أقلام فكرية

العلم ومعضلة الوعي.. محاولات حل اللغز

Bertrand Russellان أعظم تحدّي علمي حاليا هو تفسير الكيفية التي ينشأ بها الوعي من مجموعة أنسجة رمادية هلامية مستقرة في الرأس. الدماغ هو عضو معقد للغاية وبشكل استثنائي، يتألف من ما يقرب 100 بليون خلية تُعرف بالخلايا العصبية كل خلية ترتبط بـ 10 آلاف خلية اخرى لتنتج حوالي 10 ترليون ارتباط عصبي. لقد حقق العلم الكثير من التقدم في فهم فعالية الدماغ والكيفية التي يساهم بها في السلوك الانساني. ولكن الشيء الذي لم يستطع أحد توضيحه حتى الآن هو كيف يؤدي كل هذا الى المشاعر والعواطف والتجارب. كيف يتم تمرير الإشارات الكهربائية والكيميائية بين الخلايا العصبية بما يؤدي الى الشعور بالألم او بالحب الرومانسي؟

هناك شك متزايد بان الطريقة العلمية التقليدية الحالية سوف لن تكون قادرة ابدا على الاجابة على هذه الأسئلة. من حسن الحظ، هناك اتجاه آخر يمكن ان يكون بالنهاية قادرا على فك اللغز. في الشطر الاكبر من القرن العشرين، كان هناك عزوف كبير عن التحقيق في العالم الداخلي الاسطوري للوعي. لم يؤخذ الوعي بالاعتبار كموضوع ملائم لـ "العلم الجاد". لكن الأشياء لاحقا تغيرت كثيرا، والآن هناك اتفاق واسع بأن مشكلة الوعي هي قضية علمية خطيرة. غير ان العديد من الباحثين في الوعي يقللون من قيمة وعمق التحدي، معتقدين اننا نحتاج فقط للاستمرار في فحص البناء الفيزيقي للدماغ لمعرفة كيف ينتج الوعي. ان مشكلة الوعي لا تشبه أي مشكلة علمية اخرى. أحد أسباب ذلك هو ان الوعي غير مُلاحظ. انت لا تستطيع النظر في داخل رأس الشخص كي تشاهد شعوره وتجاربه. اذا كنا نعتمد على ملاحظاتنا من منظور شخص ثالث فسوف لن تكون لنا أرضية صالحة لإفتراض الوعي أبداً.

بالطبع، إعتاد العلماء على التعامل مع غير المُلاحظ. الألكترونات، على سبيل المثال، صغيرة جدا لدرجة تصعب رؤيتها. لكن العلماء يفترضون وجودات غير مُلاحظة لكي يوضحوا ما نلاحظ، مثل البرق او مسارات البخار في الغرف السحابية. ولكن في الحالة المتفردة للوعي، لا يمكن ملاحظة الاشياء المطلوب توضيحها. نحن نعلم ان الوعي يوجد ليس من خلال التجارب وانما من خلال احساسنا المباشر بمشاعرنا وتجاربنا. اذاً كيف يمكن للعلم توضيحها؟ عندما نتعامل مع بيانات الملاحظة، نستطيع عمل تجارب لإختبار ما اذا كان ما نلاحظ يتطابق مع ما تتنبأ به النظرية. ولكن عندما نتعامل مع بيانات غير مرصودة للوعي، فان هذه المنهجية ستنهار حتما. أفضل ما يستطيع العلماء عمله هو ربط التجارب غير المُلاحظة مع العمليات المُلاحظة عبر مسح أدمغة الناس والإعتماد على تقاريرهم بشأن تجارب وعيهم الخاص. بهذه الطريقة، نستطيع تأسيس، مثلا، ان الشعور غير المرئي بالجوع هو مرتبط بفعالية مرئية في غدة (تحت المهاد) المتمركزة في الدماغ. لكن تراكم مثل هذه الارتباطات لا يرقى لنظرية في الوعي. ما نريده في النهاية هو توضيح لماذا ترتبط التجارب الواعية بنشاط الدماغ. لماذا تأتي تلك الفعالية في غدة تحت المهاد مصحوبة بالشعور بالجوع؟ في الحقيقة، يجب ان لا نندهش من ان طريقتنا العلمية السائدة تكافح في التعامل مع الوعي. وكما لاحظ فيليب جوف الفيلسوف واستاذ الفلسفة في جامعة دورهام في كتابه (خطأ غاليلو: اسس لعلم جديد للوعي)(1)، ان العلم الحديث كان مصمما بصراحة على استبعاد الوعي.

قبل "ابو العلم الحديث" غاليلو، اعتقد العلماء ان العالم المادي مملوء بصفات مثل الألوان والروائح. لكن غاليلو اراد علم كمي خالص للعالم المادي، وهو لذلك اقترح ان هذه الخصائص لم تكن حقا في العالم المادي وانما في الوعي، الذي هو افترضه موجود خارج مجال العلم. هذه الرؤية العالمية تشكّل أرضية العلوم حتى اليوم . وطالما نحن نعمل بموجبها، فأن أفضل ما نستطيع عمله هو تأسيس ارتباط بين عمليات الدماغ الكمية التي نستطيع رؤيتها والتجارب النوعية التي لا نستطيع، مع عدم وجود طريقة لتوضيح لماذا يذهب الاثنان مجتمعان.

الذهن مادة

هناك طريقة أمامنا، او اتجاه يعود في جذوره الى العشرينات من القرن الماضي لكل من الفيلسوف برتراند رسل والعالم آرثر ادنغتون. نقطة البدء لديهما هي ان العلم المادي لا يقول لنا حقا ماهي المادة. هذا قد يبدو غريبا، لكن اتضح ان الفيزياء تقتصر في عملها فقط في إبلاغنا عن سلوك المادة. فمثلا، المادة لها خصائص الكتلة والشحنة اللتان تتميزان كليا من حيث السلوك – الجذب، التنافر، ومقاومة التعجيل. الفيزياء لا تقول لنا شيء حول ما يسميه الفلاسفة "الطبيعة الباطنية للمادة"، كيف تكون المادة من حيث الجوهر. يتضح اذاً، ان هناك فجوة هائلة في رؤيتنا العلمية – الفيزياء تتركنا في عتمة تامة حول ماهية حقيقة المادة. مقترح رسل وادينغتون كان ملء تلك الفجوة بالوعي. النتيجة هي نوع من "الروحانية الشاملة" panpsychism- الرؤية القديمة القائلة بأن الوعي هو خاصية اساسية في كل مكان من العالم المادي. لكن "الموجة الجديدة" من الروحانية الشاملة تفتقر للمضامين الصوفية للأشكال القديمة للرؤية. هناك فقط مادة ولا شيء من الروحي او خارق للطبيعة – وانما المادة يمكن وصفها من منظورين اثنين. العلم المادي يصف المادة "من الخارج"، من حيث سلوكها، لكن المادة "من الداخل" تتألف من أشكال من الوعي. هذا يعني ان الذهن هو مادة، وانه حتى الجزيئات الأولية تعرض وبشكل لا يصدق أشكالا اساسية للوعي. الوعي يختلف في درجة التعقيد. هناك سبب جيد للاعتقاد ان تجارب الوعي لدى الحصان هي أقل تعقيدا مما لدى الانسان، وان تجارب الوعي لدى الأرنب هي أقل تعقيدا مما لدى الحصان. عندما يصبح العضو أبسط، تكون هناك نقطة يتوقف الوعي فيها فجأة – ولكن ايضا ممكن ان يتضائل لكنه لن يختفي كليا ابدا، بما يعني دائما ان الالكترون فيه عنصر ضئيل من الوعي. ما تقدّمه لنا الروحانية الشاملة هو طريقة بسيطة وانيقة في دمج الوعي ضمن رؤيتنا العلمية . الطبيعة غير المرصودة للوعي تشير الى ان أي نظرية للوعي تذهب أبعد من مجرد الارتباطات هي غير قابلة للاختبار. الروحية الشاملة هي أبسط نظرية عن الكيفية التي ينسجم بها الوعي مع قصتنا العلمية. مع ان اتجاهنا العلمي الحالي لا يقدم نظرية ابدا – فقط ارتباطات – لكن البديل التقليدي القائل ان الوعي هو في الروح يقود الى صورة شديدة التطرف للطبيعة يكون فيها الذهن والجسم متميزان. الروحانية الشاملة تتجنب كلا هذين الحدّين المتطرفين، وهذا يفسر لماذا بعض علماء الأعصاب البارزين يحتضنونها الآن كأفضل اطار لبناء علم للوعي. هناك شعور بالتفاؤل اننا سوف يكون لدينا في يوم ما علم للوعي، لكن لن يكون علما مثلما نعرف اليوم. لاشيء أقل من الدعوة للثورة، وهي ثورة يجري الإعداد لها سلفا.

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

The conversation.com, November1, 2019

(1) كتاب خطأ جاليلو: اسس لعلم جديد للوعي، صدر عن دار vintage في 6 اكتوبر 2020 في 256 صفحة.

في المثقف اليوم