أقلام فكرية

المثقف بين المقاومة والتبعية الفكرية

محمد عمر غرس اللهطرح - مبكراً - المفكر العربي الجزائري (مالك بن نبي) مسألة (الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة)، وفيه كشف المعركة الفكرية والثقافية والمنهجية الكبيرة، التي خاضها ويخوضها الإستعمار - ودول الهيمنة الغربية - الى جانب معركته المادية والعسكرية، على المجتمعات التي إستقلت، ليحافظ على سيطرته، وليقضي على أفكارها الإستقلالية في مهدها، ويسيطر على وعي شعوبها، وبما فيها نخبها، ودفع المنساقين مع مناهجه ليتصدروا المجتمع، فيتحول الإستقلال لمجرد قناع للهيمنة الغربية المستمرة.

وفي هذا ثمة سؤال: هل يمكن تجنيد المثقفين، وهل يقع المثقف والأكاديمي والنخب في سياقات الهيمنة، أم إنهم أكثر وعياً من الوقوع في ذلك، وكيف يمكن التفريق بين الإنتماء والعمل فيه وعليه والقدرة على تمثله فكرياً وثقافياً ومنهجياً، وبين الإنسياق مع اللعبة الدولية، مناهجها وسياقاتها الفكرية والثقافية، وخاصة الأورومركزية، وما أسميه (لبررة القيم) نسبة لليبرالية، او بشكل أوضح يمكن تسميه (علمنة المجتمع العربي الإسلامي)، أي الفصل بين المجتمع والدين وإبعاده عن الشريعة الإسلامية، بمعنى الفصل بين المجتمع والقيم الإخلاقية.، تحت مبرر الحداثة والتحديث، والتي بمعنى أوضح تنزع الدولة من مفهوم (دار الإسلام) وجعلها دار بعيدة عنه في قوانينها وتشريعاتها، بحجة حيادية الدولة عن الأديان والمذاهب.

هذا الأمر المتعلق بالمثقف والثقافة والمجال الثقافي والفكري المنهجي، وهو يبدو مهم البحث والتحري، ليس للتجني او القدح والخصومات الشخصية، وإنما لفهم مالذي يجري، فليس الرأي العام وحده الذي يتم اللعب عليه، وإنما يتم هذا حتى على النُخب (المثقفين والأكاديميين والمفكرين)، فكما نحن ننتقد السياسين في تبنيهم لبعض البرامج، والإقتصاديين الذين يقعون في ثقب الرأسمالية ومركز المال الدولي الأسود، فالأمر نفسه يقع أيضاً على المثقفين والنخب الفكرية او البعض منها، فتصبح - هذه النخب - معبر فكري عن مشروع الهيمنة على الشعوب، بل هم أخطر والأكثر تأثيراً في هذا من الأخرين.

لقد بدأ الأمر مبكراً منذ بداية القرن الماضي - مع الإستعمار الأوروبي لأمتنا العربية - وهو كان موجها تحديداً لثقافة الأُمة وإطارها المعرفي، وبعد مرحلة الإستقلال منذ منتصف القرن الماضي، وتصاعد مع ما يمكن تسميته (حرب الربيع العربي)، وأخذ أشكال وأساليب عديدة ومتطورة خاصة مع إنتشار البث التلفزيوني وإستخدام الإنترنت، بتركيز عالي على الجانب الديني واللغوي، وإبتكروا فيه منفذ خطير سموه (الهوية) بفكرة تُصور أن الهوية القبلية والمناطقية تتناظر مع الهوية الوطنية العربية الإسلامية برمتها، وتم نشر هذه الفكرة على القطاعات الشعبية، التي لا تفهم كنه موضوع (الهوية) ولا في أي سياق يتم تناولها، وصارت موضوع لتلقيح مشاعر التفتيت والخصوصية، أُلحقت بكلمة ووصف (مكونات)، التي صارت الوصفة السحرية لتفتيت وحدة إرادة المجتمع، بتظهير مشاعر إنتماء بعيدة عن الإنتماء والهوية الوطنية، متقوقعة على ذاتها القبلية وتصويرها متناظرة مع الحالة الوطنية، ومتناظرة مع الحضارة العربية الإسلامية برمتها، حيث تستخدم كلمة (ديموقراطية) و (حقوق الإنسان) كلمة مفتاح وسلاح لتحقيق ذلك.

فبإسم (الديموقراطية) وتحت شعارها، يتحول هذا (المثقف) إلى رديف للخطاب الإستعماري للهيمنة الجديدة، التي تعمل عبر حلف الناتو والبنك الدولي وأذرع الدول الغربية، فكل ما يفعله الغرب في أمتنا وعلى أجساد أهلنا وأطفالنا وشيوخنا ونسائنا، يتم بإسم الديموقراطية وبدعواها وتحت شعارها، فالديموقراطية التي يتبناها الغرب في مجتمعاتنا ودولنا – سوى سياسياً أو فكرياً وثقافياً - لها تعريف واضح يبدا بإنتهاك السيادة الوطنية، وإستباجة البلاد بالسفراء والمنظمات العابرة للحدود، وبالدعوة للتحرر من القيم الإخلاقية وطنية وسلوكية وفرض إتفاقية سيداو، والعمل التدريجي على فصل المجتمع عن دينه وقيمه، ويعتمد في هذا كسر الحمائية الفكرية للمجتمعات، أداة هذه الديموقراطية تظهير نماذج (موديل Model – ستايلStyle) الشعبي (الفني) والسياسي أيضاُ، ونماذج المثقف الليبرالي الديموقراطي الذي يريده الغرب وينسق معه ويدعمه ويوفر الظروف لتمظهره سياسياً وثقافياً، ولهذه الديموقراطية أيضاً تنظيماتها السياسية الحديثة تحت مسمى منظمات الأهلية والمدنية المرتبطة بالغرب (NGOs)، ومن أساليبها وسماتها، إستباحة سفراء الدول الغربية للدول وسيادتها تتدخل في كل التفاصيل، ومن تجليات هذه الديموقراطية وبإسمها يتم تظهير المناطقية والشعوبية سياسياً، وجعلها عدو لإرادة الوطنية والعروبة والإسلام، وتركيبها لتكون محارب داخلي ضد مركزية قرار الدولة وسيادتها الوطنية، وجعلها مدخل دائم للتدخل والتنسيق.

فالمثقف الذي يوصف بإنه (الديموقراطي) هو في الحقيقة مفتاح باب الهيمنة، يشابه اليساري (الديموقراطي)، ذلك اليساري الذي ترك كل قيم اليسار التاريخي (العادلة الإجتماعية، ومحاربة الطبقية، وتحجيم الملكية الخاصة والإستغلال، والدعوة للعدالة في توزيع الثروات)، وتحول إلى مطية لليبرالية الغربية يسبح بحمدها صباح مساء يكرر مصطلحاتها ومفاهيمها ويمرر سياقاتها ومناهجها، يصرخ صباح مساء بنفس الكلمات والجمل والصيغ، التي يرفعها حلف الناتو والشركات الغربية والإعلام الغربي ومراكز أبحاثه ومثقفيه ومديري مناهجه وسياقاته، وينادي بها جهابذة الأورومركزية فلسفيا وفكرياً، ويعبر عنها سياسياً الرئيس الأمريكي، وبارونات الكونجرس الأمريكي، ورئيس الوزراء البريطاني، والرئيس الفرنسي (المعبرين الحقيقيين عن الإستعمار القديم الحديث للمنطقة).

أن المثقف نتاج مخاض مجتمعه، وهو من تجليات قيمه ومسارها وفلسفتها، وهو تعبير عن كريات دم المجتمع البيضاء، التي تمثل سلاح المقاومة الفكري والثقافي، به وعبره تتطور بتطورها الفكري والفلسفي، فهو تعبير عن حيوية المجتمع ولغته وقيمه، وإن تحول هذا المثقف الى حامل لمشروع التغريب مهما  كان ضليعاً فيه ومتحدثاً جيداً ولبقاً فيه، سيبقى مجرد حامل وجسر تعبر عبره دبابات التغريب الثقافي، ومجرد مطار تحط به وعبره طائرات التغريب القيمية بقنابلها ومفخخاتها المنهجية، العاملة على لبررة قيم مجتمعنا العربي الإسلامي، فالمثقف إن لم يعبر عن قيم مجتمعه وحزمتها القيمية وفلسفتها، فهو يقع في حبائل التغريب دون أن ينتبه، أو حتى بإنتبه حينما يعتقد أن طريق تطور مجتمعه لابد أن يمر عبر تبني القيم الغربية.

إن هذا القول، لا يعني معاداة المشترك الإنساني وتجريمه، وتجريم النهل والإستفادة منه، بل هو رؤية حول أهلية وأحقية المنهجية القيمية الفكرية العربية ومنطلقاتها، ومنطقيتها، وحجيتها، وأهليتها، وسط هذا المشترك الإنساني، فهي مساهم أساس وحلقة مهمة في حلقات تطور الفكر الإنساني، وهي قيمياً لها منطقيتها الحضارية وتمكنها بجدارة منذ 1440 عاماً تقاوم الحملات في تنافس الحضارات، والأديان، وتجليات ذلك في الإرادة السياسية وحتى الحربية، وفي الوجود بمعناه الفكري والقيمي والمادي، فوق الأرض وتحت الشمس، وهو ما يجب على المثقف العربي أن يعيه ويعمل به ويتمثل أهليته، فهي معركته وهي تخصصه، وهو قائد أركان جيوشها الثقافية والفكرية، وهو المتمكن من إستخدام السلاح المناسب في معركتها القيمية والمنهجية.

***

محمد عمر غرس الله

كاتب ليبي: بريطانيا

..................

* لتفاصيل أكثر عن معركة القيم وصراع المنهجيات: يمكن الإطلاع على كتابي: (اللسان، الهوية، الأمة، والعلمانية) الصادر عن دار نقوش عربية - تونس.

في المثقف اليوم