أقلام فكرية

الدكتور حسن حنفي.. الأضدادُ في كأسٍ واحد (1)

عبد الجبار الرفاعيهذه سلسلةُ مقالات كتبتُها عند وفاة الدكتور حسن حنفي رحمه الله، لم أشأ نشرها في الجريدة ذلك الوقت. مشاعرُ فقدان الأصدقاء القريبين موجعةٌ، احتجتُ مدةً طويلة لتبرد مشاعري وأعيدُ ‏تحريرَ النص وأنا هادئ. أحاول أن أكتبَ عنه وأنا متخفف من مشاعرَ فقدان صديق عزيز، ولئلا يقعُ تفكيري أسيرَ عواطفي عند الحديث عن أفكاره.

رحل الدكتور حسن حنفي يوم الخميس 21-10-2021 عن عالمنا بعمر 86 سنة "1935 – 2021". ‏برحيله فقد العربُ مفكرًا غزيز الإنتاج، وخسرت الفلسفةُ معلّمًا أفنى حياتَه في التعليم، وباحثًا كرّس عمرَه للبحث والكتابة.

كنا معًا على المنصة في الجلسة الافتتاحية آخر مرة التقينا بمؤتمر النهضة العربية سنة 2018 في الأردن،كان مُقعدًا على كرسي، لكن همّته وعزيمته وحماسته لم تهدأ، وتوقّد ذهنه لم ينطفئ.‏ أحترمُ حسنَ حنفي وأعتزّ بصداقته، ويعجبُني منجزَه الواسع، وأهتمُ بمتابعة ومطالعة كتاباته المتدفقة الغزيرة. تربطنا صداقةٌ تواصلت سنوات طويلة، كان مهذبًا دافئًا ودودًا معي، أحبُّ صوتَ الإنسان الغيور الشهم داخلَه، وإن كنتُ أختلفُ مع تعريفه للدين وقراءته لنصوصه.

تعودُ علاقتي بفكر حسن حنفي إلى أكثر من أربعين عامًا، قرأتُ سلسلةَ مقالاته في نقد الأصولية بجريدة "الوطن" الكويتية بعد مقتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. في نقده للأصولية للمرة الأولى أقرأ نقدًا بجرأة لم أعرفها في أدبيات الجماعات الدينية. لم تألف هذه الجماعاتُ غربلةً وتمحيصًا في داخلها لشعاراتها ومفاهيمها وقراراتها.كلُّ ما قرأتُه في تقويمها ومراجعتها ونقدها لكتّاب خرجوا عليها وغادروا تفكيرها، أو كتّاب ينتمون للجبهة المقابلة لها. انتقل حسنُ حنفي في نقده للأصولية إلى آفاق أوسع من ضيق أفق تفكيرها ومفاهيمها المبسّطة، ونظرتها الأُحادية لواقع شديد التركيب ومتعدّد الأبعاد ومتنوّع الوجوه.

بادرتُ لقراءة ما أعثر عليه من مقالات حنفي ومؤلفاته. أرسلتُ له رسالةً بريدية. لم أكن واثقًا من وصولها، فوجئتُ بعد مدة طويلة برسالة جوابية مرفقةً بطرد يحمل مجلة "اليسار الإسلامي" وغيرها، هذه المجلةُ أصدرَ حنفي العددَ اليتيم منها ولم يردفه بعدد آخر. ضمّت "اليسار الإسلامي" مقالاتٍ بعضُها منشور من قبل، منها مقالةٌ للدكتور علي شريعتي مترجمة للعربية.كانت المجلةُ أشبه ببيان تأسيسي لحزب أيديولوجي ثوري. قرأتُ مقدمتَه المسهبة للمجلة أكثرَ من مرة، رأيتها مقالةً تحتشدُ فيها أصواتٌ متنوعةٌ للثوار في تاريخ الإسلام المبكر، تحتشدُ هذه الأصواتُ بموازاة مقولات العدل والحرية في علم الكلام المعتزلي، ومفاهيمَ إنسانية منتقاة من التراث. لم أقرأ من قبل كتابات تتجاور فيها كلُّ هذه التوليفة المركبة من أضداد، يحاول حنفي أن يسكبَ أضدادًا في كأس واحد. بقدر ما أعجبتني براعةُ حسن حنفي في الصياغة اللغوية لشعارات تنادي بأحلام اليسار والحركات الثورية بمختلف تعبيراتها، وخبرتُه الواسعة بحقول التراث المتنوعة، تساءلتُ عن كيفية جمع ثورات تنطلق من مواقف اعتقادية متعارضة وأحيانًا متصارعة، ودمجها بمقولات كلامية تعكس كلُّ واحدة منها رؤيةَ أحد الفرق الكلامية المتنازعة. بدأ ينمو ويتراكم هذا التساؤل وأمثالُه بمرور الزمن كلما قرأتُ جديدًا لحنفي، إلى درجة اكتشفتُ فيها عقلًا يدمجُ عناصرَ غريبة وأحيانًا متضادة تنتمي لفلسفات متنوعة وعقائد متصارعة، يدعوها لتنادي بصوته لا صوتها، وتعلنُ غاياتِه لا غاياتها، وتنشدُ أحلامَه لا أحلامها. وقفتُ على بوصلةَ تفكير حنفي منذ أول قراءة لكتاباتِه وتكشّفَ لي بوضوح كيف يجعل الشرقَ يقول ما قاله الغربُ والغربَ يقول ما قاله الشرق، والماركسيةَ تقول ما قاله الإسلامُ والإسلامَ يقول ما قالته الماركسية، والتراثَ يقول ما قاله التنويرُ والتنويرَ يقول ما قاله التراث.

تفرضُ عليك جهودُ حسن حنفي الاهتمام بها، سواء كنتَ تتفق أو تختلف مع أفكارِه، أو تثيرك تأويلاتُه للتراث، ومحاكاتُه للاهوت التحرير، وشغفُه باشتقاق الثورة من العقيدة. كتاباتُه وعباراتُه كأنها شعاراتُ ثوار بالغة التأثير على مشاعر مَنْ يقرأها بتعجّل، تراها لأول وهلة كأنها نسيجٌ ينهل من منابع متنوعة، تحيلُ إلى الموروثِ بحقوله الواسعة، وتتكلمُ مصطلحاتِ الفلسفةِ وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة بتياراتها واتجاهاتها المتنوعة، وإن كانت قراءتُها بتريث ترى فيها ما لا تقوله قراءتُها المتعجّلة. لا تفتقرُ كتاباتُه إلى إطلالة على الماضي وإن كانت مشدودة بالواقع، تقرأ اعلاناتِه المكررة عن ضرورة الاهتمامِ بالواقع ومتطلباته واستحضارها في التفكير والتعبير. تخلو كتاباتُه من التحريض ضدّ المذاهب، لا تشوبها لوثةٌ طائفية، لم يكن مع مذهب ضدّ مذهب، ولا مع جماعة ضدّ جماعة، ولا مع حزب ضدّ حزب. تشعرك كأنها مع الجميع، في الوقت الذي لا تراه إلا وحده، يحرص على التوفيق بين مختلف التيارات والاتجاهات والفرق والمذاهب والايديولوجيات، الذي يصلُ حدّ التلفيق المكشوف بتأليف ما لا يأتلف.3903 حنفي والرفاعي

كنتُ مدعوًا لمؤتمر نظّمه الأزهرُ في القاهرة ربيع سنة 2017، لا أتذكر زيارةً للقاهرة إلا وأبدأها بمهاتفة حسن حنفي، وأقتطع وقتًا مناسبًا لزيارته في بيته مهما كانت الزيارةُ قصيرة، كما هي عادتي في كلِّ مرة أصلُ مصر، وعندما يتسعُ وقتي أزوره أكثرَ من مرة. لم تتجاوز زيارتي الأخيرة أيام المؤتمر الثلاثة، ولم يتسع وقتي للقاء أصدقاء كرام في هذه الزيارة، إلا لزيارة الأخ حسن حنفي إذ فرضتها ضرورةُ الصداقة الأخلاقية. هاتفته فأجابني مرافقُه، وفور اخباره أعرب عن سعادته ورغب بشوق أن أصلَ إلى بيته القريب من منطقة الفندق الذي أقيم فيه. اكتريت سيارةً إلى مدينة نصر حيثُ منزله، وطلبتُ من السائق أن ينتظرني ربع ساعة كي أعودَ لأعمال المؤتمر. عندما دخلتُ عليه رأيته مقعدًا واهن القوى والحوّاس، أسرع انهاكُ الأمراض والشيخوخة إلى الفتك بجسده، استنزفت طاقةَ عينيه المطالعةُ والكتابة حتى كادَ يفقدُ بصره، رأيتُه يكتبُ الكلماتِ بقلم عريض لا تستوعب الورقة من حروفه إلا عبارات قليلة، يستعينُ بالبصيص الضعيف لعينيه باستخدام عدسة مكبرة جدًا للقراءة والكتابة. حزنتُ لما رأيتُ جسده بهذه الحالة. على الرغم من وهن جسده وضعف صوته لم ينطفئ حماسُه ولم تمت أحلامُه. تألمتُ كثيرًا للوهن الذي نهش جسدَه، كان مُقعَدًا على كرسي، لا يقوى على القيام. المفاجئ أن الفتور الذي استولى على جسده، لم يعبث كثيرًا بعقله، ولم ينخر مشاعرَه، ولم يطفئ حماسته المتقدة، ولم يصيّر جمرةَ شعاراته رمادًا. استمعتُ إلى نداء الحياة يصرخُ في روحه بصوت يهزمُ نداءَ الموت في جسده. مكثتُ ساعة ونصف تقريبًا، أسأله عن صحته وجديد مشروعه الذي نذر له عمرَه وضحّى براحته وصحته من أجل اكماله،كان يحدثني بثقة العاشق المتيَّم الذي تحقّقت كلُّ أحلامه، وهو يقول جذلًا: تمكنتُ من إنجاز آخر حلقة في مشروع "التراث والتجديد". ويضيف: لم يعد لديّ ما أحلمُ بكتابته إلا تدوين ذكرياتي، وأتمنى لو أسعفني العمرُ أن أنجزَ كتابًا جديدًا عن الثورة والثوار في كتابات مفكري أمريكا اللاتينية. سألني ما إذا كانت حقيبةُ سفري تستوعبُ آخرَ أعماله، فقلتُ له: سفرتي سريعة لحضور مؤتمر، وحقيبتي الخاصة بالكتب سأعودُ بها لبغداد فارغة، لم يسعفني الوقتُ للذهاب للهيئةِ المصرية للكتاب والمركز القومي للترجمة ودورِ النشر الغنية بإصداراتها المتنوعة في القاهرة. أهداني ما صدرَ من الحلقات النهائية لمشروعه، وهي عدة مجلدات في التفسير، تغطي الحلقةَ الخاتمة في مشروعه الواسع الطموح. أحبطَ تفسيرُه أملي مرةً أخرى، تفسيرُه تبهرك عناوينه، وهو الخبيرُ بصياغة العناوين بلغة كأنها لافتات شعرية، وحين تقرأه لا تجد مضمونَه يتناغمُ والايقاع المعلن لعناوينه، يسهبُ في الحديث ويراكمُ كلماتِه وعباراته وشعاراته المعروفة في كتاباته، يفسِّر الآياتِ القرآنية في ضوء رؤيته المهيمنة على كتاباته منذ البدايات المبكرة، إلا أن لغتَه أضحت سائلةً، تفيضُ بالألفاظ وتشحُّ بالمعاني. تألمتُ لحظةَ رأيتُ لغته تفتقرُ إلى طاقتها ووهجها المعروف في كتاباته السابقة، وكأنّ الوهنَ الذي أدرك جسدَه أدركها هي أيضاً.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

 

في المثقف اليوم