أقلام فكرية

الوجودية فلسفة الذات

حاتم حميد محسنالحياة هي الحقيقة الأساسية التي يجب ان تكون نقطة البدء في أي فلسفة. غير ان الانسان الحديث كان مجبراً على قطع جميع الروابط مع وجوده وضياع فرديته في عالم التنميط الصناعي الشامل. هو ليس لديه الوقت للتفكير، ومواجهة وجوده كما هو، لأنه في الليل والنهار، يكافح لتحقيق الفعالية الاقتصادية لإشباع حاجاته اللامتناهية، الواقعية منها والخيالية،ليُبقي نفسه عائما وسط موجات المد والجزر الاستهلاكية.

في هذا اللحاق الوهمي تراجع الانسان الى الزوايا المظلمة للعالم الخاضع لأوهام السرديات العلمية والسياسية والفلسفية الكبرى، وللتصورات المسبقة والأفكار المجردة. كذلك، ان معنى الدين لم يُعاد تنظيمه في العلاقة مع التجربة الواقعية للفرد وانما خضع عبر اكتساب المعرفة والانخراط في نقاشات "فكرية" غير ملائمة تفتقر لأي أهمية لواقع الفرد وتجاربه اليومية.

ومع ان الانسان بدأ يفقد مكانته المركزية كموضوع للفلسفة فوراً بعد فترة سقراط مع تمجيد العقل من جانب افلاطون وارسطو، لكن النهضة والتنوير كثّفا حدّة العقل ووضعا آخر مسمار في نعش الانسان. الحضارة الاوربية للقرن الثامن عشر ركبت على حصان المزاج العلمي والوضعية المنطقية، وسحقت على الانقاض المتبقية من القيم المسيحية والأخلاق والتجربة الانسانية الذاتية، وهكذا أعلنت بان العقل والعلم وحدهما الآن يستطيعان حل جميع مشاكل الانسان سواء المادية منها او الروحية.

الاتجاه الجديد للتفكير هذا جرّد الطبيعة العارية من رمزيتها ومعناها الذاتي المعطى من قبل دانتي، وجعلها اشياءً لتسلية أطفال التنوير المعمّدين بمياه المناخ العلمي. ومع ان كانط حذّر من حدود وأخطار العقل، لكن لا أحد كان يصغي لتحذيره حتى تمكّن الوحش العملاق من اصطياد واجتياح اوربا ووضعها تحت مخالبه. نيتشه تنبأ بان التفكير الجديد يحمل في طياته الدمار الذي سيغمر في يوم ما كل اوربا وسيقود الى "السخافة".

ان تحطيم القلاع الدينية، التي كانت هشة سلفا، وسيادة وحش المزاج العلمي قذف الانسان الاوربي في دوامة من فوضى التصورات المسبقة والتجريدات والقصص الكبرى للقومية والرأسمالية والاشتراكية.

الانسان اصبح فقط قطعة في لغز كبير خالي من أي وجود او معنى خارج ذلك اللغز ولم يعد أفضل خلق الله وغاية في ذاته. وكما يدّعي ايفان في (اخوة كرمازوف)(1) "اذا كان الله ميتا عندئذ كل شيء مسموح به". في اوربا اصبح كل شيء مجازا اذا كان مبررا على اساس الوضعية المنطقية. حتى الحروب المدمرة لاوربا وصعود الفاشية والنازية كان مبررا من جانب العقلانية الباردة كمصير وخلاص لاوربا والذي قاد بالنهاية الى كارثة الشعوب الاوربية.  وهكذا، كان الانسان الاوربي امام واقع مرعب لينقذ سفينة الانسانية الغارقة في بحر هائل من التفكير العلمي الجديد. اذا لم تستطع الموضوعية حل المشاكل الأخلاقية، والدين اصبح مهملا، عندئذ ماذا تبقّى؟ كيركيجارد و نيتشة تصدّيا لمعالجة هذا المأزق وهو - أخطر سؤال واجهته الحضارة المسيحية. ومع انهما كانا يعالجان نفس السؤال المتعلق بفردية الانسان لكنهما أقاما تحقيقاتهما على فرضية مضادة: كيركيجارد كونه ذو ايمان عميق بالمسيحية فقد أراد معرفة ان كانت المسيحية لاتزال حية ام هي يجب ان تعترف بافلاسها، بينما نيتشة بدأ بالاعتراف بإفلاس المسيحية وأعلن عن "موت الله". غير ان رائدي الفلسفة الوجودية وصلا الى نفس الاستنتاج وادّعيا ان كل انسان يجب ان يواجه الحياة في معناها الواقعي ويختبر الظاهرة بدون فلترتها من خلال القصص والافكار الماضية كي يصل الى حقيقته الخاصة.

كيركيجارد قال، "مشكلة الموت، اذا فُهمت بطريقة موضوعية، فان المعنى التاريخي سيكون له معنى غامض بالنسبة لي،  لكن مشكلة موتي الخاص تهمني كثيرا ولايمكن تجاهلها". نيتشة ردد نفس الرسالة وقال،"ان سر أعظم متعة للوجود هي ان تعيش بخطورة، تعيش في حرب مع زملائك ومع نفسك".

وهكذا، كانت الوجودية مندفعة نحو فهم الفرد وحياته مجردة من جميع الأنظمة والتصورات المسبقة. انها رفض الانسان ليعتاش على أوهام الماضي والقصص الكبرى، وانها تشجع الانسان ليواجه ويتعامل مع الحياة والموت كظاهرة واقعية ليعثرعلى حقيقته الخاصة، وان لا يكون مقتنعا بحقيقة الآخرين.

هايدجر اكّد على ان الانسان يستطيع الحصول على المصداقية فقط بعد الانفصال عن "هم"، ونيتشة قال ان "القطيع" هم من يحط من الانسان ولهذا هو يجب ان ينقطع عن "القطيع" لكي يصبح "سوبرمان".

وهكذا، الوجودية تشجع الانسان على مخالفة عقيدته ليبقى حقيقيا لوجوده، وفي مواقف الفوضى الاخلاقية ان لا ينتظر الإرشاد الخارجي وانما يأخذ الخيار، في انقلاب وجودي. وكما في أي فكرة جديدة اخرى وطريقة للنظر للاشياء جوبهت الوجودية بالمقاومة ووصفها الفلاسفة التقليديون بالهرطقة . هم أسموها بنتاج "اليأس الاوربي" الذي يمثل كل شيء ولا شيء. الفلاسفة الامريكيون وصفوها بـ "هواية المقهى" للشباب الفرنسي اليائس. الوجودية كانت ولاتزال تُعتبر مساوية للكسل واليأس والسخافة. انها اتُهمت في إجبار الانسان للتنازل عن الحياة والإختباء وراء سجن انفرادي. جين بول سارتر كتب في مقال له بعنوان "الوجودية هي الانسانوية"، "هم يلوموننا على تشجيع الناس للبقاء في حالة من الهدوء واليأس ...، وآخرون يلوموننا على التأكيد على ما هو حقير حول الانسانية، لكشف كل ما هو قذر ومريب وخسيس، بينما نتجاهل الجمال والجانب المشرق من طبيعة الانسان".

غير ان المزاج العلمي والوضعية المنطقية كونهما يعتمدان على تنوير القرن الثامن عشر لم يصلا الى اتفاق مع الجانب المعتم من حياة الانسان وأفرطا في تبسيط الانسان ككائن منطقي يمكن فهمه فقط والسيطرة عليه من خلال قوانين موضوعية للطبيعة.

الفلسفة الوجودية كتمرد ضد هكذا تبسيط مفرط تحاول استيعاب صورة الانسان الكلي، حتى عندما تتطلب جلب الوعي الى كل ما هو معتم وعرضة للتساؤل في وجوده. انها ذاتها "نقد التجريدية"، الجهد اللامتناهي لسحب بالون الذهن رجوعا الى ارض التجربة الحقيقية، كما ذكر وايتهد.

لذا هي طريقة الحياة حيث الانسان دُفع ليتحمل المسؤولية عن خياره وأفعاله بدون إستعمال فلاتر. ايمرسون في مقالته (الاعتماد على الذات) منع الانسان من العيش على رمزية الآخرين، حيث  كتب "هناك مرحلة في تعليم كل شخص عندما يصل الى قناعة بان الحسد جهل، والتقليد انتحار، وانه يجب ان يأخذ نفسه للأفضل او الأسوا" ويقبل ذلك كجزء من حياته.

وهكذا سيكون من غير المعقول تسمية الوجودية فلسفة الكسل والطمأنينة، بل بالعكس انها فلسفة الأفعال والمسؤوليات.

***

حاتم حميد محسن

.................

الهوامش

(1) اخوة كرمازوف هي رواية لدوستوفسكي (1879-1880) يركز فيها على افكاره الفلسفية والثيولوجية المفضلة، مثل أصل الشر وطبيعة الحرية والشغف القوي في الله. الرواية تدخل بعمق الى اسئلة الله والرغبة الحرة والأخلاق. ايفان هو احد شخصيات الرواية.

في المثقف اليوم