترام الذات التي من المفترض ألَّا تتورط في إهانة الآخر والنيل من كرامته.

5- العيش الدائم عبر صور الخداع والتزلف، فيظن الإنسان أنَّ الكذب- باعتباره من عدةِ النصب- هو حالة الأصل في الواقع، بينما الصدق أمر طارئ وعرضي.

6- الاختباء المتواصل عن الانظار فيما يقول الكاذب مُستغلاً صمت الآخرين عن إراقة ماء وجهه.

7- استمراء التدني من قبل الكاذب أمام الاشخاص الأعلى مكانة أو سلطة أو قوة أو غلبةٍ، ثم تمرير الأحوال معهم بخنوعه الرخيص. ومن هنا سرعان ما يتماسك في الواقع ليكذب على الشخص الأقل منه موقعاً، إذ أنَّ ذلك الأمر كأنَّه لون من (التعويض المستحق) لشخصه.

8- الإستقواء بأوهام التأثير في المواقف من خلال الاستناد إلى سلطة أو شخص آخر يتلاعب بصورته في المشهد من وراء ستار.

9- إطمئنان الكاذب إلى عدم الانكشاف أو توهُم ذلك. مع أنه قد يكون شخصاً ظاهراً تماماً أم الأنظار، لكنه لا يدري أنَّه كذلك إلاَّ بعد فوات الأوان.

10- المراهنة على عامل الزمن مع مرور الأيام. فالشخص الكاذب في هذه الحالة يقول- على سبيل المثال- لن أُكتشف اليوم. وحين يمر يوم آخر بسلام، يقول ها أنا ذا موجود من غير أن يكشفني أحد وقد مرَّ يومٌ تالٍ.. وهكذا مع كافة الأيام التالية. وشعاره الدائم: فلنعش إلى الغد حتى نرى ماذا سيحدث أو سيكون الآخر قد نسي!!

11- انصراف وعي الكاذب إلى درجة منعدمة من قصر النظر المقبول والانهماك في نتائج الكذب الوقتية. وتلك الحالة هي (حالة حيوانية) من عماء الغريزة وعدم التبصُر والغرق في التفاصيل التافهة تجاه المستقبل.

12- شعور الكاذب بالاضطهاد الدائم من المحيطين به. ويأتي الكذبُ كآليةٍ دفاعيةٍ للبرهنة على أنه سينال منهم وأنه سيجرهم إلى حلبة المصارعة النفسية من حين لآخر. ولذلك سيجد الكاذب لوناً من الأريحية عندما يصادف هناك من يجاريه ويوافقه على ما يقول.

13- قابلية الانخداع الذاتي عند الكاذب في صورة تصديق واعجاب بما يزعم طوال الوقت. وهذا ما نشير إليه بأن فلاناً قد صدَّق نفسه، والانخداع عملية مستمرة حتى لا يعيش هذا الشخص في واقع كئيب بالنسبة إليه.

14- استحلال الكاذب لقيمة الحقيقة على أنها شيء غير جدير بالاحترام. ولهذا يستعمل كل قدراته البهلوانية في تلوين الأفعال وتمرير الحيل.

إذا كانت تلك هي بعض الإبعاد لحالة الكذب المشار إليها، فهل يمكن أنْ تعطينا فرصة فلسفية لتحليلها؟ بالفعل هي حالة يمكن تسميتها (الكذب الصادق) مع ذاته. وهي حالة تخلص لنفسها فقط حتى الرمق الأخير، لأنها مرتبطة بقدرتها على التماسك والاتساق مع مقدماتها ونتائجها في حدود البناء التواصلي للكاذب. فالكلام صيغة كاذبة بالفعل ويعلم صاحبه أنه كذلك، وأيضاً قد يعلم المحيطون أنه كلام كاذب، لكن صاحب الكذب يصر على طرحه متجاهلاً ما ينبغي أن يكون ومتجاهلاً كذلك أنه يكذب. وتلك فكرة مبررة في الواقع عندما يكون (الكاذب) على اعتقاد بكونه يستطيع أن يخدع أيَّ شخص آخر وأنْ يلجأ إلى تلك الاستراتيجية، حتى تشكل لديه معاني الحقيقة والفعل.

لدرجة أنَّ أبسط أمور هذا الشخص الإعتيادية لا تخلو من كذبٍ، وفوق هذا وذاك يظل مؤمناً بكونه هكذا صادقاً. فعلى الأقل- من وجهة نظره- لن يثير الكذب أية علامات استفهام أو تعجب من الآخرين. ولذلك سيخرج الكذب في كل مرة مكرراً تجاه أهدافه، حتى يتم تصديقه من المحيطين. لأنه عمل وارد سلفاً من حين لآخر، وبات معروفاً لصاحبه أنه (صادق فيما يكذب). كما أنه لا يحتاج إلى تبرير باعتباره مثل القاعدة الأولية لأية خطوة قد تحدث تلقائياً. ولدية القدرة على حبك الأكاذيب لدرجة أنه يكون صادقاً ومخلصاً فيها تمام الصدق والاخلاص.

والكاذب بهذا المعنى يدمجُ الكذب في حالات أخرى مثل التعبير عن آرائه واستعمال العبارات والمقولات الجوفاء والإشارة إلى ذاته بوصفه معبراً عن حالة صادقة إزاء المتعاملين معه. بحيث يمكن للكاذب أن يقذف بكذبته هذه أو تلك إلى أقصى نقطة دون الخضوع لتفتيش أو فحص. وهو يعلم أن استعمال الكلمات بمعان غير حقيقية يستدر تعاطف الآخرين وتغييب انتباههم طوال الوقت.

وأساس هذا الكذب - من ثمَّ - قد لا يكون بالضرورة قولاً يخالف حقيقة أو انعدام المرجعية التي نعود إليها، إنما هو (كلام غير صحيح) من أجل رسم صورة معينة له ولغيره (أمام الآخرين). يمكن تسميته تهويلاً أو تهويناً أو أنه قد قصد معنى آخر يهدف إلى أغراضه. إنه عبارة عن استراتيجية خطابية لخطف تعاطف هؤلاء أو أولئك لتمرير المواقف. ويعتبره من مقتضى الحال الذي يستحيل تجنبه ويستحسن إتيانه طالما كان مفيداً. واللافت للنظر أنَّ الكاذب يصر على الكذب بهذا المعنى، لأنه يعلم أنَّ الطرف الآخر لن يتكلم فاضحاً إياه أو على الأقل سيطرح الكذب قاطفاً ثمار الموقف ودلالاته على نحو سريع.

سردية الكذب

والكذب من هذا الصنف يدخل في سرديةٍ ما يكون الكاذب هو بطلها الأول. وحده كل كاذب بإصرار يضع وجوده في قصة يمارس فيها ما يريد بحسب اخراجه للأحداث والعلاقات والمواقف ووفقاً لتوزيع الأدوار ورسم النهايات المتصوّرة. بالضبط مثل الحبكة الدرامية التي يرى نفسه مظلوماً فيها إذ يستعيد فرصه للثأر واتخاذ مواقف جديدة. وهنا يكون الكذب مباحاً، بل مبرراً سلفاً حتى التنفيذ. لأن المظلومية تعطي صاحبها كلَّ الحيل الممكنة وغير الممكنة لمحاربة الأعداء المفترضين. بل والعمل على ايقاع الهزائم بهم واتخاذ المؤامرات سبيلاً للانتصار المزيف ولو كان خاطفاً تحت إيقاع الأوهام.

في هذه السردية لا يسمح (الكاذب) لأي أحد أن يكشفه أو يعريه أمام نفسه. كل من يحاول تعريته يمثل عدواً يجب مناصبته العداء القاتل. وبما أن الكاذب بطلاً لهذه السردية، فيفترض أن كل الموجودين ضمن محيطه في حالة صراع  معه قريباً أم بعيداً. وأن المواقف الكذوبة التي سيحيكها آتية لا محالة. وفي هذا الطريق، أحاط نفسه بمزيد من الأكاذيب والإدعاءات التي لا تعوزه من مرحلة إلى أخرى.

إن حالة العداء هي نفسها حالة الكذب الواحدة عبر الأخرى، فلا يوجد عداء دون وجود كذب بالضرورة. وهذا ما يجعل الكذوب غير قادر على الإستفاقة من الصراع والكذب معاً. لأن أحدهما يعد بديلاً للآخر في التكوين والابنية وطرائق العمل والنتائج والاحتمالات. باختصار الصراع هو الكذب إذا اردنا توضيحاً لما يستعمله الكاذب من وسائل دنيئة.  كل ذلك مع انعدام أخلاقيات الواجب والحقوق والمجال العام والمصالح المشتركة وتقدير واحترام الآخرين.

ولعلَّ نسيان الكاذب لما يفعل هو نتيجة أنه يحاول تسديد ضربات يراها متأخرة لمن يريد الإقتصاص منهم بأثر رجعي، وأنْ عليه الدور للقيام بمهامه في تلك السردية. وبالتالي لن يري أية حقوق للآخر، بل سيقوم باسقاط حياته وكيانه منذ البدء. وهذا ما يجعل الأنظمة الديمقراطية والليبرالية الحقيقية في كل المجتمعات تحذر من الوقوع في فخ الأكاذيب داخل الشأن العام أو الأكاذيب بصدد ترسيخ المبادئ المشتركة بين الناس. ببساطة لأن كل كاذب سينفي وجود حرية الآخر وسيدمر المجال العام من الجذور، وكأن الحياة غابة من الأكاذيب تنبت وتلتف الكذبة الكبيرة منها على الأكاذيب الصغيرة، ولن توجد مساحة هنالك لمجال القيم والتنوع في الرؤى على أساس وجود الجميع دون تفرقة.

وفي العادة لا يعي الكاذب ماذا يفعل، نظراً لكونه- فيما يرى- منغمساً في مهمة مقدسة بالنسبة إليه. ضفْ إلى ذلك أنّ السردية التي ينسجها حول نفسه تخلط النقاط (الخلفيات) السابقة في بوتقة واحدة عبر المواقف المختلفة. فقد يتغير الأشخاص وربما تختلف الأحداث والمواقف حوله وقد يصطنع منها ذرائع وفرصاً خلال صراعه، ولكنه في كل الأحوال يستعمل استراتيجية الكذب بالطريقة المشار إليها. ولا يمل من إخراج الأكاذيب وينسى ما يفعل من ألاعيب متدنية واعتداءات وإهانة للآخرين. وربما يصاب المتلقي لأكاذيبه بالغثيان مما يدرك ويفهم، بينما صاحب الأكاذيب سيرفل في كلماتها وصورها كأنه في جنة الخلد. الفارق أن القيامة بالنسبة إليه هي لحظة كشف كذبه في الواقع، فالقرآن قال (يوم تُبلى السرائر)، أي ستُعرف الخفايا وستكشف الإسرار ودخائل النفوس وسيدرك كل من كان يضمر شيئاً (شراً أم خيراً) أنه مكشوف لا محالة. وهذا الوضع ينطبق في الحياة على مجرد معارضة الكاذب بما يفعل ويمارس!!

ويطرح الإسلام في الدنيا قضية الكاذب السابق على نحو جدير بالتحليل. ولذلك، يضعها الإسلام في تعارض صريح مع جوهر الإيمان. فعن عبد الله بن جراد، أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه الكلمة: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون.

المتأمل لنص الحديث- بصرف النظر عن ضعفه الذي أشار إليه بعض رجال الحديث- سيقف على عدة أشياء مهمةٍ:

أولاً: السؤال جاء عن المؤمن تحديداً وحصراً، وهو الكيان الإنساني الصادق أصلاً قبل السؤال عن أحواله أو يفترض دوماً أن يكون كذلك.

ثانياً: أنَّ الايمان لا يُختزل في شخص وإن كان مسئولاً عنه، حتى لا يكون الكذب والسرقة والزنى قرينتين لرفض (مبدأ الإيمان) الذي لا يمكن النيل منه بمنطوق الحديث.

ثالثاً: قد يقع المؤمن في أفعال ترتبط بحالة الغريزة والاستئثار والشهوات في الحياة مثل السرقة أو الزنى. فالإنسان مازال حيواناً مؤمناً دون الخروج من حيوانيته. وعلى غرار كافة الكائنات الحية، قد لا يمنعه إيمانه من المزالق في بعض المواقف.

رابعاً: مع وجود ضعف لدى المؤمن حين يقترف السرقة أو الزنى إلاَّ أن النبي نفى تماماً أنه يكذب. وإذا كان ذلك كذلمك، فمن باب أولى أنه ينفي (استمراء الكذب) كحالة عصية على الفهم. لأن الايمان ثقة واخلاص لموضوعات غير مرئية(الإله – القدر – الانبياء – القدر- الحياة الأخرى) لا يستقيم معه الكذب في الأمور الدنيوية. فمن يكذب في الواقع، لن يكون صادقاً بالمرة مع أمور الغيب والماوراء.

خامساً: الأنظمة الديمقراطية والليبرالية وأخلاقيات العيش المشترك تقول الشيء نفسه بصدد الحياة العامة والعلاقات بين المواطنين المختلفين وإصدار القوانين والتشريعات. لأن الكذب يساوي عدم الإعتراف بالمجتمع إجمالاً، وأنَّ كذبةً واحدة ليست مجرد حالة خاصة في هذا السياق، بل هي عملية متواصلة من الكذب تطال جميع الناس.

شجاعة الاعتراف

إنَّ حياة المجتمعات الصحية لا تنبني على كذب الأفراد. فإنْ لم تكن هناك ثقةٌ واجبةٌ ومفترضةٌ دائماً، لن تكون ثمة إنسانية مرهونة بالتعايش والإيمان بالقيم والمعايير والمباديء والأخلاقيات. وهذه الأشياء ربما لا يدرك أهميتها الكاذبون، ولكنها لو لم تكن موجودةً لما استطاعوا العيش ليوم واحد، ولما وجدوا لأنفسهم موضع قدمٍ في الحياة. لأنه سيكون مطلُّوباً من جميع الناس أنْ يكذبوا ثم يكذبوا بالطريقة ذاتها.. وبالتالي ستتحول الحياة إلى جهنم لن تبقي ولا تذر إنساناً على الأرض.

إنَّ ثقافة شجاعة الاعتراف بالخطأ جزء لا تتجزأ من الاعتراف بالآخر وتقديره. وليس عيباً أن يخطيء الفرد في حق سواه من الناس، وأنْ يقول قاطعاً الطريق على الانحراف بأنه فعل كذا وكذا(عمداً أو بترتيب ما أو دون ذلك)، ولكن العيب كل العيب أن يتبجح ويُمعن في الأكاذيب كطريق جانبي للهروب وأن يلوي عنق الحقائق والقرائن، ثم يتضح أنه كان طريقاً رئيساً لتكوين حالة كذوبة عصية على التبرير. ولذلك تهتم المجتمعات المعاصرة بكون الأخطاء تنير الطريق لتطوير العلاقات وإعادة صياغة القوانين وترتيب المسؤوليات وانفاذ القوانين بشكل واضح. ولعل الإعتراف بالأخطاء والأكاذيب خطوة مهمة لزيادة الثقة بين الناس. فلئن كان المُخطيء يقول لقد أخطأت هنا أو هناك، فلنا القوة عندئذ لأن نثق فيه بكل هدوء وأن تسند إليه المسؤولية، فلقد بلغ مرحلة النضج العقلي وتحمل التبعات عما يفعل. والكاذب الذي لا يقصد (أو يقصد) الكذب في المجال العام عندما يقول لقد كذبت للأسباب التالية إنما يمثل دعوة لتجنب الأكاذيب ومناقشة خطورتها على المجتمعات الإنسانية.

وبخاصة أنَّه ليس أسوأ من إدمان الكذب لدى البعض وليس أحقر من العيش فيه عندما يتلفّع الإنسان بعباءة الكذب الفضفاضة. وهذا راجع إلى أن المجتمعات الأقل صراحة وشفافية هي ذاتها تمثل كذبة بحجم الحياة التي تنغمس فيها. إنها مجتمعات ملفوفة بالأكاذيب بصدد العلاقات بين أفرادها وإزاء منظومة القيم التي تحكمها وبصدد مصارحة شعوبها بالمشكلات والقضايا، مجتمعات تتهرب من الشفافية والحقائق كما يتهرب المقتول من القاتل!!

لعل مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى الشفافية في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضي. لأنَّ الشفافية والمصارحة سيقويّان قدرتنا الحية على مواجهة الأخطار وإجهاض الأكاذيب العمومية و الفردية في مهدها قبل أن تصبح قنابل ثقافية موقوتة. فالشفافية تمثل نطاق من العمل الواضح الذي يحيي الأمل في حياة أفضل، لأنه لا توجد شفافية إلاَّ بحسب معايير المشاركة والتعاون والتنوع والمساواة وحقوقنا جميعاً على أن نتطور ونصلح ما أفسده الآخرون. وليس الجانب الفردي من الأكاذيب بقليل، بل إنه سيتدحرج كما تتدحرج كرة الثلج، حتى تدهس الجميع مرة واحدة. كم من كذبة تضخمت وتحولت إلى أفيون يتلاعب بعقول الملايين، سواء أكانت تحت فكرة الخنوع للأقوي أم بفضل القبول والتداول.

***

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم