أقلام فكرية

الرؤية النقديّة للفكر الدينيَّ لا تعني عدم التدين

حيدر شوكانيمكن معالجة هذه المسألة بطرق ووجهات نظر مختلفة، ووجهة النظر التي انطلق منها سوف تكون جزئية مثلها مثل كل وجهات النظر الأخرى. سوف تعتمد على مؤشر الدراسات الحديثة، فهذا هو السبيل الأكثر صلاحية وواقعية.

أستميحُ القارئَ في البدء بالإشارة إلى حدث بسيط عشته شخصيًا، وله صلة بالقراءة النقدية للدين وضرورتها، مع إمكانية التدين.

وهذا الحدث هو ما حصل مع زميلة لي عند مناقشتها- للدكتوراه- وكانت دراستها في فلسفة الفقه، إذ تناولت محددات عقل الفقيه، والمؤثرات في قراءته للنصّ الدينيّ وفهمه. وكان من جملة المناقشين احد الأساتيذ المعممين (وهو ممن لم تتوفر فيه شروط المعرفة العلمية بمعناها الحديث)، ومن جملة ما قاله معترضًا على ما جاء في الرسالة: هل تصلين؟! فقالت: نعم. رد عليها: ان ما موجود في هذه الدراسة من آراء وقناعات نقدية لا يوحي بذلك!

كان ذلك محل استغراب بالنسبة لي، بل يكاد أنّ يكون استهجانًا، إذ ما العلاقة ما بين القراءة النقدية لانساق تراثية زمنية وبين العبادات الشخصية وطقوسها؟ ألا يمكن أنّ يحافظ الإنسان على شحناته الإيمانية مع " تدين عقلاني"؟

وفي مقابل هذا الأمر تجد- بعض العلمانويين- يستنكر إمكانية تمسك الإنسان بعواطفه الدينية وحياته الروحية من تقى وورع وزهد وحتى تجليات شعائرية ورمزية في عصر الحداثة وما فوق الحداثة. وكأن المطلوب من الإنسان المعاصر رمي كل هذه الحياة الغنية بالقيم الجمالية في سلة المهملات أو جعلها في ساحة العقائد الإيمانية الأسطورية القديمة للمجتمعات البشرية! ألا يمكن أن تساعد هذه القيم بعد فحصها وتنقيبها في صناعة نظام أخلاقي يشعر الإنسان بالأمن والانضباط النفسي، وعدم الاستسلام للهفوات والنزوات ومتاعبها؟ ألا يمكن أن تولد بعض الطقوس والتجارب الدينيّة الحرة حالة انفعالية توقظ الروح وتثمرها؟ بل حتى الطقوس المنظمة كالصلاة في المعابد والتراتيل في الجماعات والحلقات أليس بمقدورها أن تشفي الروح من أوجاعها وسقمها؟

ألا تواجه المجتمعات الأوربية الحديثة ظاهرة عودة التقديس، أو عودة الإله بعد انحساره أو موته بتعبير نيتشه، وفي الوقت نفسه تعيش فراغًا روحيًا هائلًا؟

ألم توبخ تجربة شلايرماخر(ت1834م)- اللاهوتي والفيلسوف ألألماني- ناقدين أو مناهضين للدين من مثقفي عصره، في كتابه " عن الدين، خطاب لمحتقريه من المثقفين. (1)" الذي قال فيه: " أيعقل أن تستمرئ احتقار هذا الاتجاه الروحي إلى الأبد، أيمكن أن يبدو لكم كل ما هو مهم للإنسان سخيفًا؟ لا بد لي أن أقول: إن احتقاركم للدين هو نتاج لطبيعة خاصة بكم، وماذا عساني أن أقول أكثر من ذلك!"

مع بيان أن شلايرماخر يؤكد- في كتابه هذا- على جملة من الأمور، أبرزها: ان الدين لا يزحزح العقل ولا يميته، إذ يقول:" فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية."

وهنا كأنه يريد أن يحيل الكلام إلى ان الإنسان الحر بالرغم من تدينه والتزامه الروحي والقيمي إلَّا أنّه لا يتمكن من إثبات أي من القضايا الدينيّة بالبرهان العقليّ، غير إن هذا لا يسلبه طمأنينته، وهذه الرؤية هي التي لخصها الكاردينال نيومن بقوله:" شيئان تجتمع فيهما الطمأنينة مع عدم الاطمئنان، الإيمان الدينيّ والحب." فكثير منا يؤمن باطمئنان بعالم آخر يقبل عليه بعد موته وهو ما يعبر عنه هنا بـ" الاطمئنان" غير أنه في مواجهة الموت قد يتزحزح وينكمش ويرتعد بمجرد الشعور بالاقتراب منه وهو ما يعبر عنه بفقدان " الطمأنينة". الفيلسوف سقراط كثير ما كان يتكلم عن ظنه بوجود عالم بعد الموت، إلَّا أنّه تجرع كأس السم بكل طمأنينة.

وأتساءل أيضًا" ألم تتواصل دراسة اللاهوت الإسلامي بروح الفهم الروحي والصوفي، مع أخذ المسافة النقدية من قبل علماء ينتمون إلى مختلف الاتجاهات الروحية في أوربا، بمن فيهم العلماء المسيحيون الذين يطبقون العقلانية التومائية من أمثال لويس غارديه وجورج قنواتي؟ ويزداد هذا التوجه رسوخًا إذا ما علمنا أن حياتهم الوجودية الخاصة هي بذاتها موجهة نحو هيمنة الروحانية الدينية أو حتى الصوفية عليهم. ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من بحوثهم وتحليلاتهم يمكن أن يقبل حتى من قبل الباحثين ذوي التوجه الفكري المختلف تمامًا عنهم"(2).

ان هذه التساؤلات تحمل في ثناياها ضفيرة من الأجوبة، فتكشيفها وتفكيك تمفصلاتها بحاجة إلى دراسة أوسع. وهنا لا أنفي أن بعض تجليات الدين- وفقًا لبعض القراءات- قد تُمرض الروح، وتمرضه بآفتها، وتمزق العالم بنصوص التوحش والقتل الجوال والحقد والكراهية، وهو ما يستدعي تحديثه باستمرار وإلَّا فالتدين الشكلي المجوف أو التدين المتوحش سيلتهم أنماط التدين الأخرى الملهمة للجمال والقادرة على الصمود والبقاء.

وقبل أن أنتقل للحديث عن ضرورة بلورة رؤية جديدة للدين متلائمة مع المجتمعات الحديثة وحاجاتها وضروراتها، الدينية والثقافية، لا بد أن ألمح إلى أنّ دليل الدراسات ومقياسها يؤكد أن للدين حضوره العميق في المجتمعات وخدماته غير قليلة، وان النظريات التي ترى في منشأ الحاجة إلى الدين أمور معروفة، بإمكان الإنسان التغلب عليها، ومن ثَّم، الاستغناء عن الدين قد تهافتت بالتجربة الواقعية.

إذ يرى كثير من العلماء أنَّ تاريخ العالم لم يخل من الدين، وكذلك مستقبله لن يخلوَ منه.(3) وعلى حدّ تعبير أرنست رينان(ت1892م)- الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي-:" من المستحيل أن تتلاشى الرغبة في الدين، أو تمحى من النفس الإنسانيّة، بل إنّها خالدة وسوف تبقى إلى الأبد."(4)

تؤرخ بعض دراسات الميثولوجيا وتاريخ الأديان إلى أن الفكر البشري مرّ بأربع مراحل، وهي: السحر، فالدين، فالفلسفة، فالعلم التجريبي. وأن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونًا عديدة قبل أن يبعث مجددًا في العصر الحديث، متوكئًا عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقد على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوربية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأولى، فقد بقي أسير التصورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوربا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معًا فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث(5.

وهذه الدراسات تؤكد ما يلح عليه عبد الجبار الرفاعي من أن " الدينُ حاجةٌ وجوديةٌ متأصلةٌ، ميزت الإنسان عن غيره منذ اكتسابهِ للخصائص الإنسانيّة واستقلاله عن بقية الأنواع الحية، ولا يُعدّ الدّين مرحلةً منصرمةً من تاريخ الوجود الإنسانيّ وفكره، فإن مؤشر الدراسات يؤكد أنه حيٌ ينمو ويتطور ويؤثر بطريقة لا يمكن التغافل عنها، فهو موجود في عصر الحداثة وما بعد الحداثة كما كان موجودًا في كل عصر. لا كما أشار البعض إلى انه مرحلة في تاريخ الفكر لا تعدو أن تكون فوضى فكرية مرتبطة بطفولة الجنس البشري.

ويعلل ذلك بأن منشأ هذه الحاجة الوجودية هو الإنسانُ نفسه، إذ هو " الكائنُ الوحيد الذي لا يكتفي بوجود ذاته، فيشعر على الدوام بافتقاره إلى ما يثيري وجودَه، لذلك لا يكفّ عن الاتصال بمنبع لا محدود للوجود، يتكرّس به وجودُه الشخصيّ، ويظلّ يعمل كلّ حياته على توسعة وجوده وإغنائه، من خلال السعي على العثور على ذلك المنبع اللامحدود للوجود، فإنْ عجز عن الاتصال بالمطلق عاش حالةَ ضياعٍ واستلاب وجودي(6)."

ومن ثَّم، فان للدين وجود أصيل، ولكن الأهم هو في إمكانية عقلنته، أو بتعبير مصطفى ملكيان البحث عن "الدين المعقلن" فهذا الدين هو حق من جهة، ومصلحة من جهة أخرى. " فهو حق لأن بالإمكان إثباته منطقيًا والدفاع عنه، انه أرسخ أنماط الفهم العقلانية منطقًا. وهو مصلحة لأن الإنسان المعاصر لا يتقبل القراءات الدينيَّة الأصوليَّة والأيديولوجية(7).

بعبارة بديلة: أن أبرز سمات الإنسان المؤمن المعاصر هو التفكير النقدي والفهم العميق للظاهرة الدينية من دون أنّ تطوق هذه الممارسة النقدية بدين معين. وهو يقف في قبال التفكير التراثي أو الوراثي بمساراته المسدودة.

وتتم هذه العقلنة لقيم الدين وعقائده وشعائره بفضل ثلاثة عمليات: الأولى: إزالة التعارضات الظاهرية. والثانية: الملائمة بين النصوص الدينية المقدسة والمعطيات البشرية، فلا يمكن العمل على نسق ابن رشد الحفيد حينما أطلق نظرية الحقيقة المضاعفة، وقال بأن الإنسان إذا دخل مسرح الدين عليه الإيمان بكل ما يقوله الدين، وعندما يخرج من دائرة الدين إلى مضمار العلوم التجريبية والعقلية والفلسفية والتاريخية والشهودية فعليه أيضًا التسليم لكل ما تجود به هذه المعارف، وإذا تنافر هذان الصنفان من المعارف فلا يتوقف عند هذا التنافر بل ليقل: إن ثمة حقيقة مضاعفة. هذه النظرية لا تصمد أمام النقد، إذ من المتعذر على الإنسان إضمار قناعتين متضادتين في قرارة نفسه. وبالتالي لا مناص من توافق معطيات الوحي والعلوم البشرية.

الثالثة: أن النصوصّ الدينيَة لا بدّ أن تكون قادرة على ركوب كل الأمواج المعرفية، فتتناسب أو قل لا تتناقض مع العلوم والمعارف البشريّة في كل حقبة من الحقب(8).

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة

................

(1) صدر بالألمانية عام 1799م، وترجمه عن الألمانية: أسامة الشحماني، وصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، 2017.

(2) مكسيم رودنسون، الدراسات العربية والإسلامية في أوربا، بحث منشور في كتاب" الاستشراق بين دعاته ومعارضيه"، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، 62.

(3) يقول ويل وآريل ديورانت- الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي صاحب كتاب قصة الحضارة-: " لقد علّمنا التاريخ أنّ الدين له أرواح عدّة، وكلما فقد واحدةً منها ومات؛ عاد مجددًا إلى الحياة بروح جديدة. وإنّ الله والدين ماتا في التاريخ أكثر من مرّة ثمّ بُعثا من جديد. إخناتون استخدم كل قوى الفراعنة ليقتل دين آمون، لكن في خلال سنة واحدة من موت إخناتون تم استعادة دين آمون. انتشر الإلحاد بين الشباب البوذي، وبوذى نفسه أرسى ديانة ليس لها إله؛ لكن بعد موته تطوَّرت البوذية إلى ديانة معقدة لها آلهتها، وقساوستها وجحيمها." ويل وآريل ديورانت، دروس من التاريخ، ترجمة يوسف ربيع، الناشر: عصير الكتب – القاهرة، الطبعة الأولى- 2020م، 83.

(4) محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، 4/ 111.

(5) فراس السواح، دين الإنسان، الناشر: دار علاء الدين- دمشق، الطبعة الرابعة- 2002م، 20.

(6) د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، 270. وينظر: محمد مهدي شمس الدين، بين الجاهلية والإسلام، الناشر: المؤسسة الدولية للدراسات- بيروت، الطبعة الخامسة- 2000م، 2170- 218.

(7) مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، ترجمة: حيدر نجف، وعبد الجبار الرفاعي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، 5.

(8) مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، 11.

 

في المثقف اليوم