أقلام فكرية

الفلسفة والتنظير من برج عال

قاسم خضير عباسالفلسفة لا تعني التنظير من برج عال، هي معرفة النفس وفهم الواقع والبحث عن الغايات انطلاقاُ من ذات الفيلسوف. ولذا فهي لا تُلقن من الخارج بدراسات أو بحوث، إنما تُحس بنفس الفيلسوف وأدواته الذاتية، وهذا ما دعا الفيلسوف (سقراط) إلى معارضه أحد تلاميذه عندما كتب في الفلسفة قبل أن يتقن أدواتها الرياضية والنفسية؛ التي تنبع من الفيلسوف ذاته لكيلا تكون تقليداً للأخر دون إحساس نفسي ذاتي.

وهكذا فإنَّ ترديد نظريات فلسفية غربية دون تمحيص ومراجعة ونقد يعد تقليداً أعمى، يتعارض مع مباني علم المنطق والبراهين العقلية (الاستدلالية والاستقرائية). ومن هذا المنحنى فإنَّ محاولات البعض الفلسفية لتفسير الأخلاق على وفق نظريات فلسفية غربية تعد نهجاً غير منطقي، لأنَّ هذه النظريات حتى في الغرب أصبحت منتقدة من قبل فلاسفة نسفوا الأساس الفلسفي الذي بنيت عليها.

ومن يقرأ كتاب (فلسفة القانون) للفيلسوف (روبرت ألكسي) يجد كلامي صحيحاً، وأنَّ الأخلاق ثابتة وغير نسبية وهي لا تتجزأ عن القانون؛ ولذا فإنَّ النظريات الكلاسيكية عن الأخلاق أصبحت مهزوزة وغير بديهية. مما يدل على أننا في بحوثنا ما زلنا إلى اليوم متغربين مبهورين بما عند غيرنا؛ وهذا خطأ علمي يجب معالجته بالتجربة ومباني علم المنطق، لكي نبدع بإيجاد فلسفة تتلاءم مع مجتمعاتنا وتتماهى مع العقل العربي والإسلامي.

وسأضرب مثلاً من واقع فلسفة القانون التي خضعت في الغرب لمنطق العقل المطلق المادي، بحيث أبعد القانون عن الأخلاق بنفس حجج أوهام العقل بأنَّ الأخلاق نسبية ومتغيرة-وهي أوهام وإشكاليات تطرق لها الفيلسوف (بيكون) في كتابه (الأركون-العلامات الفارقة) -مما أدى إلى ظهور أخلاقيات السوق الحر وشركات متعددة الجنسيات وتبرير كل ما هو غير صالح بواسطة تشريع القواعد القانونية غير الأخلاقية.

وهو تشريع غير أخلاقي وغير منطقي، لأنَّ غاية القانون هي الحفاظ على حقوق الناس وتحقيق العدالة والمساواة، وهي مسائل أخلاقية شئنا أو أبينا؛ كما أنَّ القانون لم يثبت في جميع تأريخه أنه يستطيع أن يصون المجتمع مالم تكن الأخلاق إلى جانبه. والقانون مهما وصل من الكمال فإنه لا يقوم بالمهمة التي تقوم بها الأخلاق، لأنها سلاح نفسي مسلط على الأفراد جميعاً. علماً بأنَّ الأخلاق في جوهرها اجتماعية، غايتها حفظ المجتمع وحقوقه، التي هي في النهاية غاية القانون.

النظريات التي تحدثت عن نسبية الأخلاق المتغيرة تناولت بخبث أيضاً واقع ثنائية القانون والأخلاق وانفصال كل منهما عن الآخر، وحتمية وجود قانون بدون أخلاق من صفاته النفعية والمصالح غير الأخلاقية، بحفظ مصالح السلطة الحاكمة والنظام العام، حتى وإن تم ذلك بالوسائل التعسفية والتسلط والدكتاتورية.

في حين أنَّ غائية القانون الفلسفية يعبر عنها بالعدالة والمساواة، وترادف مصطلح الحق، الذي ينبع من واعز أخلاقي؛ ومن الممكن أن نجد ذلك في الدراسات الفلسفية الغربية وخصوصاً الألمانية والفرنسية. ولذا فإنَّ القسم الأول من كتاب الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت)، الموسوم (ميتافيزيقيا الأخلاق) حمل اسم (الأسس الميتافيزيقية لنظرية الحق)، وتحدث فيها عن القانون الخاص والقانون العام.

ويرى (كانت) بأنَّ العقد الذي يفضي إلى مبادئ الحق هو عبارة عن فكرة المنطق الأخلاقي، الذي يتمتع بحقيقة علمية لا شك فيها، لأنه يستطيع إلزام جميع المشرعين بتأثير قوانينهم بطريقة تجعل هذه القوانين نتاج الإرادة الموحدة للأمة بأسرها؛ ولذا لا يرى (كانت) منشأ القانون أو شرعيته امتداداً إلى أي عقد اجتماعي وضعي.

لقد أثرت فلسفة (كانت) في الفكر القانوني الأوروبي طوال القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. ومن كتبه النقدية (نقد العقل العملي) الذي بحث فيه جانب الأخلاق والضمير، و (نقد الحكم) الذي استقصى فيه فلسفة الجمال والغائية. وتأثر بمدرسته النقدية الفلاسفة الألمان، الذين أسسوا الفلسفة المثالية الألمانية ومنهم (يوهان جوتليب فيشته) و (فريدريك شلنغ) والفيلسوف (هيجل). وبالفلسفة توصل (كانت) إلى البرهنة على وجود الله وضرورة الإيمان به، وسمى هذا الطريق بالبرهان الأخلاقي؛ فالفعل الأخلاقي عنده ينبع من الإحساس بالواجب بوصفه غاية، لا من رغبة أو عاطفة أو منفعة، كما في الفلسفة المادية.

إنَّ المبدأ الأخلاقي عند (كانت) يؤدي إلى الدين؛ فبفضل فكرة الخير الأسمى بوصفها غاية العقل المحض العملي، يؤدي ذلك إلى الإقرار بأنَّ كل الواجبات أوامر إلهية، لا كجزاءات (أوامر اعتباطية) عرضية صادرة من إرادة أجنبية، بل كقوانين جوهرية لكل إرادة حرة في ذاتها، وأنها يجب أن تعتبر أوامر لكائن أعلى، لأننا لا نستطيع أن نأمل في الخير الأسمى، الذي يجعله القانون الأخلاقي واحداً علينا كفاية لجهودنا.

وتتلخص رؤية (كانت) بأنَّ السلوك الأخلاقي ينشأ من أجل الواجب، وليس من أجل المنفعة أو دفع الضرر. وهو بالتالي تحقيق الخير الأقصى، ويؤدي للإيمان بوجود حياة أخرى بعد الموت؛ والضامن لتحقيق الخير الأقصى هو الله. ويستدل (كانت) على وجود الله سبحانه وتعالى في كتابه (نقد العقل الخالص) بأنَّ: الإيمان بالله لا يأتي من خارج الإنسان بل هو فكرة تنبع من الأخلاق؛ وبهذا هدم (كانت) بواسطة الحجة الأخلاقية المنظومة الإلحادية.

إنَّ فلسفة (كانت) الأخلاقية قد أثرت بكثير من الفلاسفة، ويعترف بهذا التأثير أشد القانونيين تحاملاً على (كانت) وهو (ميشيل فيليه) في كتابه (تعريفات وغايات القانون)، الذي أكد على أنَّ: فقهاء القانون سيطرت على عقولهم فكرة (كانت) عن القانون باعتباره علماً منعزلاً حتى عن السياسة.

وهكذا نعرف أهمية مبدأ العدالة أو الأخلاق في تلمس مفهوم القانون، حيث عبر (كانت) عن الصفات الجوهرية في القاعدة الأساسية، لأنَّ الأمر يتعلق بقاعدة تنسيق القوانين الوضعية، التي تُنشئ حقاً للمشرع في إصدارها وبالتالي سريانها. ويكمن الفرق الجوهري بين (كانت) و (كلسن) بهذا الشأن في أنَّ القاعدة القانونية عند (كانت) ليست مجرد التعبير عن شرط نظري معرفي، بل هي قانون طبيعي، يعرف إلزامه بشكل مسبق وبدون تشريع ظاهري عن طريق العقل.

 ولذا فإنَّ القاعدة الأساسية عند (كانت) هي قاعدة قانون عقلي أو قاعدة قانون طبيعي؛ كما تسمى في اللغة القانونية القديمة. فالأمر يتعلق إذن بتسبيب قانون طبيعي، أو تفسير قانون عقلي كسريان القانون الوضعي. ومثل هذا التسبيب يقود إلى نقيض الطابع غير المبالي بالأخلاق، والذي نجده عند (كلسن)، إنه يقود إلى واجب أخلاقي لصياغة القوانين. هذه هي فلسفة (كانت) القانونية، والتي ترتبط بدورها بصورة وثيقة بفلسفته الأخلاقية.

ومن الجدير ذكره أنَّ المفهوم القانوني المعتمد في القانون الوضعي يقتصر على الشكلية الشرعية والتأثير الاجتماعي؛ في حين أنَّ المفهوم الفعال والمنطقي يكون من خلال التوفيق بين ثلاث عناصر هي: الشرعية الشكلية والتأثير الاجتماعي (الفاعلية) والعدالة (الأخلاق). ويبدو واضحاً بأنَّ الشرعية الشكلية والتأثير الاجتماعي (الفاعلية) والعدالة لا يجب أن يتقدم أحدهما على الآخر لا بشكل عام ولا بعلاقة بعضهما البعض؛ بل يجب أن تندرج في علاقة متدرجة.

إنَّ ماهية القانون تُلتمس بأسس فلسفية لتحقيق غايات سامية مترابطة ومتجانسة، لتحقيق أمن المجتمع واستقرار المعاملات فيه، وتحقيق العدالة والحرية والمساواة؛ وهي قضايا أخلاقية. وكل ذلك لتهيئة التقدم والتطور وانبثاق تنمية مستدامة وحكم رشيد ونهضة حضارية. وهذا هو مقصود ما قاله (العميد ربير) بأنَّ: (المطلوب ليس أن يفسر القانون بالفلسفة بل أن نرى ما يمكن أن نجد من فلسفة في القانون).

***

د. قاسم خضير عباس

 

 

في المثقف اليوم