أقلام فكرية

الارادة الحرة بين الحقيقة والوهم

حاتم حميد محسنهناك من العوامل التي تؤثر فينا بما يتجاوز الوعي، منها مثلا الذكاء الاصطناعي وجيناتنا الوراثية وخوارزميات التواصل الاجتماعي. هذا يثير السؤال القديم: هل نحن حقا لدينا القدرة على التحكم في حياتنا؟ لو افترضنا ان أحدنا ينوي القيام بعمل بسيط مثل تحريك اصبع السبابة قليلا الى اليمين. نحن احرار في القيام بذلك اوعدمه. وبعد حساب ايجابيات وسلبيات ذلك الفعل اخيرا نقرر القيام بتحريك الاصبع. هذه احدى حالات الرغبة الحرة. من الواضح انها حالة ليست ذات أهمية كبيرة. لاشيء هام جدا يعتمد على تحريك اصابعنا. ولكن لو ان شخص ما سيُعدم اثر حركة الاصبع، عندئذ سنكون مسؤولين أخلاقيا لأننا فعلنا ذلك بحرية. هنا يبدو واضحا اننا نمتلك الرغبة الحرة. ولكن الكثير من الفلاسفة والعلماء سيقولون لنا ان الرغبة الحرة غير موجودة ابداً. نقطة البدء في هذا النقاش هي ان الرغبة الحرة غير منسجمة مع الحتمية determinism، وهي الرؤية العالمية التي سيطرت على العلم في الماضي ولازالت تؤثر حتى اليوم.

هل كل شيء مقرر سلفا؟

الحتمية تقول ان كل ما يحدث الآن هو انما تقرّر كليا بفعل عوامل كانت تعمل حتى قبل ان نولد. هذه العوامل ربما تتعلق بالتربية او بالثقافة، او هي تتعلق بالظروف الاولى للكون وبالقوانين التي تحكمه. ومهما كانت الطريقة، فنحن ليس لنا أي علاقة بتلك الظروف والقوانين. واذا كانت تلك العوامل هي التي تقرر ما نعمل، معنى ذلك  نحن لسنا احرارا.

الفيلسوف الامريكي فان أنفاجن van Inwagen يعرض توضيحا هاما ومفيدا عن هذه المسألة، في كتابه (مقال حول الرغبة الحرة). اذا كانت الحتمية صحيحة،فان قوانين الطبيعة والماضي يضمنان انك ستحرك اصبعك. يتبع ذلك، اذا انت لديك القوة والسيطرة بان لا تحرك اصبعك،فانت ايضا لديك القوة لتغيير قوانين الطبيعة او الماضي. لكنك ليس لديك تلك القوة. ومع ان الحتمية هامة تاريخيا،لكنها تبدو الآن غير صحيحة. فيزياء الكوانتم تبيّن ان حدوث بعض الأحداث يؤكد حقا انها عشوائية. الجامعة الوطنية الاسترالية استخدمت مفهوم العشوائية لتطوير مولّد رقم عشوائي. لكن هذا لسوء الحظ، يجعل المسألة اكثر سوءاً. اذا كان تحريك اصبعك هو فقط عمل عشوائي، فأنت لن تكون مسؤولا عنه ولذا انت لاتزال لست حرا.

هذا يعطينا حجة مطورة بالكامل ضد الرغبة الحرة. اما الحتمية صحيحة او غير صحيحة، ذلك هو المنطق. اذا كانت الحتمية صحيحة، فان أفعالنا هي نتيجة أشياء حدثت قبل ولادتنا، ولهذا نحن لا نمتلك الرغبة الحرة. لكن لو فرضنا ان الحتمية ليست صحيحة، عندئذ من السهل الاعتقاد ان كل شيء سيكون عشوائيا، بما في ذلك كل أفعالنا (مثل رفع الاصبع). ولكن في هذا الموقف،سوف لن تكون هناك رغبة حرة ايضا.

هناك منْ يؤيد الفيلسوف البريطاني جالين ستراوسون Galen Strawson الذي يرى في كتابه (الأشياء التي تزعجني)، ان الرغبة الحرة مستحيلة.

هل هناك حل وسط؟

خيار آخر هو ان نحاول فهم الرغبة الحرة باعتبارها تعمل بشكل محدد من الحتمية ينطبق فقط على أفعالنا وليس على كل شيء في العالم. احدى صيغ هذه الرؤية طوّرتها الدكتورة في الجامعة الوطنية الاسترالية فكتوريا ماكجير Victoria McGeer، وتتضمن تعريف الرغبة الحرة على انها أي شيء يفسر قدراتنا الاجتماعية في تحميل بعضنا البعض المسؤولية الاخلاقية. عندما تستطيع العملية الحتمية من حيث المبدأ عمل ذلك، فان الرغبة الحرة والحتمية قد يتعايشان جنبا الى جنب.

ولكن حتى لو أوضحت العملية الحتمية هذه القدرات، فسوف لن تكون هناك رغبة حرة لأن الرغبة الحرة هي في الأساس غير منسجمة مع الحتمية. في هذه النقطة، تبدو الأشياء معتمة. لكن هناك وميض ضوء صغير أشار اليه الفيلسوف اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي يقول: "نحن لا نستطيع التخلي عن الإعتقاد بالرغبة الحرة، انها إنطباعنا الفينومولوجي المباشر والواضح، لكننا لا نستطيع توضيحها. اذا كان هناك شيء نعلم انه صحيح ولكن ليس لدينا أي توضيح له، فهذا امر سيء للغاية بالنسبة لأي امكانات تفسيرية".

لو فرضنا ان الحتمية غير منسجمة مع الرغبة الحرة، اذا كان الامر هكذا، فانت عندما تحرك اصبعك بحرية، فان ذلك الحدث لم يتقرر بالكامل بالظروف الاولى للكون او قوانين الطبيعة. فهل من الضروري ان يكون عشوائيا . ان يكون الشيء عشوائيا شيء وان يكون غير مقرر بالكامل شيء آخر. هناك مساحة منطقية بين الحتمية والعشوائية، وان الرغبة الحرة تعيش في تلك المساحة.

تشومسكي يستمر بالقول ربما من المستحيل للانسان فهم الرغبة الحرة. في العلوم، طور الناس نماذجا ونظريات لأنظمة هم يهتمون بها. هو يقترح في كتابه (اللغة ومشاكل المعرفة) ان النماذج الوحيدة التي نستطيع فهمها هي تلك التي تكون فيها أفعالنا اما مقررة او عشوائية. واذا كان الامر هكذا، نحن سوف لن نطوّر ابدا أي نماذج للرغبة الحرة، لأنها ليست من بين تلك الأشياء.

اذا كان البعض لا يتفق مع تشومسكي حول حدود الفهم الانساني، لكنه كان صائبا حول الرغبة الحرة. نحن أحرار في تحريك أصابعنا. ذلك لا هو حتمي ولا هو عشوائي انه خيار نشعر به في حركة عظامنا.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم